السعودية تصنع الفرص لا تبحث عنها 

الكاتبة والروائية السعودية د. زينب الخضيري لـ”الحصاد”: الرواية كائن حيّ يتغذّى من المواقف والواقع، والمرأة  

تمثّل الكاتبة والأديبة والروائية د. زينب الخضري روحاً أدبية وفكرية قوية في المشهد الثقافي السعودي، تجمع بين القلم والفكر والالتزام الاجتماعي، شبهها النقّاد في بعض الجواهر الفكرية للكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار من حيث الرغبة في تحليل الواقع، نقد الأعراف، الحرية، الهوية، والمساواة، لكن الخضيري تختلف في السياق، الأدوات الأدبية، والموضوعات التي تواجه واقعاً.  

تعدّ الدكتورة زينب إبراهيم محمد الخضيري، من أبرز الوجوه الثقافية في المملكة العربية السعودية، ولدت في الرياض، وحصلت على درجة دكتوراه الفلسفة في الإدارة التربوية تخصص إدارة تعليم عالٍ من جامعة الملك سعود، ما عكس شغفها بالتعلّم والبحث. 

تتمتّع هذه الروائية الشغوفة بمسيرة مهنية متنوعة وغنية، إذ تعمل حالياً مستشارة ثقافية وأستاذاً مشاركاً بجامعة الملك سعود. 

بدأت الخضيري رحلتها في عالم الكتابةمبكراً، في سن الثامنة عشرة، ونشرت مقالاتها في صحف ومجلات رائدة مثل جريدة الجزيرة (أول جريدة نشرت لها)، والمجلة العربية، ورسالة الجامعة الصادرة عن جامعة الملك سعود. امتدت مساهماتها لتشمل عموداً أسبوعياً في جريدة اليوم من عام 2009 إلى 2013، ثم استكتبها الأستاذ تركي السديري لتكتب في صحيفة الرياض من عام 2013 إلى 2025، ثم انتقلت للكتابة في منصة ميدار الإماراتية. لم يقتصر عطاء الخضيري على الكتابة الصحفية؛ ففي عام 2008، أطلقت مدونتها الإلكترونية “باندورا”، والتي تعني “المرأة التي منحت كل شيء”، لتكون منصة إضافية لأفكارها وإبداعاتها. كما أنها مؤسسة لعدد من المبادرات الثقافية المهمة، منها بيت الرواية (2018)، وملتقى هن سعوديات (2017)، ورفيف كتاب (2016). 

شاركت الخضيري بفعالية في المحاضرات الثقافية داخل المملكة وخارجها ومن ابرزها قدمت ورقة عمل في اليونيسكو باريس عام 2018، ولها العديد من المشاركات التلفزيونية والإذاعية، بالإضافة إلى لقاءات صحفية متعددة؛ ما يؤكد حضورها القوي في الساحة الإعلامية والثقافية. 

  • “الحصاد”: تحمل فترة البدايات الكثير من الطموح، الانكسارات والتجارب. كيف تصفين هذه الفترة؟  
  • حملت تلك الفترة شغفاً بريئاً، وخوفاً من الفشل، ومحاولات متكررة للعثور على ملامحي بين التجربة والخطأ. تعلّمتُ فيها أن الطريق لا يُرسم دفعة واحدة، بل يُكتشف بخطوات مترددة وصبورة. و الانكسارات جزءاً من التكوين، وليست نهاية، بل طريقة أخرى للنضج. والطموح هو الخيط الوحيد الذي ظلّ يشدني للأمام رغم كل التعب.  
  • “الحصاد”: من هم الكتّاب الذين تركوا بصمتهم في بداياتك؟  
  • في بداياتي، كان هناك كتّاب تركوا فيّ أثراً عميقاً، لا لأنهم فقط أبدعوا في الكتابة، بل لأنهم جعلوني أؤمن أن الأدب يمكن أن يكون حياة موازية، وأن الكلمة قادرة على التغيير. تأثرتُ بالعُمق الإنساني عند نجيب محفوظ، كيف يحوّل الحارات والوجوه البسيطة إلى عوالم فلسفية نابضة. ووجدتُ في غادة السمّان الجرأة التي كنت أبحث عنها لأقول ما لا يُقال، ومن محمود درويش تعلّمتُ أن الشعر يمكن أن يكون وطناً، وأن الجمال لا ينفصل عن الوعي. كما ألهمتني فيرجينيا وولف في تأمل الذات والكتابة من الداخل، وكافكا في فهم الغربة كحالة وجودية لا كحادثة عابرة. كلّ واحد منهم ترك بصمة مختلفة، محفوظ منحني التوازن بين الواقع والفكرة، درويش أكّد لي أن للغة جناحين، وغادة السمان منحتني شجاعة الانكسار الجميل، أما وولف وكافكا ففتحا لي باب الأسئلة التي لا تُغلق أبداً. أما باولو كويلو تعلّمت منه البُعد الرمزي في الحكاية، وكيف يمكن للأسطورة أن تضيء الطريق الواقعي، ومن أمين معلوف القدرةعلى فهم فكرة الهويّة المرّكبة والرحلة الإنسانية التي تتجاوز الحدود. كلّ هؤلاء كانوا بمثابة محطات ضوء؛ بعضهم علّمني اللغة، وبعضهم الوعي، وآخرون علّموني أن الكتابة ليست ترفًا، بل طريقة للنجاة. 
  • “الحصاد”: هل تعتبرين أن التجربة الأدبية لديك باتت شغفاً؟ 
  • نعم، أستطيع أن أقول إن التجربة الأدبية عندي لم تعد مجرد محاولة أو هواية عابرة، بل أصبحت شغفاً حقيقياً يرافقني في كل تفاصيل حياتي. لم تعد نشاطاً جانبياً أمارسه حين يتسع الوقت، بل تحوّلت إلى طريقة في النظر إلى العالم، وإلى نفسي، وإلى الآخرين. وأعبّر بها عن أشياء لا تُقال في العلن، وأصنع بها جسوراً بين ما أعيشه وما أحلم به.  
  • “الحصاد”: من كتاباتك، يظهر أن المواقف تلهمك، والواقع يجذبك، وتتأثرين بالأشخاص والذات. كيف توفقين بين كل هذه المؤثرات من خلال الرواية؟ 
  • أرى الرواية ككائن حيّ يتغذّى من كل ما يحيطني: من المواقف العابرة، والوجوه التي تمضي ولا تعود، ومن الحوارات التي تُقال بنصف وعي في المقاهي أو الممرات. الواقع بالنسبة لي ليس مجرد خلفيّة للسرد، بل هو المادة الخام للخيال، والشرارة الأولى التي تشعل الحكاية. فحين أكتب، لا أتعامل مع الموقف كما هو، بل أُعيد تشكيله داخل مختبر عقلي. الموقف الواقعي قد يتحوّل إلى رمزيّة، والشخص الحقيقي إلى ظلٍّ يتنكر في شخصية أخرى. مثلما فعل نجيب محفوظ حين جعل القاهرة بطلة تتحدث بلغات أحيائها، أو كما صاغ غارسيا ماركيز الواقعية السحرية من حياة قريته الصغيرة “أراكاتاكا”. الأشخاص الذين يعبرون حياتي لا أكتبهم كما هم، بل كما ينعكسون في مرآة ذاتي. الذات أيضاً ليست بعيدة، فهي الينبوع الذي يُصفّي كل هذه التجارب، يحوّلها من واقع إلى حقيقة شعورية.التوفيق بين كل هذه المؤثرات يشبه الرقص على خيط رفيع بين الواقع والخيال. أستمع لما يقوله الواقع، لكنني لا أكتبه كما هو؛ أترك له أن يتماهى مع تأملاتي، أن يختلط بما لم يحدث بعد، أن يتنفس بعمقٍ سرديّ يمنحه الحياة. 
  • “الحصاد”: تكتبين المقالة الصحفية والفكرية. بما يختلف ذلك عن الكتابة الأدبية والرواية؟ 
  • الكتابة في الصحف تشبه الوقوف في ساحة الضوء، بينما الكتابة الأدبية والرواية تشبه السير في ممر داخلي طويل لا يراك فيه أحد، لكنك ترى نفسك فيه بوضوح. في المقالة الصحفية، أكتب للقارئ مباشرة، أحاوره، أستجيب لنبض اللحظة، وأحاول أن أقول شيئاً واضحاً ومؤثراً في مساحة محدودة. هناك وعي بالزمن والحدث، ومسؤولية تجاه الرأي العام، فاللغة يجب أن تكون دقيقة، والهدف محدد، والفكرة قابلة للقبول أو النقاش، إنها كتابة عقلانية وموضوعية حتى وإن كانت تمسّ القلب. أما في الرواية، فأنا أكتب من الداخل إلى الخارج، أترك اللغة تقودني لا العكس، لا أسعى لإقناع أحد، بل لاكتشاف ما لا أعرفه بعد، الرواية تمنحني حرية التأمل، والانغماس في التفاصيل، وتمنح الفكرة زمنها الطبيعي لتنضج. إنها مساحة للتجريب، والبوح، والتساؤل، بينما المقال مساحة للتوضيح والإضاءة والتحليل. أحياناً أشعر أن المقالة تشبه نبضة فكرية سريعة، والرواية تنفّس طويل للحياة. كلاهما يكمّل الآخر. 
  • “الحصاد”: كنتِ من أوائل المدوّنين وأنشئت مدوّنة إلكترونية “باندورا ” التي تعني “المرأة المانحة”، كيف ترين بهذا الصدد المرأة السعودية اليوم؟ 
  • أرى المرأة السعودية اليوم قد تجاوزت مرحلة البحث عن الاعتراف إلى مرحلة المشاركة الفاعلة في صناعة الواقع، لم تعد تنتظر الفرصة، بل تصنعها، وتخوض مجالات كانت حكراً على غيرها، بثقة ووعي جديد. من خلال “باندورا”، كتبت عن التحوّل الداخلي الذي تعيشه المرأة السعودية: بين طموحها الشخصي، وصوت المجتمع، ومسؤولياتها اليومية. لقد أصبحت أكثر حضوراً في الفكر والاقتصاد والثقافة، وأكثر قدرة على أن تعبّر عن ذاتها دون خوف من الأحكام أو الصور الجاهزة. ومع كل هذا التقدّم، لا تزال تواجه تحديّات التوازن بين الطموح والواجب، بين الحرية والقبول الاجتماعي، لكنها اليوم أكثر وعياً، وأقل تردّداً. حيث المرأة السعودية اليوم لا تشبه ما كانت عليه بالأمس، لكنها أيضاً في رحلة مستمرة للتشكّل والنضوج. باختصار، أرى المرأة السعودية اليوم كشجرةٍ تنمو بثبات، جذورها في التاريخ، وأغصانها تمتد نحو السماء، تعانق المستقبل، لكنها تحتاج دوما أن تُروى، بالتشجيع، بالدعم، بالفرص، بالاعتراف، والحرية. 
  • “الحصاد”: كتبتِ عن المدن الاسمنتية في كتاب “فيروز وشوارع الرياض” هل تحب زينب الخضيري المدن الكبيرة وماهي بصمتك عليها حدثينا عن هذا الكتاب؟ 
  • كتابي “فيروز وشوارع الرياض” هو محاولة لالتقاط نبض الحياة، شوارع المدينة، المقاهي، المباني القديمة، وحتى الزوايا الخفية التي تحمل حكايات الناس اليومية. فأنا لا أحب المدن فقط كمكان، بل ككائن حيّ يتنفس ويؤثر فينا كما نؤثر فيه، بصمتي فيه كانت في رؤية المدينة من الداخل، من خلال تفاصيل صغيرة قد يغفلها المارة، محاولة لتسجيل الحكايات الصغيرة، الانفعالات، وحتى السكون الذي يختبئ بين حركة الحياة اليومية “فيروز وشوارع الرياض” يلتقط نبض المدينة من زواياها الخفيّة وتفاصيلها الصغيرة، ليقرأ المدينة كما نقرأ إنساناً، بكل تعقيداته وجماله وغموضه. 
  • “الحصاد”: روايتك “هياء” احتفى بها النقّاد وتمت مناقشتها وتحوّلت إلى مشروع في أكثر من رسالة ماجستير في الجامعات السعودية ما شعورك وأدبك بين يدي الطلاب؟  
  • أن يتحوّل أدبك إلى مادة تُدرس ويصبح موضوعاً لأبحاث ورسائل علمية يعني أن كلمتك لم تبقَ مجرد تجربة شخصية أو متعة قرائية، بل صارت جزءاً من حوار ثقافي وفكري يُثري العقل والخيال. هناك شعور بالفخر، نعم، لكنه مختلط بالمسؤولية؛ لأن الأدب حين يُدرس يصبح مسؤولية مضاعفة عن عمق التحليل وصدق التعبير. باختصار، وجود أدبك بين أروقة الجامعات يشبه أن تكون جزءاً من نسيج معرفي حيّ، حيث تتحول الكتابة من تجربة فردية إلى حوار مستمر مع الأجيال المقبلة، مع كل فخر وامتنان لهذا الاعتراف. 
  • “الحصاد”: “روايتك على كف رتويت” لاقت أصداء إيجابية كثيرة في الوسط الثقافي. ما الذي يميزها وكيف ولدت فكرتها؟ 
  • روايتي “على كف رتويت” لم تقتصر على مناقشة حضور وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا، بل رصدت التحوّلات النفسية والاجتماعية التي تصنعها هذه الوسائل على الفرد والمجتمع. الفكرة ولدت من الملاحظة اليومية لكيفية تداخل العالم الرقمي مع حياتنا الواقعية، وكيف يمكن لكلمة، تعليق، أو مشاركة صغيرة أن تغيّر المزاج، تصنع صداقات، أو حتى تهدم جداراً من الخصوصية.  
  • “الحصاد”: كيف تتعاملين مع لحظات العزلة؟ وهل لديك عادة خاصة أثناء الكتابة؟ 
  • العزلة بالنسبة لي ليست فراغاً، بل مساحة للتأمل وللتواصل مع الصوت الداخلي. أحياناً أستلهم أفكاري وأعالج مشاعري في صمت طويل، أكتب وأعيد القراءة وأترك للأفكار أن تتنفس قبل أن تتحول إلى كلمات. أثناء الكتابة، أحب أن أحتفظ بعادات صغيرة: كوب قهوة بجانبي، موسيقى غالباً لشوبان أو فاغنر أو شتراوس، ايباد أدوّن فيه أي وميض فكرة قبل أن يهرب مني. الكتابة في ساعات الصباح الأولى في عزلة تامة فالكتابة والتفكير يحتاجان إلى الانفصال عن صخب العالم الخارجي. فالعزلة ليست انعزالاً عن الحياة، بل هي لحظة تتفتح فيها الحواس والخيال لتصبح الكتابة تجربة أكثر عمقاً وصدقاً. 
  • “الحصاد”: ما هي مشاريعك القادمة؟  
  • مشاريعي القادمة تتركز على استكشاف تقاطعات الحياة اليومية مع التجارب الإنسانية العميقة، سواء في الرواية أو كتابة القصة القصيرة. أعمل حالياً على مشروع جديد يدمج بين الواقع المعاصر والذاكرة الشخصية، مستوحى من تجارب الناس وأماكنهم، بهدف تقديم نصوص تعكس صراعات الإنسان وهواجسه بطريقة حسية وشاعرية. كما أفكر في تطوير سلسلة مقالات أو نصوص نقدية تتناول حضور الأدب السعودي في الثقافة المعاصرة، وتأثيره على وعي القارئ والمجتمع. كل مشروعي يحمل شغفاً بالإنسان وحكاياته، مع رغبة في أن تصل الكتابة إلى القارئ بطريقة تلامس قلبه وعقله معاً.