الكاتبة والروائية اللبنانية (نجوى بركات) مؤسسة محترف “كيف تكتب رواية” عملت كصحفية حرة في الصحف والمجلات العربية، كما أعدت وقدمت برامج ثقافية في الإذاعات الدولية، إلى جانب إنجازها عددًا من السيناريوهات الروائية والوثائقية.
كتبت نجوى بركات ثمان روايات حاز بعضها على جوائز، ترجمت إلى لغات أجنبية عدة، منها رواية “باص الأوادم” الحاصلة على جائزة أفضل عمل إبداعي عام 1996 و”رواية يا سلام” و ” لغة السر” التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة” فيمينا” الفرنسية للأدب المترجم واللائحة القصيرة لجائزة الأدب العربي في فرنسا 2015، ورواية “مستر نون” التي وصلت إلى القائمة الثانية لجائزة فيمينا الفرنسية للأدب المترجم، اللائحة القصيرة لجائزة الأدب العربي في فرنسا 2021. كما شاركت في العديد من لجان التحكيم الأدبية العربية والأجنبية، وحاضرت في عدد من البلدان العربية والأجنبية. وكان لنا معها هذا الحوار الحصري لمجلة الحصاد.
الحصاد: بدايةً، دفعكِ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية إلى الهجرة لباريس عام 1985 كيف أثرت هذه التجربة الجذرية في تشكيل هويتكِ ككاتبة وفي رؤيتكِ للعالم الذي يتجلى في أعمالكِ الروائية؟
نجوى بركات: كانت تجربة السفر إلى باريس تجربة ثرية وقاسية في آنٍ واحد. قاسية لأنها جاءت في وقت كنت فيه أغادر لبنان، بينما كانت الحرب الأهلية لا تزال مشتعلة، ولم تكن وسائل التواصل كما هي اليوم. كانت خطوط الاتصال كثيرًا ما تنقطع، والقصف مستمر، والخوف يسيطر. خوف على الأهل، الأصدقاء، وعلى الوطن بأسره.
لكن في المقابل، كانت تجربة غنية جدًا، لأن باريس آنذاك كانت لا تزال مركزًا عالميًا في شتى المجالات، وملتقى لثقافات وفنون متعددة في المسرح، والرقص، والأدب، والترجمة، وغيرها. كانت بحق مدينة محورية في الثقافة الأوروبية والعالمية. أضف إلى ذلك مسألة المواجهة مع “الآخر”، ذلك الآخر الذي قد ينظر أحيانًا نظرة محدودة أو سلبية إلى القادم من مكان مختلف. ومع ذلك، كانت تلك المواجهة إيجابية من جهة أخرى، إذ جعلتني أتعرف إلى ثقافتي وهويتي بشكل أعمق؛ فحين تتقابل مع الآخر ويسألك السؤال من أنت؟ تبدأ أنت أيضًا بطرح السؤال ذاته عن ذاتك وثقافتك ولغتك.

الحصاد: لديكِ خبرة واسعة في مجال الصحافة والإعلام المرئي والمسموع، إلى جانب مسيرتكِ الروائية. كيف تتقاطع هذه الخلفية الإعلامية مع عملكِ الروائي؟ وهل ترين أن تجربتكِ في برنامج “مطالعات” الثقافي، الذي يستعرض الإصدارات الأدبية والفكرية، قد أضافت بعدًا جديدًا لفهمكِ للعلاقة بين الكتب والقارئ؟
نجوى بركات: في الحقيقة لا أدري إن كان يمكنني القول إن لدي تجربة إعلامية بالمعنى التقليدي، فأنا أقرأ وأجري الحوارات بصفتي كاتبة قبل أن أكون إعلامية، يمكن القول إن البرنامج الذي أقدّمه هو نوع من “الورطة الجميلة”، لأنني شعرت بوجود كمٍّ هائل من الإنتاج الأدبي في عالمنا العربي دون اهتمام كافٍ به، خاصة مع تراجع الصحافة الثقافية في المجلات والجرائد. فكان لا بد من وجود فكرة لبرنامج يكون فيها الكتاب نفسه هو النجم، لا الكاتب فقط. أتابع من خلاله الإصدارات الجديدة في مجالات الرواية، الشعر، علم الاجتماع، والتاريخ، مع انحياز واضح للأدب الذي ما زال يحتل الحيز الأكبر ولا أنكر أنني أكتب في الصحافة وقد، عملت في العمل الإذاعي في فترة وكنت في باريس أعمل كمعدة برامج.
لكنني لا أرى أنني أنتمي إلى الصحافة بمعناها السائد حاليا، بل إلى صحافة النقاش والحوار والبحث، ولهذا أرى أن لقب “إعلامي” أصبح ملتبسًا ومفردة إعلامي تؤرقني في بعض الأحيان لأنها كلمة مستهلكة فرغت من معناها الحقيقي، فبات أي إنسان يطلق على نفسه صفة إعلامي. أنا قبل كل شيء كاتبة، وكل ما أقوم به من مهام أخرى يندرج تحت هذه الهوية، مع إيماني بأن الكاتب في الأصل قارئً قبل أن يكون كاتبا.
الحصاد: عرفت الكتابة بأنها: “ليست مجرد إنتاج روايات بقدر ما هي إنتاج أسئلة وسعي لأن تعرف”. في ظل هذا التعريف، ما هو السؤال الأكثر إلحاحًا الذي يشغلكِ الآن ككاتبة وإنسانة؟
نجوى بركات: من الصعب جدًا أن يعرّف الكاتب عملية الكتابة بطريقة واحدة أو يختصرها في تعريف محدد. فاليوم قد أراها فعلا معرفيا، وغدًا طرحًا لأسئلة على العالم، وبعد غدٍ ربما اعتراضًا على تراجيدية الحياة ومأساة الوجود الإنساني. الكتابة في جوهرها مزيج من كل ذلك، لا يمكن حصرها في معنى واحد أو تحديدها بإجابة نهائية
السؤال الذي يشغلني اليوم أكثر من أي وقت مضى، و بعد فترة طويلةٍ كان فيها اهتمامي منصبًا على أسئلة العنف والقسوة، وهي مواضيع تناولتها في رواياتي مثل لغة السر وباص الأوادم ويا سلام، أصبح سؤال الضحية والأثر الذي يخلّفه العنف في أعماق الإنسان هو شاغلي الأكبر.
لم أعد أتناول المسألة من منظورٍ نفسي، بل من زاويةٍ روحية وأخلاقية. ما يشغلني اليوم هو الخراب الداخلي، خراب الروح تحديدًا؛ لأن ما نعيشه وما هو مرشّح للاستمرار، يرتبط بالحروب والاحتلالات والإرادات والمجازر، لا أدري إلى أي حد يستطيع الكاتب أن يحمي قلمه أو ذهنه أو حتى روحه من هذا المحيط المليء بالموت والدمار؟
السؤال الذي يطاردني هو: ما الذي سيتركه كل هذا الخراب في داخلنا؟
إنه أثر المقتلة الجماعية التي نحياها يوميًا، والتي لم نعد نستطيع الادعاء أننا نجهلها. فصور المآسي تُعرض أمامنا باستمرار، من غزة إلى العراق ولبنان وسوريا شريط الأخبار لا يتوقف، وشريط الصور لا ينتهي.
وأتساءل: هل وصلنا إلى مرحلةٍ من التبلّد جعلتنا نعتاد هذا الموت القبيح؟
هل أصبح اغتيال الحياة مجرد تفصيل ثانوي نمرّ به ثم ننسى فظاعته شيئًا فشيئًا؟
الحصاد: وصفتِ علاقة الكاتب بالشخصية الروائية بأنها “ملتبسة”، وكأن الشخصية تسيطر على الكاتب وتوضح أسراره.
نجوى بركات: أنا أؤمن إيمانًا راسخًا بأن الشخصية هي عماد العمل الروائي. فاختيار الشخصية، وبناؤها، وتحويلها إلى كائنٍ ينبض بالحركة والكلام والمشاعر، هو الشرط الأول لنجاح الرواية. يليه بطبيعة الحال اللغة والأسلوب والبناء السردي.
ومن خلال تجربتي ككاتبة، وكذلك من خلال عملي كمؤسسة ومديرة محترف «كيف تكتب رواية»، كنت أؤكد دائمًا لطلابي أن الشخصية الروائية التي لا تتمرد على كاتبها في مرحلةٍ ما هي شخصية غير مكتملة البناء.
الحصاد: هل تفاجئك أحيانًا شخصيات الرواية، شاركينا تجربتك الشخصية حول كيف فاجأتكِ إحدى شخصياتكِ الروائية باكتشاف لم تتوقعيه، وماذا تمثل لكِ الشخصية الروائية بشكل عام، وما مدى علاقة الكاتب بها؟
نجوى بركات: نعم، شخصياتنا الروائية تفاجئنا أحيانًا، لأننا بعد أن نؤسسها ونتعرف إليها من الداخل والخارج، تبدأ هي بقيادتنا. تصبح هي محرك الحدث ومادة السرد، وعندما تصل إلى هذه المرحلة، فهذا يعني أنها أصبحت حيّة فعلاً.
يحدث حينها حوار خفي بين الكاتب والشخصية، فإذا حاول أن يدفعها نحو سلوك لا ينسجم مع طبيعتها، فإن صوتها الداخلي في النص يحتجّ، كأنه يقول له: أنت تسير بي في الاتجاه الخاطئ.
ولهذا أعتقد أن معظم الكتّاب يتفقون على أن الشخصية الروائية الحقيقية يجب أن تفاجئ كاتبها، وأن تتولى هي بنفسها دفة الكلام في نهاية المطاف.
يمكنني القول إن الشخصيات الروائية التي نعتقد أننا اخترعناها، في الحقيقة تظل تعيش فينا وترافقنا في أعماقنا، حتى بعد أن نرسم لها مصيرًا قاسيًا أو نهاية مأساوية. فحتى حين نغلق الكتاب وننهي الرواية بموت الشخصية أو رحيلها، تبقى حاضرة في وجداننا.
على سبيل المثال، شخصية لقمان، بطل رواية يا سلام، كانت من الشخصيات التي فاجأتني كثيرًا. هو مقاتل ميليشياوي استفاد من الحرب، عاش كمرتزق، ورغم أنني أنهيت الرواية بموته، لم يغادرني أبدًا ككاتبة. وبعد عشرين عامًا، وجدته يعود إليّ مجددًا في روايتي مستر نون.
في هذه الرواية، صوّرت كاتبًا يعيش مع أشباح شخصياته التي خلقها، ويفاجأ بأن إحداها – وهي شخصية شريرة ظنّ أنه قضى عليها في النص – ما زالت حية في الواقع. هذا الاكتشاف يقوده إلى نوع من الهذيان المؤلم، لأنه يشعر بأن الواقع تجاوزه، وأن ما كتبه لم يكن سوى ظلّ لحقيقةٍ سبقته.
هكذا استعَدت شخصية لقمان بعد عقدين من الزمن، لأرسم من خلالها صدمة اللقاء بين الخيال والواقع، وبين الكاتب وأشباحه التي لم تمت فعلاً.
الحصاد: ذكرتِ أن الكتابة “لعنة ونعمة، هي نار تشتعل في داخل الكاتب وعليه أن يعرف كيف يهدئ سعيرها كي لا تأكله من الداخل”. كيف تتعاملين مع هذه “النار الإبداعية” للحفاظ على توازنكِ ككاتبة؟
نجوى بركات: الكتابة بالنسبة لي هي لعنة وبركة في آنٍ واحد. فما زلت حتى اليوم أرى الكتابة نارًا تشتعل ببطء في الداخل، مثل جمرٍ يحرقك بهدوء دون أن ينطفئ. فعندما أكتب، كثيرًا ما لا أشعر بالرضا الكامل، وحين لا أكتب، أحسّ أنني كائن منقوص، ينقصني شيء جوهري، كالأوكسيجين الذي يحتاجه الجسد.
لقد كتبت نصا بهذا المعنى: ماذا سيحدث للعالم إن توقفتُ عن الكتابة؟ ينتابني هذا الشك بشكل خاص حين أستحضر أثر الكبار الذين تركوا بصمتهم في الأدب. غريبة هي حكاية الكتابة، أنت مدعوّة لأن تتحلّي بثقة راسخة في النفس، وبقدرة على خلق شيء ذي قيمة، وفي الوقت نفسه أنت ابنة الشك والقلق والحيرة، وتخافين ألا تكوني على قدر الإبداع الذي تتطلعين إليه.
وفي زمنٍ بات فيه الأدب والمعاني الجمالية عرضة للاستهلاك والتسخيف، يصبح الشعور بالتيه والضياع أمرًا طبيعيًا، وكأننا نحاول التمسك بجدوى الكتابة وسط عالمٍ لم يعد يصغي كما كان يفعل في السابق.
في مستر نون حاولت أن أتعامل مع هذه المحنة من خلال كاتب يبتكر شخصية شريرة ويتخلص منها داخل الرواية، لكنه يكتشف أنها ما زالت تسكن أعماقه. هذا أحد وجوه الرواية، وهو أيضاً أحد وجوه الكتابة نفسها. كذلك في الرواية الأخيرة غيبة مي، حيث تعود اشباح الماضي لتفرض وجودها على امرأة ثمانينية تعيش وحيدة. فالكتابة ليست فعلاً بريئاً كما يظن البعض، فهي تحفر عميقاً في الروح وتكشف ما بداخلها من ظلمة وغرائز. لذلك أقول إن الكتابة لعنة، لأنها تخرج منّا كل ما نحاول إخفاءه
الحصاد: أسستِ “محترف نجوى بركات” للرواية، والذي يهدف إلى صقل المواهب الشابة وتخليصها من القوالب النمطية. ما هي أبرز التحديات التي تواجه الكتاب العرب والشباب اليوم؟ وكيف ترين دور هذه الورش في تشكيل مستقبل الأدب العربي؟
نجوى بركات: أن تكون الكتابة مبدعة أو خلاقة بالمستوى المنشود لم يعد أمراً يسيراً في زمنٍ يشهد انفجاراً في الإنتاج الأدبي، حتى باتت الكتابة تُفرغ من معناها وتُسخف، مما يجعلنا نشعر بالتيه وسط حقلٍ يزخر بالأشكال والألوان، القليل منها مثمر، بينما تكثر فيه الحشائش الضارة. هذا الواقع قد يصيب الكاتب بالإحباط ويزيد من شعوره بالعزلة، ناهيك عن المعاناة التي يعيشها الكُتاب اليوم في ظل هذا المشهد المربك.
معاناتنا ككتّاب عرب هي أننا للأسف لا نعيش من كتاباتنا. الكاتب العربي محتاج بشكل دائم إلى أن يكون لديه عمل معيشي. يجب أن يكتب للصحافة أو أن تكون له وظيفة تدرّ عليه ربحًا ماديًا ليتمكن من العيش بشكل لائق، لأن الكتابة لا تُطعم خبزًا في العالم العربي، وهذه مأساة حقيقية.
لديّ أصدقاء من جنسيات غربية يعتاشون من كتبهم، وليس بالضرورة أن يكونوا من كتاب الصف الأول، وهذا ما يجعل الأمر أكثر إيلامًا. فالمأساة أن الكاتب العربي يعيش بطاقةٍ موزّعة بدل أن تتركّز على عمله الإبداعي، ويُضاف إلى ذلك هذا الشعور القاتل بالذنب والسعي الدائم لسرقة الوقت كي يتسنى له أن يفرغ لنفسه ويخصّص وقتًا للكتابة. لقد أصبح الأمر يُقاس بالساعات والدقائق لا بالأيام، هذا صراعٍ يشبه صراع بروميثيوس، بمعنى من أين آتي بالوقت كي أنصرف إلى عملي ككاتبة؟ وكيف لي أن أوازن بين العيش والكتابة؟
الحصاد: هل كانت ترجمة كتبك للفرنسية عملية سهلة. وما هي التحديات التي واجهتك أو واجهت المترجم في نقل هذا العمل إلى لغة وثقافة أخرى؟
نجوى بركات: من محاسن الترجمة أن يُتاح للنص العربي الجيد أن يُترجم ويخرج إلى العالم، حيث يمكنه أن يحقق حضورًا لافتًا. . .لدينا كتاب عرب مهمون، ولدينا أعمال أدبية رفيعة، لكن للأسف حركة الترجمة لا تخدمنا كما يجب. أولًا، لأن الدول العربية لا تمتلك مؤسسات أو جهات ثقافية تتبنى ترجمة الأدب العربي بالشروط المناسبة، ولا تضمن له حضورًا في المعارض والفعاليات العالمية. وثانيًا، لأن هناك ضعفًا في نوعية الأعمال التي تُترجم أحيانًا، إضافة إلى أن بعض المترجمين مع كامل احترامي لهم لا يمتلكون دائمًا الأدوات الكافية لنقل النصوص الأدبية العربية بأفضل صورة
لقد اشتهرت بعض الترجمات أو نالت جوائز، لكنها ليست دائمًا ذات نوعية ممتازة. نحن نُعامل كأدب لا يحظى باهتمام كافٍ من العالم، لكننا أيضًا مسؤولون عن ذلك، ولسنا أبرياء تمامًا. لا ينبغي أن نقول إن الغرب يحتقر العرب أو يعادي الإسلام فحسب، بل علينا أن نسأل أنفسنا: ماذا نفعل نحن لتقديم صورة مضيئة عن ثقافتنا، وعن أدبنا، وعن كُتّابنا؟
حين يحدث خطأ ما، من المهم أن نبحث عن سببه ومسؤوليتنا فيه، بدلًا من إلقاء اللوم بالكامل على الطرف الآخر.
تُرجمت رواية لغة السر إلى الفرنسية، كما تُرجمت أعمال أخرى لي إلى الإنجليزية والإيطالية وغيرها. كانت لغة السر تحديداً رواية تتطلّب جهداً خاصاً، وقد قال لي الناشر فاروق هناك شخص واحد فقط قادر على رفع هذا التحدي، وهو فيليب فيجرو..
وعندما عُرض عليه المشروع وأطلع على الرواية، أحبها وقرر ترجمتها. تتناول الرواية علم الحروف، وتستخدم أشكال الحروف العربية ضمن سياقها السردي، وفيها معجم خاص، وأجواء صوفية، واقتباسات من ابن عربي. حتى وأنا أكتبها لم أكن أدرك تماماً بعض معانيها، فـالفتوحات المكية عمل معقّد وصعب القراءة، خاصة في الأجزاء التي تتناول الحروف وخواصها.
المترجم كان مبدعاً بحق؛ فعندما أنهى المسودة الأولى وأرسلها لي لقراءتها، شعرت بشيء من الخوف وأنا أقرأ الصفحات الأولى، خفت أن يخون النص، لأني أتقن الفرنسية جيداً. لكن عندما تابعت القراءة، لم أتمالك نفسي وبكيت؛ إذ كان جمال النص بالفرنسية يوازي الجهد الذي بذلته في كتابته بالعربية. كانت مفاجأة مؤثرة وجميلة جداً.
بشكل عام، أنا أكنّ احتراماً كبيراً للترجمة وللمترجمين، وكنت مصممة في برنامجي مطالعات على تخصيص فقرة لهم تقديراً لدورهم، لأن المترجم هو حقاً جسد التواصل، وجسر المعرفة، وصاحب ثقافة عميقة. فالمترجم الجيد ليس ناقلاً للغة فحسب، بل هو مبدع ينقل روح النص وثقافته. الترجمة عمل راقٍ، ضروري وأساسي في حياتنا الثقافية، وأنا أُجلّ كل مترجم محترف ينجز عمله بشغف وإخلاص.
الحصاد: في رواية “مستر نون”، تداخل الواقع مع الخيال وتناوبت الأزمنة بين الماضي والحاضر، مع مفاجآت مستمرة للقارئ. هل كان لديكِ قرار منذ بداية كتابة الرواية بصناعة عمل لا يكشف عن نفسه إلا مع النهاية؟ وما مدى أهمية هذا النوع من البناء السردي في إشراك القارئ؟
نجوى بركات: من الصعب على أي كاتب أن يكشف عن أدواته أو عن رحلته في الكتابة، فهي رحلة مليئة بالصعود والهبوط، بالمنعطفات والمطبات. لكن بالنسبة لسؤالك، نعم، حين كتبت مستر نون كان هدفي الوصول إلى هذا الكشف الأخير. كنت أريد أن يقرأ القارئ الرواية مرة ثانية بعد أن يُنهيها، أن يعيد في ذهنه ما قرأه تحت ضوء جديد.
بعض القرّاء رأوا فيها رواية نفسية، وأنا أعتقد أنها في جوهرها تتحدث عن تعقيد فعل الكتابة نفسه، وعن الكيفية التي يعيش بها الكاتب أحياناً مع أشباح يخلقها بيده. نحن، الكتّاب، لا ننجو تماماً مما نكتب، فكيف إذا كان ما نكتبه مشبعاً بالسوداوية والقسوة؟
أما شخصيات رواية يا سلام كانت تدور حول الحرب اللبنانية، إلا أن رواية مستر نون فهي عودة للأسئلة التي بقيت بلا إجابات بعد مرور أكثر من عقدين على انتهاء تلك الحرب. فالحروب لا تنتهي بانتهاء إطلاق النار، لأن من عاش فظاعتها لا يمكن أن ينجو منها فعلياً. إنها تجربة تكشف أبشع ما في الإنسان من عنف وقبح.
الحصاد: نلاحظ في بعض كتاباتكِ أنكِ تتركين المكان مجهولاً أو غير محدد بشكل واضح. لماذا تختارين هذا النهج في السرد؟ وما هي الدلالة التي ترغبين في إيصالها من خلال ذلك؟
نجوى بركات: في مرحلةٍ ما، كنت أجد صعوبة في تسمية الأمكنة في رواياتي؛ فمثلاً في باص الأوادم أو يا سلام التي تتناول بيروت، تجنبتُ ذكر اسم المدينة صراحة، وكذلك في لغة السر اخترعتُ اسم قرية غير موجودة على الخريطة.، قرية اليسر.
ربما تعود هذه الحساسية تجاه الأسماء إلى تجربة الحرب الأهلية التي عشتها في بدايات المراهقة، إذ علّمتني الحرب أن الأماكن، مثل البشر، يمكن أن تموت أو تهرم أو تُدفن.
لقد أصبحت أخشى الأسماء لأنها في زمن الحرب كانت تُحدّد الانتماءات؛ فمجرد أن يُقال “علي” يُفهم أنه من الطائفة الشيعية، و”أنطوان” يُنسب إلى الطائفة المسيحية. لم تكن المشكلة في الانتماء نفسه، بل فيما تستتبعه الأسماء من تصنيفات سياسية وهويات طائفية قاتلة.
من هنا، سعيتُ إلى خلق فضاءٍ سرديٍّ محايد، أستطيع فيه تحريك شخصياتي بحرية، من دون أن تُقيّدهم تلك التصنيفات التي كانت في الحرب للموت.
