في مقالنا للشهر الماضي عمدنا إلى تصنيف مواقف الشرائح الاجتماعية العربية علميا من ابعاد الزمان: ماضي، حاضر، مستقبل. وقد ذهبنا إلى تصنيف هذه الشرائح ثلاثيا إلى: أولا، تلك التي تنتمي للماضي. وثانيا، تلك التي تعيش من اجل الحاضر. وثالثا، تلك التي تستعد للمستقبل وهي تعيش في الحاضر. وتعد الشريحة الأولى الأكثر انتشارا. اما الأقل انتشارا فهي الشريحة الثالثة. وبينهما تقع الشريحة الثانية.
وتتعدد الاجتهادات ذات العلاقة بالمتغيرات التي افضت إلى محدودية الاستعداد العربي للمستقبل .فمثلا أكد، هادي الهيتي، أن” المستقبل لم يدخل في الوعي العربي.”. أما، خير الدين حسيب، فقد أشار إلى: ” غياب المستقبل عن تصوراتنا وغياب التنظير (بشأنه) عن إبداعنا ” . وبدوره أكد، سعد الدين إبراهيم، أن الحديث عن المستقبل، على صعيد الإنسان العربي، يستوي والحديث الذي: ” يتعلق بأمور لا طاقة له بها، ولا قدرة له عليها . فلا شيء يربط في ذهنه بين الماضي والحاضر والمستقبل…لذلك يبدو المستقبل (له) وكأنه عالم أخر.” أما، فواد زكريا، فهو يرى: أن هذا الواقع العربي يُعدّ حصيلة لمدخلات دينية، وحضارية، واجتماعية-سياسية .
وبالمقابل نرى أن انحياز جلنا إما إلى الماضي و/أو إلى الحاضر مرده تأثير الوظيفة التي تؤديها الثقافة في كيفية تعامل المجتمعات مع أبعاد الزمان. فالثقافة، كأسلوب للحياة، هي التي تحدد كيفية التفاعل مع حقائق الماضي ومعطيات الحاضر وعلى وفق أنماط سلوكية معينة يعبر عنها مضمون هذا الأسلوب الحياتي. وتبعا لذلك تنطوي ثقافتنا العربية على تأثير حاسم في دفع مجتمعاتنا إلى الآخذ بأنماط من السلوك تعطل انحيازها الى المستقبل. فرؤيتنا الثقافية لأبعاد الزمان هي التي أفضت إلى أن ينأى الإنسان العربي، في العموم، عن فكرة صناعة المستقبل ابتداء من الحاضر على وفق رؤية علمية واعية وإرادة حرة.
في مقالنا هذا سنتناول متغيران ثقافيان يتمتعان بتأثير مهم، هما: العقلية الشاعرية العربية، فضلا عن تباين الرؤى الدينية الإسلامية حيال المستقبل والاستعداد له، وكالاتي:
1.العقلية الشاعرية العربية
غني عن القول إن الشعر، كأحد الفنون العربية الأصلية، يحظى عند جل العرب بقيمة تكاد تكون خاصة وممتدة في الزمان. وربما تعود جذور هذه القيمة العليا إلى عصر الجاهلية الثانية قبل الاسلام. ففي ذلك الوقت كان للشعر وظيفة مهمة. فالشاعر الجاهلي كان بمثابة الناطق بلسان قبيلته. إذ كان مثلا بأمجادها يُفاخر ولمعاركها وانتصاراتها يؤرخ. ولنتذكر هنا شعراء المعلقات السبع على سبيل المثال.
ولم تتغير قيمة الشعر بعد الاسلام. فباستثناء عصر الخلفاء الراشدين، استخدم الشعر في العصور اللاحقة لأغراض متعددة تراوحت بين السياسة والحب وما بينهما. وقد برز خلال هذه العهود شعراء استمرت الذاكرة العربية تحتفظ بأسمائهم واشعارهم . وتكفي الإشارة، مثلا، إلى الأخطل، والفرزدق، وبشار بن برد، وأبو نؤاس، وأبو العتاهية، والمتنبي، وأبو فراس …الخ
ونتيجة لتراكمات تأثير الشعر في الوجدان العربي تكونت تدريجيا عقلية شاعرية عربية اتخذت من الحنين السلبي إلى الماضي سبيلا للتعامل مع الحاضر والمستقبل. ومثل هذا الحنين عندما يكون طاغيا، فأنه يفضي، وبالضرورة، إلى تقيد الإنسان بحدود معطيات زمان مضى وغاب بريقه، ويتعذر استرداده وبمخرجات تعطل قدرة الزمان على التكيف الكفوء مع استحقاقات حاضر متغير ومستقبل مفتوح ومتعدد الاحتمالات . ومن هنا تتناقض العقلية الشاعرية في معظم بعادها مع العقلية الواقعية التي تُعد مدخلا أساسيا للعقلية المستقبلية، كما يؤكد ذلك قسطنطين زريق.
إن هذا التناقض الذي يكمن أساسا في أن العقلية الواقعية، وعلى خلاف العقلية الشاعرية، تتأسس اصلا على القناعة بقدرة العقل اليقظ المتطور والفاعل، رائدا وضابطا وحاكما، على الابتكار والإبداع. وبضمن ذلك تجنب الإضرار الناجمة عن التعامل مع الواقع وتحدياته تعاملا يتغافل عن حقيقته الموضوعية . فالعقلية الواقعية تدعو إلى ضرورة رؤية ما كان، وما هو كائن، على نحوٍ موضوعي وليس على وفق ما يتخيله المرء أو يتمناه. ومما يدعم هذه العقلية هو اتجاهها إلى جعل المنهج العلمي أساسا لها في إدراكها للواقع، هذا فضلا عن البعد الاخلاقي الكامن فيها. فالعقلانية والاخلاق أمران متكاملان. هذا لان الأولى لا تستطيع أن تكون مدخلا للأبداع إلا إذا تزامنت مع التزام أخلاقي بها. فهذا هو الذي يجعلها، أيضأ، مدخلا مهما للاقتراب من الحقيقة.
وينسحب هذا التناقض بين العقلية الشاعرية والعقلية الواقعية على العلاقة بين الأولى والانحياز إلى المستقبل. فإدراكها لمجمل أبعاد الزمان وكأنها تستوي، مجازا، والبساط الممتد الذي لا يتحرك ولا يتموج، ومن ثّم رؤية الزمان وكأنه زمان راكد، ينفي العلاقة الطردية الموجبة بين التغيير وحركة التاريخ . ولنتذكر أن التغيير، الذي يجعل الزمان متجددا، يكمن في الحركة التي تفضي إليه. وفضلا عن ذلك، تفضي العقلية الشاعرية أإلى اقتران المجتمع بحالة من الركود تحول دونه والتجديد والارتقاء في الفكر والعمل، ومن ثّم إلى إدامة واقع التراجع والتخلف الحضاري. وهذا هو حالنا، نحن العرب، عموما في زماننا الراهن.
2. تباين الرؤى الدينية الإسلامية حيال المستقبل والاستعداد له،
تجدر الإشارة إلى ان الاديان السماوية تتوافر على رؤية متماثلة للزمان. فهي تدركه بمثابة المسار الطولي الذي يبدا بالخلق وينتهي بالرجوع إلى الخالق، وبمعنى أن الزمان، في الاديان السماوية، له بداية ونهاية، وإن بدايته تكمن في لحظة الخلق. إما نهايته فهي تقترن بيوم القيامة. وهي بهذا تتناقض مع رؤية الاديان الوثنية للزمان، التي أدركته دائريا، وبالتالي لا أول له ولا أخر.
وبالقدر الذي يتعلق بالدين الإسلامي، فغني عن القول إنه يحظى بموقع خاص في الثقافة العربية. فإضافة إلى أنه كان وراء نشوء الكيان السياسي العربي، فإنه يشكل مع اللغة العربية والتاريخ العربي اهم المقومات الاساسية التي تُشكل الهوية العربية. ومع ذلك، تتباين الرؤى العربية-الاسلامية حول موقف الدين الإسلامي من التفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية بين رؤى داعمة له، وأخرى مناهضة.
فإما عن الرؤى الداعمة، فهي تؤكد أن جوهر الدين الإسلامي لا يغفل الدعوة إلى الاستبصار والوعي بالمستقبل، ولا يلغي كذلك النزوع الإنساني إلى الإعداد له وأخذ الحيطة واتخاذ الاسباب واغتنام الحاضر لضمان غد أفضل في الدنيا والاخرة.” ومن هنا، لا يقترن المستقبل في الاسلام بالمقبل من الزمان في الحياة الدنيا فحسب، وإنما بالآخرة أيضا.
وغني عن القول، أن هذه الرؤى الداعمة تستند على ما يأخذ به القران الكريم. فالقران الكريم مليء بالآيات الداعية لإمعان النظر والإعداد للمستقبل بمشاهده المتعددة. ومن ذلك قوله تعالى مثلا في سورة الحشر/الآية 18: “يَا أيُها الذين أمنُوا أتقو الله ولتنظر كل نَفس مَا قَدَمَت لغدٍ.” التي تدعو إلى الاستعداد للمستقبل واستشراف المستقبل حتى يتم تجنب مفاجئات الزمان. وكذلك قوله سبحانه وتعالى في سورة ال عمران/الآية 140: “…وتلك الايام نُدَاوِلُها بَين النّاسِ.” الذي يؤكد على فكرة عدم بقاء الامور ثابتة على حالها. وقوله كذلك سبحانه وتعالى في سورة الرعد/ الآية 11: ” إن الله لا يُغيّر مَا بِقومٍ حتى يُغيّروا مَا بأنفسهم”، الذي يدعوا إلى الاخذ بالتغيير. وكذلك قوله سبحانه وتعالى في سورة الزلزلة/ الآيات8, 7: “… فَمَن يَعّمَل مِثّقَالَ ذَرة خَيرّا يَره، وَمَن يَعمَل مثقال ذَرّة شَرّا يَرَه…”، الذي ينطوي على دالة واضحة تفيد أن المستقبل صناعة بشرية.
واتساقا مع دعوة القران الكريم إلى عدم إهمال التفكير في المستقبل، جاءت أحاديث نبوية أكدت على جدوى الاستعداد للمستقبل ابتداء من الحاضر. ومثالها قوله عليه الصلاة والسلام: “من أستقبل الامور أبصر، ومن استدبر الامور تحير”. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ” من لم يحترز من المكائد قبل وقوعها لم ينفعه الاسف عند هجومها.”
وفي ضوء تكامل الرؤية المستقبلية في عموم المنظومة الإسلامية، يوكد فؤاد بلمودن أن هذه الرؤية تعتمد نهجا محددا يتميز بتسلسل خطواته، وكالاتي : اولا، قراءة الواقع المعاش ودراسة مفرداته وإدراك ابعاده عن كثب وبشكل تحليلي. ثانيا، قراءة الماضي قراءة تاريخية واعية بتتبع حركة السنين التاريخية والاجتماع وفاعليتها في تحليل علمي موضوعي. ثالثا، استشراف المستقبل بعملية تركيبية تربط بين حركة الواقع القائم والسنن التاريخية والاجتماعية من خلال استحضار الماضي والاهتداء بتجاربه ومواعظه.
وعلى الرغم من أن الرؤية الإسلامية الداعمة لاستشراف المستقبل استمرت تجد انتشارا، وهو الآمر الذي يؤكده ذلك الكم غير القليل من الدراسات الإسلامية المنشورة ذات المضامين المستقبلية، إلا ان مخرجات هذه الرؤية لم تؤد إلى الارتقاء بواقع التفكير العلمي، العربي-الإسلامي في المستقبل ودراساته التطبيقية إلى المستوى الذي يُمهد لبناء إنسان ينحاز إلى المستقبل، تفكيرا وسلوكا . وقد سبق، لزكي الميلاد، أن حدد بعض الأسباب التي أدت إلى إن تتميز هذه الدراسات باستمرار قصورها أيضا، قائلا إنها استمرت :” … تفتقر للتواصل والاستمرار ولا يتمثل بها جهدا تأسيسيا أو غائيا.” ونراه مصيبا
وأما عن الرؤى الرافضة للتفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية، فهي تؤكد أنّ معرفة الإنسان لا تتعدى حدود الماضي والحاضر. أما معرفة المستقبل فهي من الآمور التي استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها . ومن هنا دعا أصحاب هذه الرؤى إلى الانشغال بالواقع دون المتوقع ومن ثم تجنب الانشغال بالمستقبل، وذلك انطلاقا من أن الذي “ لم يقع لا يستحسن الخوض فيه.” ، بل ان الغلو أفضى بهم إلى رؤية السعي إلى استشراف مشاهد المستقبل وكأنه تعديا على المقدسات السماوية.
أن تماهي كثير من المسلمين مع هذه الرؤية الرافضة لاستشراف المستقبل أدى إلى انتشار نمط من التفكير في عموم العالم الإسلامي ألغى دور الارادة الإنسانية في الحياة الدنيوية
ويفند المستقبلي والمفكر العربي-الإسلامي محمد بريش هذا النمط من التفكير، قائلا: ” إن الكد والجد والاخذ بالأسباب جاء بها الكتاب والسنة كأمر”. كما أنه دعا إلى دفع القدر بالقدر، ورأى أنه نوعان:” أولهما، هو دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه بأسباب أخرى من القدر تقابله فيمتنع وقوعه، كدفع العدو بقتاله. اما ثانيهما، فهو دفع القدر الذي وقع واستقر بقدر أخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بالتداوي، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان. ”
إن تأثيم النظر صوب المستقبل، هو نوع من التفكير المعوج والتدين المغشوش الذي يتناقض مع أصل الخلق وهدف الخلق، ويتقاطع ايضا مع نزوع الانسان عضويا للتفكير في مستقبله. وهو فضلا عن ذلك يخلط بين مفهومين مختلفين هما استشراف مشاهد المستقبل والتنبؤ القاطع بالمستقبل
.باختصار، يعبر مفهوم استشراف المستقبل عن ذلك الجهد الإنساني الذي يعمد إلى توظيف المنهجية العلمية سبيلا لاستشراف احتمالات، أو مشاهد، تطور الحاضر، وذلك على وفق ما يقوم به الإنسان ، او لا يقوم به، من أفعال وهو في الحاضر.، ويكتفي القائم به أما بتحديد هذه الاحتمالات وترجيح بعضها، ومن ثم تسويقها داخل المجتمع للرأي العام و/أو إلى صناع القرار لأغراض ترجمة المرغوب منها خصوصا إلى واقع ملموس.
وبهذا المعنى، شبه المتفق عليه، لا ينطوي استشراف المستقبل على أي جهد للتنبؤ القاطع بالمستقبل، بمعنى العلم به، فالعلم بالمستقبل يبقى ذلك الامر الذي تنفرد به الذات الإلهية. لذا نتفق مع المهدي المنجرة في قوله: ” أن هناك فرق شاسع بين الغيب الذي هو من علم علام الغيوب سبحاته وحده، وبين مفهوم المستقبل، كما يوظفه الخبراء. الذي هو انعكاس على الزمن لأثار ونتائج أعمالنا او عدم اعمالنا اليوم، ومن ثم، فمن الواضح من المفهوم والدلالة أن الآمر لا يتعلق لا بنبوءة ولا بكهنوت.”
