الرواية العربية بين النمذجة والتحوّل

بيروت من ليندا نصار

يستطيع الأدب اختراق كلّ زمان ومكان وتكسير القوالب الجاهزة من خلال تجاوز المواضيع القديمة. فالرواية العربية قطعت أشواطا مهمة في بناء خصوصيتها بدءا من الجيل المؤسس الذي استطاع أن يدخلها في خانات المحلي وينطلق بها نحو فضاءات مختلفة من العالم، غير أن ثمة مرحلة عادت لتتقوقع حول نفسها وتدور في الاستعارة التي لم تواصل بناء ما قام بتشييده جيل من الروائيين العرب على الرغم من بروز تجارب روائية جديدة خلخلت كل الثوابت التي قامت عليها، ومنحتها خصوصيات على مستوى بناء رؤى مفارقة للتحولات التي يعرفها الواقع العربي. والأسئلة المطروحة هنا هي:

إلى أيّ مدى نجحت الرواية العربية في الخروج من أشكال الرواية العالمية

وهل قام الروائي العربي بتبيئها؟ هل استطعنا أن نواصل ما بدأه الجيل المؤسس؟

بالنسبة إلى الأكاديمي الناقد عبد اللطيف محفوظ :

إن الرواية العربية، منذ البدايات، محكومة بالشكل الغربي، وإن حرية الكُتَّابِ العرب محدودة.

بالنظر إلى التطور الطبيعي للأجناس الأدبية، يتبين أن أشكالها، حالما تتجاوز عثرات البدايات، تصير قيودا مفروضة، إما نتيجة تحولها إلى إبدالات محدودة توحد أفق انتظار المتلقين الذين لا يمكن لكاتب أن يستبعد استعداداتهم؛ أو نتيجة رسوخها في لا وعي التفكير في الكتابة وفق سنن أجناسي ما، حيث تصير الأشكال محايثة للتفكير وشارطة له.

وإذا كانت حدود مطابقة هذا الرأي لحقيقة تطور الأجناس نسبية نظرا لكون أشكال بعضها أقل تقييدا لمضامينها، فإنها أكثر توصيفا لمسار جنس الرواية، ربما، لأنها مشروطة بوجود حكاية يحكمها منطق واضح، بدونه لا يمكن أن تُشَكِّلَ مصدر إمتاع أو إقناع، وأن البدايات قد وفرت لتلك الحكاية الغيرية عددا من إبدالات التجسيد الإظهاري، التي إذا خرقتها ستفقد مسوغ انتمائها إلى الجنس الروائي، وربما تفقد حتى مسوغ قبولها بعدِّها نصا فنيا.

لذلك يمكن القول إن الرواية العربية، منذ البدايات، محكومة بالشكل الغربي، وإن حرية الكُتَّابِ العرب محدودة، من جهة، بتنويعات الغرب لأشكاله، ومن جهة ثانية، بالمضامين التي تستثمر في تجسير تلك الأشكال فنيا، والتي تشكل، بالضرورة، عوالم مختلفة، تفلح، أحيانا، في تفنيذ تصورات الأستاذ عبد الله العروي حول الفن الروائي العربي الذي عَدَّهُ مجرد استعارة للرواية الغربية حين عد كتابات نجيب محفوظ نسخا لكتابات الواقعية الفرنسية (واقعية بالزاك تحديدا)، إذ لاحظ – بشكل يصعب الموافقة عليه – أنه لم يتغير من الرواية الواقعية الفرنسية ما هو جوهري، وإنما تغير المظهر (أسماء الحواري والشخوص والعادات…).

إن تغيير العوالم، على الرغم من بقاء الأشكال، قد منح الرواية العربية إمكانات واسعة للتعبير عن قضايا متعددة تهم الوجدان، والهوية، والصراع بأنواعه المختلفة السياسية والاجتماعية، وللمساهمة، أكثر من ذلك، في إنتاج روايات معبرة بعمق عن بنيات الاختلال المحايثة التي تحكم أشكال فكرنا وتَفَكُّرِنَا، وتَمْنَعُنَا من النهوض الحقيقي… لذلك يمكن القول إن الرواية العربية، وإن كانت تستعير، في مجملها، الأشكال والعوالم من الرواية الغربية، فإن النصوص التي تعرف كيف تُخْضِعُ الشكل للموضوع الذي تقترحه العوالم المحلية المجسدة لأسئلة الذات العربية، تقدم روايات تؤسس لأصالة ممكنة. بيد أن هذا الصنيع لا يضمن لها – مع ذلك – أن ترتقي إلى مصاف الرواية العالمية كي تنتقل من طور التأثر إلى طور التأثير، لأن ذلك مشروط، فيما يبدو، بالقدرة على إحداث تحويل جذري في الأشكال التي من شأنها أن تعدل من قواعد الجنس، ولا يمكن أن يتحقق، ذلك، بالاقتصار، فقطـ، على عرض عوالم غريبة يضفي عليها الواقع، أحيانا، استعارات عفوية مدهشة، فتبدو، وهي تترجم، كما لو كانت تخييلا غريبا ومدهشا.

أما المسافة الجمالية التي يمكن أن نلمسها بين البدايات الأولى بسوريا خلال القرن التاسع عشر أو بمصر بداية القرن العشرين، وبين التجارب الروائية الناجحة الآن، فمسافة شاسعة، تؤكد، بشكل قاطع أن التراكم الكبير قد ساهم في تطور نوعي جمالي ومعرفي مبهر.

ويناقش الكاتب خليل صويلح هذه الإشكالية قائلا:

 »ولكن لماذا على الرواية العربية أن تؤسس شكلها خارج إطار الرواية العالمية؟ على الأرجح ينبغي أن يكون السؤال: ماذا أضافت إلى مخزون الرواية العالمية؟ وإلا ينبغي أن نتساءل: هل تمكّنا عربياً من صناعة آلات نسيج لا تشبه ماصنعه الانجليز؟  لطالما كانت عبارة رولان بارت  »لا توجد كلمة عذراء« بوصلة في فك الاشتباك بين الهويات السردية، فالمسألة تراكمية في المقام الأول، ولا تحتاج إلى فرز حاسم وصارم إلا في ما يخص أصحاب الهويات المهزومة. لماذا لا يشعر أحفاد موليير أو شكسبير أو سرفانتس بالنقص المعرفي حين يلجأ أحدهم إلى مديح  »ألف ليلة وليلة«؟ ولماذا عليّ أن أشعر بالارتباك حيال مقترحات روايات الآخرين؟ لنكف عن هذا التأصيل والبحث عن شجرة نسب قبلية، ذلك أن خصوصية الرواية العربية تتعلق باللغة فقط، وتالياً، فإن أي رواية مكتوبة باللغة العربية لا تشبه سواها من الروايات المكتوبة في اللغات الأخرى، إنما تحمل هويتها الخاصة، وتراكماتها السردية حقبة وراء الأخرى«.

يصعب تأطير الرواية العربية في بيئة واحدة، نظراً لتعدد البيئات، سواء ما يتعلق بالمتن الحكائي أو السلالة السردية، كما أن تعدد البيئات وتجاورها وتنابذها يثري الفضاء الروائي، ويفتح قضبان القفص الضيق نحو فضاء مفتوح، ففي الزمن العولمي لم يعد صالحاً استعمال المحراث اليدوي في كشف الكنوز المدفونة تحت الصخور، تحت بند الانتصار للبيئة المحلية. شخصياً لا يمكنني نبذ بيئتي، طالما أنا أعيش في دمشق وأتنفس هواءها، لكن ريح العولمة لا بد أن تهبّ من هنا أو هناك، كمحصلة لتحولات لا تحصى، وفي خليط هائل من الأفكار يدور في الرأس. ثم هل هناك بيئة صافية كي ندوّنها بدون شوائب؟

لقد قطعت الرواية العربية الجديدة مسافات طويلة بعيداً عن مقترحات الرواد، وأضافت مقترحات سردية مهمة ولافتة، ذلك أن قيمة ما أنجزه معظم الرواد تاريخية أكثر منها جمالية، فقد برز هؤلاء بسبب الندرة وليس النوعية، وأظن لو صدرت بعض هذه الأعمال اليوم لما أثارت انتباه أحد، على عكس الأعمال اللاحقة، ولعل المعضلة نقدية، إذ لا مواكبة نقدية للرواية المكتوبة اليوم. هناك فقط لهاث وراء روايات الجوائز، ومعظمها لا تمثّل القيمة الجمالية للكتابة الروائية«.

ويقول الكاتب اسماعيل غزالي:  »ليس عيبا إن استعارت أشكالها من المصادر الكونية للسرد«

آن لهذه النظرة المرتابة إلى الرواية العربية أن ترتكن جانبا على قارعة السؤال، فليس ادعاء أو من قبيل الزعم، الجهرُ والإفصاح، بأن الرواية العربية الآن، حقّقت جماليات نوعية متحولة، ومنزاحة، ذات تنوع وتعدّد وتشعّب، وعلاماتُ خصوصيتها دامغة.

ليس عيبا إن استعارت أشكالها من المصادر الكونية للسرد، لأنها جزء من كل، وبصورة من الصور الخلاسية تنتمي إلى هذه الشجرة العالمية وليست خارجة عن نسابة قيمتها الجمالية، كيفما كانت غائرة في محليتها، غير أنّ العيب هو أن ترتهن وتراوح مكانها في هذا العمل الاستعاري على نحو نمطي ودائم… بالمقابل ثمة تجارب فاتنة، لا تشبه إلا نفسها خرجت عن هذا التقليد الشائع حدّ الابتذال، وأسست لفرادتها الغريبة، وهويتها المدهشة باستقلال عن شرك المحاكاة والاشتباه بما هو نموذجي في هذه المصادر العالمية المنهمرة من كل صوب وحدب…

أشياء خطيرة حدثت في منحى الرواية العربية، والنقد العربي إما كسول أو جبان، في متابعة خطوط انفلات هذه الكتابات الجديدة، ذات المغامرة القصوى، والمجازفة العاتية فيما وراء الحدود التي انتهى إليها الجيل المؤسس بحسب تعبيرك.

المسألة لا علاقة لها بالتفاؤل هنا أو التبشير، وإنما ما أطلع عليه شخصيا، وفق ذائقتي الخاصة، نعم، قرأت وأقرأ لكتابة روائية مختلفة، ومغايرة ومتحولة جذريا، برغم قلتها، وهذا الطبيعي في العمل الروائي حتى عالميا، لأن الجدة والنوعية والخلق المغامر والجديد الذي يحدث رجة في الخرائط أو يفتح طرقا غير مألوفة، مسألة دائما ما كانت ولا تزال مخصوصة بأقلية لا أكثرية، وما نحتاجه هو الشجاعة والجسارة في اكتشاف هذه الأعمال المغمورة غير المكرسة، لأن مجملها نابت في ظلّ عتيد بعيدا عن البهرجة الاعلامية، وهامشية لأنها خارج مدار التواطؤ وصناعة المؤسسة والسلط«.

ويتابع الأكاديمي والناقد إدريس الخضراوي مناقشة هذه الإشكالية:

 »ما يلفت الانتباه في نصوصها التجريبية هو ذلك التطور المهم الذي يمسّ مقوماتها السردية والتخييلية، وأجواءها وفضاءاتها وعلاقتها بالواقع«.

منَ المؤكدِ أنّ الروايةَ العربيةَ منذ بداية الألفية الثالثة، دخلت مرحلةً جديدةً من التحولاتِ العميقةِ على الصعيدين الفنّي والفكرِي. ولفهمِ هذه التحولات لا بدّ من مراعاةِ مسألة أساسية مفادُها أنّ الروايةَ باعتبارها مقولةً أجناسيةً، ليست مجرّد اسم يُطلقُ من الخارجِ على النصوصِ، وإنما هي كتابة تتصلُ بسياقٍ سوسيوثقافي محدد، وبأفقِ انتظار يشتركُ القرّاء في تقاسم عناصره في مرحلةٍ معينة. وعلى هذا الأساس، نَحسبُ أن أيّ مسعى للإمساكِ بمنجز الروايةِ العربيةِ اليوم، ينبغي ألا يَنطلقَ من السؤالِ عمّا إذا كانت الرواية العربية قد تخلّصت من هيمنةِ الأشكالِ السردية الغربية، وإنما ممّ  إذا كانت الرواية العربية، في الوقت الراهن، تشاركُ في توسيعِ المفهومِ عن الرواية في سياق عابر للثقافات والآداب، وبالتالي ما إذا كانت الرواية قادرة، بَعدَ الإنجازِ اللمّاح الذي قدمه نجيب محفوظ، ومن خلالِ النّماذج الجيدة على بلورة جماليات مغايرة تَجعلُ منها ليس فقط رافدا مهمّا من روافد الإبداع العالمي، وإنما أيضا تجربة إبداعية مختلفة تَدفعُ النقد إلى إعادة النظر في الافتراضات المتمركزة التي ظلت تربط الرواية بالآداب الغربية.

إن ما يعطي المشروعية لهذا المنظور، هو الحضورُ الرفيعُ الذي تحظى به الرواية اليوم في الفضاء الثقافي العربي، والاهتمامُ الواسعُ الذي تَتمتعُ به على صعيد الإنتاج والمتابعة والتلقي، والجاذبيةُ الكبيرةُ التي تمارسها على مبدعات ومبدعين من أجيال مختلفة وبخلفيات ثقافية وفكرية متنوعة. لقد أصبحَ من الخطأ الاعتقاد أمام هذا الكمّ الكبير من الروايات التي تَصدرُ في أقطار عربية مختلفة، وما يلمسه القارئ للنصوص الجيدة من ضروب المغامرة التي يخوضها الكتابُ بحثا عن الفرادةِ والأصالةِ في مستويات السّرد وبناء الشخصياتِ والفضاءات والأزمنة، وعمّ يُغذي الفكر والوجدان والشعور، بأن هذه الأعمال الروائية لا تتكئ على أيّ جهدٍ جمالي في الثقافة العربية، أو أنها محصلة ذلك التوافق بين الشكل الروائي الغربي والمادة السردية المحلية.

نعتقدُ أن الرواية العربية تُمثلُ اليوم ظاهرةً ثقافيةً شديدة التأثير والأهمية في إبداعنا المعاصر. فهي تمدّ جسورا قوية بين السّرد وأشكال المعرفة المختلفة لتَمثيلِ الغرابة المقلقة التي تكتنفُ الفرد في بيئة حضارية شديدة التعقيد والتحول. ويكفي إلقاء نظرة على التجارب الجيدة لنقع على كثير من العناصر التي تظهر أن الرواية العربية المعاصرة تَفتتحُ طرقا تعبيرية جديدة مستفيدةً من التطورات الكبيرة التي عرفتها الرواية على الصعيد العالمي. وعليه فما يلفت الانتباه في نصوصها التجريبية هو ذلك التطور المهم الذي يمسّ مقوماتها السردية والتخييلية، وأجواءها وفضاءاتها وعلاقتها بالواقع، وذلك الشكل من التأمل الذاتي الذي يسائل قدرة السارد على الإمساك بلغزية العالم الذي يسعى لرسم حدوده. ولما كان هذا المسعى الفنّي يحول، ضرورةً، الاهتمام بالقصّة المروية إلى الاهتمام بالتفاعل بين الرواية وجمهورها، فإنه يسهم في توسيع مفهوم الرواية، وفي تحريرها من ضرورات الاستنساخ، وتعميق قدرتها على قول كل شيء. وليس أدلّ على توسّع مفهوم الرواية العربية من تعدد الأجناس الفرعية التي يبدع فيها، اليوم، الكاتب العربي مثل: السيرة الروائية والتخييل الذاتي، والرواية التاريخية، ورواية الخيال العلمي، والرواية البوليسية.. وغيرها من أشكال الكتابة التي يَتعيّنُ التخييلُ فيها بوصفه أداة ضروريةً لإنتاج معرفة مضادة تُشخّصُ التوتر اللاينتهي بين الفردِ والمجتمعِ«.

العدد 104 – أيار 2020