عن ورشة العمل “الحرية والمسؤولية في الشعر” في الجامعة اليسوعية معهد الآداب الشرقية- بيروت
حملت بيروت شعلة الثقافة والأدب، على مدى أعوام وامتدّ إبداعها إلى بلدان عدة، وكانت محطة للشعراء والأدباء، فطبعت بصمتها فيهم وتركوا أثرهم فيها. اليوم، تُثار إشكالية المشهد الثقافي اللبناني مقارنةً بما كان عليه في الماضي، وتشغل هذه الإشكالية العديد من النقاد والمبدعين والأكاديميين، لا سيّما في ما يتعلّق بنمو التجارب الشعرية الجديدة الشابّة التي تشكّلت تحت تأثير الظروف التي مرّت بها البلاد في السنوات الأخيرة.
وفي مقارنة للمشهد الثقافي والشعري خصوصًا، ننتبه إلى خفوت الأصوات الشعرية الشابة وهذا ما يطرح علامة استفهام حول تراجع دور لبنان في هذا المجال. فأين هم الشعراء الشباب الذين لطالما كانوا يصنعون تجربتهم الخاصة ويتفردون في بناء متخيل يحدث صدى يتردد في أرجاء الساحة الشعرية اللبنانية والعربية، كما كان الوضع في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
هذه الإشكاليات كانت مصدر نقاش وطرح جدي مع الدكتور سرجون كرم الذي اقترح في البداية القيام باستقصاء حول الموضوع في الصحافة الثقافية الأدبية. من هنا قمت بتحقيقين في ضفة ثالثة كانت ركيزتهما مجموعة من الأسئلة وجهتها إلى المبدعين والأكاديميين المهتمين بشؤون الشعر، فإلى أين يتجه الشعر في لبنان اليوم؟ أين هم الشعراء الشباب؟ إلام يحتاج الشعراء الشباب اليوم؟ ما الأسباب الكامنة وراء غياب حركية المواهب الجديدة؟ وهل من أسباب الأخرى؟ وفي الملف الذي أعددته لمجلة الحصاد وهو مقابلات مع الشعراء الشباب حول تجربة كل منهم وعن ممارساتهم الكتابية، طرحت عليهم مجموعة من الأسئلة التي تحاكي أفكارهم وهواجسهم وتبرز قصائدهم لينتقلوا في وقت لاحق إلى المشاركة في ورشة عمل شعرية تحت عنوان “الحرية والمسؤولية في الشعر” في الرابع والخامس من نيسان 2025، حيث تم تنظيمها من قبل معهد الآداب الشرقية في الجامعة اليسوعية بالشراكة مع مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية وKAAD ، وبالتعاون مع معهد الآداب الشرقية في جامعة إرلنغن – نورنبرغ وقسم الدراسات العربية – الإسلامية في جامعة بون.
تقدّم الشعراء الشباب بقصائدهم أمام اللجنة المؤلفة من: عميدة كلية الآداب في معهد الآداب الشرقية في الجامعة اليسوعية د. ندى معوض والشعراء والأكاديميين د. سرجون كرم (جامعة بون) والسيدة كورنيليا تسيرات (مترجمة لمشروع الشعر العربي الحديث إلى الألمانية). د. هنري زغيب والمحامي الشاعر شوقي ساسين (رئيس اللجنة الوطنية لليونيسكو) والبروفيسور جورج تامر(جامعة إرلنغن) بالإضافة إلى د. نيلز فيشر (مدير مكتب الشرق الأوسط في الهيئة الكاثوليكية الألمانية للتبادل العلمي الخارجي) الذي تواصل معهم عبر تطبيق “زوم” من ألمانيا ، ورئيس الهيئة الإدارية لمؤسسة شاعر الفيحاء د. سابا قيصر زريق الثقافية. وقد انضم إليهم الشاعر والأكاديميي د. ديزيريه سقال في اليوم التالي.
وشارك كل من الشعراء الشباب: أنطوان خليل، شربل عماد، رالف حداد، فضة شماس، فاطمة صباغ، جو القارح، ياسمينة مداح، مصطفى أمين، ومحمد قشمر.
ووجهت الدكتورة ندى معوض رئيسة لجنة الورشة الشعرية كلمة شكر وتقدير للكادر الإداري الداعم لوجستيًا لهذه الورشة وعلى رأسهم الدكتور طوني قهوجي والأستاذة نادين يمين، ورحبت بالموجودين مشيدة باللقاء الأدبي وأهميته خصوصًا وأن جامعة القديس يوسف العريقة قد احتضنته بمشاركة جامعات ألمانية عريقة وبدعم لوجيستي منKAAD، الممثّلة بالأستاذ نيلز فيشر. ومؤسّسة سابا زريق الداعمة الدائمة للمعهد وللشباب الشعراء والكتّاب الناشئين.
واعتبرت الدكتورة ندى معوض أن هذه الورشة هي فرصة للإلهام، وللتعلّم المشترك، وللتعبير الصادق وقالت “بهذه الورشة الشعرية نفتح معًا نوافذ الإبداع والتعبير، ونمنح الشعر المساحة التي يستحقها. اليوم نفتتح ورشة الكتابة، لا لتعليم الكتابة فحسب، بل لنحتفي بها، لنمارسها كفعل حرية، كأداة تفكير، وكوسيلة لفهم الذات والآخر.”
واعتبر البروفيسور جورج تامر الذي يشغل كرسيّ الفيلولوجيا الشرقية والدراسات الإسلامية، أن ورشة العمل التي تحمل عنوان “الحرية والمسؤولية” موضوع شائك فلسفيًّا. وقد جاء باسم جامعة فريدريش – ألكسندر في مدينتي إرلنغن ونورنبرغ في ألمانيا.
وتمحور حديثه حول معالجة الحرية والمسؤولية شعرًا فهذان المفهومان المذكوران يشغلان الأذهان والعلوم والفلسفة والأديان منذ انبلج فجر الفكر في دنيانا. فما إن وعى الإنسان ذاته ذا قدرة على التصرف، وعى تعدد الإمكان الذي بين يديه، وقدرته على الاختيار بين هذا وذاك وتلك، وعرف نفسه حرًّا في أخذ ما يأخذ، وترك ما يترك من أقوال وأفعال. لكنه وعى نفسه أيضًا غير مطلق الحرية. وتابع الدكتور تامر ثمة قيود تضعها الكينونة ذاتها، فما من إنسان يولد حين يشاء وأين يشاء وفي القوام الذي يشاء. في قصة الخلق في بدء سفر التكوين ممارسة الحرية عصيان أمر إلهيّ. وكأنّ الحرية لم تكن إلا لتكون مقيدة من سلطة فوق، وأنها موضوعة في تراتبية عمودية، فليست بلا رقيب. ثم اكتفى بالقول إن العلاقة بين حرية الإنسان وعدل الله أحجية في الأديان التوحيدية الثلاثة تتكسّر على تمنعها أمواج الفكر مهما عتت. وما من وحي يعين كون الانسان في جماعة يعقد العقدة. وقد أجمعت الفلسفات والأديان والشرائع على أنّ حرية الإنسان تنتهي عند حرية الإنسان الآخر، ويقيدها الحفاظ على النظام. كذلك الأخلاق، وهي وضع المجتمع، تضبط الحريّة. هنا تكمن أهمية المسؤولية الشخصية التي تجعل من الإنسان رقيبًا على ذاته، يدع حريته تسري في مجاري يحددها في سياقه الاجتماعي. المسؤولية مفهوم أخلاقي، جماعيّ المنشأ والتطبيق، أساسيّ لكبح جموح الحرية، واللامحدودية إغراؤها المستديم. من هنا دعا الشباب والشبان إلى شحذ القريحة الشعرية في معالجة علاقة الحرية والمسؤولية في قصيدة يأتي كل منهم بها في اليوم التالي للورشة الشعرية، بعد أن يكونوا قد استفادوا من خبرة اليوم. وقد تساءل حول الشعر على أنه مجال لهذه المسألة الفلسفية الطابع؟ ليخرج بفكرة مفادها أن الشعر الحق فكرٌ مجنّح بجمال الكلم والنغم، نافذٌ بالصورة والمجاز في العقل والقلب والإدراك، فهو خير وسيلة للنطق والتعبير.
ووجه الدكتور سرجون كرم كلمة إلى الشعراء الشباب وقد وعدهم بترجمة قصائدهم إلى اللغة الألمانية وضمّ هذه الأنطولوجيا إلى مشروع الترجمة الذي يشرف عليه في جامعة بون. وفي لمحة عن هذا المشروع يعتبر د. سرجون كرم إنّ فكرة الإضاءة على تجربة الشاعرات والشعراء الشباب اللبنانيّين قد نشأت أواخر عام 2023 في إطار مسارين متوازيين. فالمسار الأوّل هو مشروعه الذي بني على ترجمة الشعر العربيّ الحديث إلى اللغة الألمانيّة الذي يقوده إلى جانب المترجمة الألمانيّة والمتخصّصة في الدراسات العربيّة كورنيليا تسيرات، والمسار الثاني هو أكاديميّ يطمح إلى الإضاءة على هذه التجربة في محاضرات الأدب العربيّ الحديث في قسم الدراسات العربيّة والإسلاميّة في جامعة بون. إلى جانب ذلك فإنّ قسم الدراسات العربيّة في بون هو الوحيد بين الجامعات الألمانيّة الذي ينظّم فعاليّات شعريّة لعرض نصوص شاعرات وشعراء عرب مترجمة إلى اللغة الألمانيّة.
بعد الأزمة التي عصفت بلبنان بعد انفجار مرفأ بيروت وانهيار العملة والأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي رافقت ذلك، كانت هناك رغبة في الاطّلاع على مضمون نصوص الشاعرات والشعراء الشباب اللبنانيين.
وعن ولادة هذا المشروع يقول كرم إنه في البداية قرّر إجراء مسح ميدانيّ لمعرفة من هم وأين هم هؤلاء الشعراء. وكانت المفارقة أنّ فئة العشرين العمريّة شبه مغيّبة عن الساحة الثقافيّة بالقياس إلى الجيل السابق لها والذي كان ينشط خصوصًا في بيروت وأضحى الآن ناشطًا في الساحات الشعريّة والإعلاميّة والمسرحيّة والنقد الأدبيّ. فلم يكن من السهولة الوصول إلى هؤلاء الشعراء الشباب، كما حدث مع الجيل الشاب عام 2016. فالمسح الميدانيّ تمّ عبر التواصل مع أصدقاء شعراء وسؤالهم عن أسماء شعريّة شابّة يعرفونها، بالإضافة إلى سؤال أساتذة جامعيّين أصدقاء عن مواهب شعريّة على مقاعد الدراسة، أو التفتيش في مقاه أدبيّة ومحاولة الوصول إلى روّاد ظاهرة Poetry Slam في بيروت والتي تبيّن لنا أنّها خفتت بعد نشوئها. ويتابع المترجم كرم وقد ساعدتنا الشاعرة ليندا نصّار في بحثنا، إذ أثارت هذه القضيّة في تقريرين نُشرا في ضفّة ثالثة، العربي الجديد، واستمزجت آراء عدد من الشعراء والأساتذة في لبنان في ما يتعلّق بغياب الشعر الشبابي عن صورة المشهد الثقافيّ اللبنانيّ.
وفي بداية عام 2024 فاتحت مدير مكتب الشرق الأوسط في الهيئة الكاثوليكيّة للتبادل العلميّ الخارجي KAAD الدكتور نيلز فيشر وهو متخصّص في علم الأخلاق، بالإضافة إلى البروفسور جورج تامر الذي يشغل كرسيّ الدراسات الشرقيّة في جامعة إيرلنغن الألمانيّة، فرحّبا بالفكرة وعرضا دعمهما إقامة ورشة عمل للشعراء الشباب في لبنان. وقد قام البروفسور تامر بالاتصال برئيسة قسم الدراسات العربيّة في جامعة القديس يوسف في بيروت الدكتورة ندى معوّض التي رحّبت بالفكرة وقدّمت لنا إمكانيّة مشاركة قسمها في الورشة إلى جانب فتح أبواب القسم في الجامعة لاستضافة الورشة. وهكذا تمّ الاتفاق على إقامة ورشة عمل للشعراء الشباب تحت عنوان “الحريّة والمسؤوليّة” وقد كان من المقرّر إقامتها في صيف 2024، غير أنّ ظروف الحرب الأخيرة دفعتنا إلى تأجيلها إلى نيسان الحالي.
الجدير بالقول أنّهم قاموا بالترويج للورشة عبر وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعيّ فتقدّم إليها حوالي العشرين شاعرة وشاعرًا شابّا. وبعد تأجيلها تقلّص العدد إلى ثلاثة عشر.
ويضيف كرم، لقد كانت نصوص الشاعرات والشعراء المشاركين موزّعة على الشعر العموديّ والتفعيلة وقصيدة النثر والنصّ القريب من ظاهرة الـ Poetry Slam، غير أنّ الاستنتاج الذي خرجنا به أدهشنا بعض الشيء. وحول هذا الاستنتاج، تعقّب المترجمة كورنيليا تسيرات بالقول: أنّنا توقّعنا نصوصًا تعالج موضوعي الحريّة والمسؤوليّة بطريقة شاملة وناقدة للمجتمع والمنظومة بعد كلّ ما تعرّض له لبنان، غير أنّ الموضوعين تمت معالجتهما بشكل فردي وشخصيّ جدّا في القصائد، فلم يكن هناك إشارات إلى الحريّة في المنظومة أو إلى مسؤوليّتها. وهو ما يعكس بدوره الوضع السياسيّ والاقتصاديّ المتشظّي في لبنان وانكفاء الشعراء الشباب إلى الفرديّة المستقلّة والانفصال عن الواقع المحيط. وبدوره يضيف كرم، إنّ هذا التشظّي ظهر في بعض القصائد التي اعتبرت الشعر إطار حريّتها ومسؤوليّتها البحتة. وينسحب ذلك على الجو العامّ. فحتى مجمل النظرة النقديّة والأكاديميّة في لبنان ما زالت تعتبر أنّ الشعر يجب أن يكون موزونًا وتبحث في جمالية كلماته، ولا تعترف بشكل كبير بمصطلح قصيدة النثر، وهذا ما يجعلنا نتفكر في موضوع ما إذا كان شعر ما يلتفت إلى صحة التفعيلة وجمالية العبارات أم أنّ النصّ الشعريّ هو الإنسان، مهما تكن طريقة التعبير الأدبي.
وقد وعد الدكتور كرم الشعراء بترجمة جميع النصوص التي تمّت المشاركة بها في الورشة إلى اللغة الألمانيّة والتي ستصدر ضمن سلسلة مشروع ترجمة الشعر العربي الحديث إلى الألمانية.
أما الدكتور سابا زريق فقد أشاد باهتمام الهيئات غير العربية، بخاصة الألمانية، باللغة العربية بوصفها لغةً غنية بالآداب والعلوم، برغم قدمها الزمني، فهي تتجدد باستمرار وتفرض حضورها عالمياً. وقد أصبحت لغةً رسمية في الأمم المتحدة منذ عام 1973، ويُحتفل بها في 18 ديسمبر من كل عام. كما أبرز د. زريق دور الشعر العربي في التعبير الحر عن قضايا المجتمع والعاطفة، من الجاهلية حتى العصر الحديث، مشيراً إلى أهمية التزام الشعراء بالمسؤولية حتى لا يتحول الشعر إلى فوضى تُضر بالأدب. وتناول الدكتور ديزيريه سقال قضية الشعر والنثر من باب التعامل مع النص الذي يضم كل الفنون ففي النص الواحد مسرح وموسيقى وشعر… وهذا ما يجعله منفتحًا على النظريات الحديثة التي يشتغل عليها الغرب اليوم. وقدّم الشاعر شوقي ساسين، رئيس اللجنة الوطنية للأونيسكو، ملاحظات شكلت قيمة مضافة للشعراء الشباب الذين عرضوا قصائدهم. أما هنري زغيب الشاعر الذي كان يدقق باللغة والأوزان الشعرية وأساليب الكتابة، فقد كان مع اعتماد الوزن في الكتابات الشعرية، معتبرًا أن الشعر شعر والنثر نثر. وكانت الأمثلة كثيرة عن الشعر الذي يزاوج بين المحسوس وغير المحسوس، ودعا الشعراء إلى كتابة ما لا يتوقعه القارئ وما يدهشه فبهذه الطريقة يحصل المتلقي على ذهب الشعر والأمثلة كثيرة على ذلك بما فيها شعر: الرحباني وسعيد عقل وغيرهم…
ختامًا لقد خرج الشعراء الشباب بانطباعات مختلفة وبعد معالجة الشعر من زوايا نظر متعددة كانت الخلاصة العودة إلى اللغة وخصوصًا من خلال القرآن الكريم، والتعمّق في التراث الأدبي والشعري كأبي تمام وأبي نواس والمتنبي وامرئ القيس والبحتري… فمهما تقدم العصر وتطور يبقى التراث ركيزة أساسية للشعر والإبداع.