من نافل القول إن الشعر العربي بناءٌ صوتيٌّ هندسيٌّ يقوم على ستة عشر بحرًا؛ وهي البحور التي ابتكرها العالم الكبير فريد دهره ووحيد عصره الخليل بن أحمد الفراهيدي فيما عرف بعد ذلك بالدوائر الشعرية التي نسبت اليه وأطلق عليها دوائر الخليل بن أحمد الفراهيدي وعرفت بـ (العروض) (وتتضمن خمسةَ عشرَ بحرا ابتكرها الفراهيدي واضاف الأخفش بحرا آخر)؛ وهي الطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل والهزج والرجز والرمل والسريع والمنسرح والخفيف والمضارع والمقتضب والمجتث والمتقارب والمتدارك.
يقول الشاعر:
وأبحرُ الشعر التي تُستعمل
ستة عشر وسواها مهملُ
بها أتى الخليلُ إلا واحداً
فإنهم تداركوه زائداً
وجاء أن هناك ستة بحور أُهملت ولم ينظم الشعراء وفقها هي المستطيل أو الوسيط. والممتد أو الوسيم. والمتوفر أو المتوافر. والمتئد والمنسرد والمطّرد.
فبحر المستطيل إيقاعه يشبه الطويل لكنه أقصر قليلاً، ويُعطي إحساساً بالاستطالة الهادئة ومن هنا جاء اسمه (المستطيل). قال أحد المولدين:
لَقَدْ هَاجَ اشْتِيَاقِي غَرِيرُ الطَّرْفِ أَحْوَرْ
أُدِيرَ الصُّدْغُ مِنْهُ عِلَى مِسْكٍ وَعَنْبَرْ
وهو يتكون من أربعة أجزاء في البيت، لكنه أقل مرونة من الطويل، مما يجعله صعباً في التعبير عن المعاني المعقدة.
أما المتواتر فإيقاعه سريع ومتتابع من (التواتر) أي التتابع، وهو يشبه الرجز لكنه أكثر هدوءاً وتأنياً. أما المتئد فهو من التأني وهو يُعطي إحساساً بالتدفق المتواصل دون توقف.ومن الأمثلة عليه قول أحدهم:
مَا وُقُوفُكَ بِالرَّكَائِبِ فِي الطَّلَلْ؟!
مَا سُؤَالُكَ عَنْ حَبِيبِكَ قَدْ رَحَلْ؟!
مَا أَصَابَكَ يَا فُؤَادِي بَعْدَهُمْ؟!
أَيْنَ صَبْرُكَ يَا فُؤَادِي مَا فَعَلْ؟!
وهو قصير نسبياً يناسب القصائد الوصفية أو قصائد الحكمة، لكنه يفتقر إلى التنويع الزحافي. أما أسباب أهمال هذه البحور فهي متنوعة وكثيرة منها الصعوبة الإيقاعية؛ فالمستطيل والمتواتر مثلاً يتطلبان دقة عالية في الوزن، وقلة الزحافات. ومنها الإيقاع غير المألوف للأذن العربية الحديثة؛ فقد سيطر البحر الطويل على شعر الملاحم كالمعلقات، والرجز على الهجاء والفخر. وفي العصر العباسي تم التركيز على البسيط والكامل للغزل والمديح؛ أما المستطيل فلم يذكر إلا نظرياً في كتب العروض.
إلا اننا من المهم أن نذكر ان البحور المهملة وان أهملت كأوزان كاملة إلا ان مجزوء تفعيلاتها ما زال مستعملاً الى يومنا هذا علما ان هذه التفعيلات تشترك مع غيرها من تفعيلات البحور الشعرية الأخرى.
وربما يرجع سبب إهمال الكثير من البحور الشعرية الى أن بعضها يحتاج لمفردات نادرة وتراكيب ثقيلة مثل بحر المتدارك الذي يتطلب أربعة أجزاء (فَعُولُن) في الشطر الواحد، وهذا يصعب معه إيراد كلمات عربية شائعة دون حشو أو تكلّف. والسبب الأخر وهو الأهم تأثير إيقاع البحر في النفس الإنسانية لميلها الشديد بالشعور بالثبات والوقار وهو ما يتوافق مع إيقاع الطويل والبسيط والكامل؛ ولا يتوافق مع البحور الشعرية ذات الإيقاعات السريعة والتفعيلات المكررة كالمتقارب الذي أصبح النظم عليه شبه نادر، وكذلك المتدارك الذي يعد أسرع من الأول، فيما خصصت بعض الإيقاعات لمجالات محددة كالخفيف الذي لازم الغناء والأناشيد. ويرى بعض الباحثين أن السبب الحقيقي وراء إهمال بعض البحور الشعرية هو عزوف معلمي العروض في القرنين الثالث والرابع الهجريين عن تعليم الطلاب بعض البحور الشعرية التي أضحت شبه مهملة واقتصارهم على المشهور منها كالطويل والبسيط والوافر وغيرها. إضافة لأسباب أخرى منها قلة الاستشهاد والتمثيل بها خاصة في كتب العروض، كما أن مناهج التعليم المدرسية بالخصوص تركز على أربعة أو خمسة بحور شعرية فقط من البحور التي يكثر ويشيع استعمالها وتهمل البقية. ولا ننسى أنه مع شيوع اللحن وانتشار العامية أصبح من الصعب النظم على هذه البحور التي تتطلب جهدا لغويا كبيرا.
وبالضد من هذا الاهمال الذي رأيناه في المشرق حدث في الأندلس انفجار إيقاعي كبير؛ حيث استعمل الشعراء الخفيف والمنسرح والمقتضب في الموشحات، وأدخلوا الزحافات والزحافات المركّبة حتى صار الخفيف يُغنّى على إيقاع «يا مالكًا قلبي» و«لمّا بدا يتثنى». فيما بدا لشعراء كبار معروفين كابن زَيدون وابن خفاجة والأعمى التُطيلي وغيرهم أن يكسروا احتكار البحور الكبرى كالطويل والبسيط والكامل والخفيف للأوزان الشعرية.
وهناك الكثير من محاولات إحياء البحور الشعرية المهملة أو شبه المهملة؛ منها استعمال تفعيلاتها في قوالب أخرى غير قوالبها التي عرفت بها. ومن أبرز من ابتكر نظاماً شعرياً جديداً منتصف القرن العشرين الشاعران الكبيران بدر شاكر السياب ونازك الملائكة. وهذا النظام يعتمد على تكرار تفعيلة واحدة (مثل (مفاعيلن) أو (فعولن) بأعداد متغيرة في كل سطر، مع حرية في القافية، دون الالتزام بشطرين متساويين أو ببحر كامل. وهو إيقاع داخلي يولّد موسيقى عضوية، مستوحاة جزئياً من الشعر الإنجليزي الحر، لكنه عربي الأصل في جوهره. ويعد كلاهما رائدي هذا النوع من الشعر الذي أطلق عليه (شعر التفعيلة) أو (الشعر الحر) والمبتكرين الرئيسين له بغض النظر عن القضية الجدلية المشهورة فيمن سبق أولًا اليه؛ ولقد كسر هذا النظام وحدة البيت التقليدي، وأعطى القصيدة وحدة عضوية واحدة. وفي ذلك تقول الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) ان (الشعر الحر شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت، يصح أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر).
تقول في قصيدتها:
سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الإنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ. تحتَ الصمتِ. على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو. تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ. يلتهبُ
الى أن تقول:
الموتُ.. الموتُ.. الموتْ
وكذلك فعل الشاعر الكبير بدر شاكر السياب الذي يعد أول من طور هذا النظام العروضي، مضيفاً رموزاً أسطورية وصوراً طبيعية. يقول في قصيدته ذائعة الصيت (أنشودة المطر) :
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ …كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ
الى ان يقول:
مَطَر …مَطَر…مَطَر…
وقد تبعهما عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأدونيس ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم، فأصبح شعر التفعيلة نظاماً شعرياً مستقلاً، يُدرَّس في الجامعات الى جانب الشعر العمودي. إذ ان هذا الإيقاع الجديد أتاح للشعراء التعبير عن موضوعاتهم بطريقة لم تكن ممكنة في البحور القديمة.
كما لا بد أن نذكر ان هناك قلة من الشعراء المعاصرين تجرأوا على اختراع تفعيلات جديدة كما فعل أدونيس من خلال بعض قصائده في (أغاني مهيار الدمشقي).
ومن المهم أن نذكر محاولة العلامة الشيخ الدكتور محمد صادق محمد الكرباسي – مؤلف دائرة المعارف الحسينية التي تجاوزت 700 مجلد حتى الآن – إحياء بحور الشعر المهملة والالتفات اليها؛ فقد طور نظاماً عروضياً جديداً سماه (هندسة العروض) وقد مكّنه هذا النظام من اشتقاش وابتكار مئات الأوزان الشعرية خارج البحور التقليدية التي وضعها الخليل.
وقد ابتكر الكرباسي خلال كتابه نظرية رياضية عروضية تسمح بتوليد أوزان لا نهائية تقريباً. وقد ذكر صراحة ذلك بأنه ابتكر أكثر من أربعمئةِ بحر من بحور الشعر العربي الجديدة وقد استعمل هذه البحور بالفعل في شتى قصائده الشعرية المبثوثة في كتبه التي تزيد على الألفي عنوان ككتابي (الأغراض الشعرية) و(التفسير المنظوم) وغيرها.
كما أن هناك جهوداً حديثةً ومعاصرةً لإعادة إحياء هذه البحور المهملة، خاصة في عصر الإنترنت والفضاء الرقمي من بينها دراسات أكاديمة وبحوث ومؤلفات مثل كتاب (إحياء البحور المهملة) للدكتور محمد عبد المعيد خان، الذي قدّم فيه أمثلة شعرية جديدة في بحر المستطيل. وكذلك دراسات الدكتور علي الشعلان في العروض إذ استخدم المتواتر في قصائد معاصرة عن البيئة.وهناك مجلات مهمة مثل (مجلة العروض) التي تصدر في الأردن وتقوم بنشر قصائد تجريبية في البحور النادرة.

ولا ننسى المبادرات الشعرية والمهرجانات والمسابقات وما شابه؛ مثل مهرجان الشعر العربي في الشارقة الذي يشجع على استعمال البحور الشعرية المهملة مثل المستطيل؛ وقد فاز الشاعر العراقي كاظم السويدي بجائزة أفضل قصيدة على بحر المستطيل عام 2022. ولا ننسى الذكاء الاصطناعي الذي حلل وولّد قصائد في جميع البحور، بما فيها المستطيل، مع أمثلة صوتية عليها.اضافة لبعض قنوات اليوتيوب التعليمية مثل (عروض الخليل) التي يبلغ عدد المشتركين فيها أكثر من مائة ألفٍ حتى عام 2024 وهي تقدم دروساً عملية مع تمارين في المتواتر. وأيضا هناك بعض ورش العمل عبر زووم في جامعات كالقاهرة وبيروت وغيرها تركزعلى إحياء العروض من خلال كتابات جماعية.
وفي الوقت الذي يرى فيه المجددون كسر التفعيلة على انه نصر على حصر الشعر العربي ببضعة أبحر فقط مدّعين انه نوع من الفقر الموسيقي رغم غنى العربية. يرى المحافظون ضرورة الحفاظ على الموروث الشعري الوزني والموسيقي وعدم كسر قاعدته التي كانت ولا تزال عمود الشعر بجميع تفعيلاته وأوزانه.
ونحن إذ نذكر هذا الأمر علينا أن نبين اننا كلما كتبنا على بحر مهمل، أثبتنا أن العربية لم تمت، وأنها قادرة على استيعاب إيقاعات لم تُستَخدم منذ ألف عام. وان البحور المهملة ليست «نادرة» فقط، بل و«مظلومة». فهي في الحقيقة كنوز صوتية أُقصيت لأن الذائقة القبلية فضّلت الثقل على الخفة، والطول على السرعة، والهيبة على الرقة. لكن الشعر ليس جنديًا في معسكر التقاليد، فهو طائر يجب أن يحلّق بأجنحته كلها، فقد حان الوقت أن نُعيد للشعر العربي كل أجنحته.
ويعد إحياء بحور الشعر المهملة استثمارًا ثقافيًا وإبداعيًا عميقًا، يتجاوز مجرّد إنقاذ أوزان قديمة إلى إثراء اللغة والخيال العربي المعاصر. ففي عصر يغلب فيه شعر التفعيلة وقصيدة النثر، يُعيد إحياء هذه البحور توازنًا فنيًّا يربط الماضي بالحاضر، ويمنح الشاعر أدوات إيقاعية دقيقة تُعبّر عن تعقيدات العصر دون التخلّي عن جماليات التراث. فهو يُحافظ على التنوّع اللغوي والإيقاعي للعربية. إذ انّ كل بحر يحمل طابعًا صوتيًا فريدًا؛ فالمتدارك يجري كالسيل المتدفّق، والمنسرح يتأرجح بخفّة، والخفيف يرقص برقّة. وان إهمالها يُفقر اللغة نغمياً، أما إحياؤها فيُعيد للشعر قدرته على محاكاة الطبيعة والنفس البشرية بدقّة، كما فعل المتنبي في الطويل أو البحتري في المتقارب. فالشعر العربي ليس مجرّد كلمات، بل موسيقى داخلية تُبنى على التفعيلات، وإحياء هذه البحور يُعيد هذه الموسيقى إلى الحياة.
كما يُتيح هذا الإحياء تجديد التعبير عن قضايا العصر. فالبحور المهملة ليست جامدة؛ إذ يمكن تشذيبها أو تهجينها مع الشعر الحرّ لتُعبّر عن الحداثة. حيث انّ هذا التجديد يُكسر رتابة الشعر الحرّ، ويُعطي الشاعر تحدّيًا فنيًا يُحفّز الإبداع، لا الركون إلى السهل. كما أنه يزيد الانتماء الثقافي ويُقاوم الاستلاب بزمن العولمة الذي نعيشه، وبذلك يُصبح الشعر العربي ببحوره المتنوّعة هويةً صوتيةً تُميّزنا عن الشعر الغربي الحرّ.
وفي الختام أدعو للاهتمام ببحور الشعر العربي وبالخصوص علم العروض وإدراج البحور المهملة في المناهج المدرسية وإنشاء مسابقات على وسائل التواصل الاجتماعي مع دمجها بالذكاء الاصطناعي لتوليد قصائد، ثم تعديلها بشرياً؛ إذ إنَّ إحياء البحور المهملة ليس رجعية، بل ثورة فنية هادئة تُعيد للشعر العربي روحه الموسيقية، وتُتيح له منافسة الأشكال العالمية بأصالة لا تُضاهى. فالشعر إيقاعٌ يتجدّد مع كلّ عصر.
