خرافة

سهير آل إبراهيم

طالما أخافتني في الطفولة حكايات الأرواح والأشباح وأفعالهم ومغامراتهم التي تثير الرعب في نفوس بعض الناس. لا تزال حكايات من ذلك النوع متداولة الى يومنا هذا، وقد يظن البعض ان المجتمعات التي ينخفض فيها مستوى الوعي والتقدم تكون بيئة خصبة لتلك (الخرافات)، لكن الواقع يُرينا ان لا فرق في ذلك بين مجتمع متقدم وآخر لا يوازيه ولا يماثله في درجة التقدم والرقي.

حضرتُ قبل أيام أمسية اجتماعية ترفيهية الفقرة الأبرز فيها، بالنسبة لي، كانت لسيدة تعمل راوية تروي حكايات بطريقة تمثيلية. كانت ترتدي فستانا مشابها لتلك الفساتين التي كانت ترتديها النساء غير المترفات في بريطانيا قبل عدة قرون من الزمان. كانت حكاياتها في تلك الليلة عن الأشباح والأرواح، الطيبة منها والشريرة، والتي يبدو ان البعض يؤمنون بوجودها لدرجة انهم يشعرون بوجودها، او هكذا يبدو لهم. وقد وضعت تلك السيدة الى جوارها شمعة وطلبت إطفاء معظم الأضواء في القاعة التي ضمتنا، وذلك لخلق جو يتناسب مع حكاياتها الشيقة.

عندما بدأت تلك السيدة الحكاية، أخذتنا معها في رحلة تصورية الى بعض المواقع والقصور في شمال ويلز، نزولا الى الوسط وانتهاء بالجنوب حيث مدينتنا هذه، وفي كل موقع او قصر هناك حكاية لا تزال حية في اذهان البعض حيث تناقلها الناس جيلا بعد جيل. حكايات عن أحداث غريبة وقعت لم يجد لها الناس تفسيرا يتناسب مع المنطق والعلم. خلال حديث الراوية كنت اسمع بين الحين والآخر صرخات هلع مكتومة كانت تصدر من بعض الحاضرين (أو الحاضرات)، والتي كانت تدل طبعا على مهارة الراوية في سرد الحكايات، وكذلك على ايمان من أصيب بالهلع بواقعية تلك الحكايات. في نهاية تلك الفقرة ذكرت بعض السيدات انهن لن يتمكن من النوم في تلك الليلة، وربما لليال اخرى بعدها، واغلب الظن ان اعترافاً مثل ذلك يصعب على الرجال.

عُرض للبيع قبل فترة دارٌ يعتلي قائمة البيوت المسكونة بالأرواح أو الأشباح في بريطانيا، حيث يوصف بأنه الأسوأ بين كل تلك الدور المسكونة! يقع الدار على الساحل الشرقي لإنكلترا، ويتميز بتاريخ حافل بالأحداث الغريبة المرعبة. يحمل ذلك الدار اسم (الزنزانة) حيث كان يستخدم قبل بضع مئات من السنين كسجن تودع فيه الساحرات بانتظار تنفيذ حكم الإعدام فيهن.

أشهر من سكنت ذلك الدار قابلة كان اسمها أُرسولا كَمب، والتي أُعدمت شنقا ًأواخر القرن السادس عشر الميلادي بتهمة ممارسة السحر. كانت كمب الى سنوات قريبة تسمى الساحرة التي ترفض ان تُدفن، حيث عُثر على هيكلها العظمي، في ستينات القرن الماضي، وكانت هناك محاولات للاستفادة منه عن طريق بيع بطاقات تمكن مشتريها من الدخول الى حيث توجد بقايا تلك الساحرة ومشاهدتها عن قرب. لكن الأحداث السيئة ظلت تصاحب ذلك الرفاة أينما حل، حتى تم اخيرا دفنها بحضور رجال من الكنيسة وغيرهم، وكانت تلك خاتمة الحكاية، الى حد الآن.

فتح أحد بنوك اليابان قبل سنوات حساباً باسم شخص كان قد توفي قبل ألف عام! ذلك البنك هو احد فروع طوكيو ميتسوبيشي يو أف جَي، أكبر بنوك اليابان. توجد خلف بناية ذلك البنك باحة تضم قبر ذلك الشخص الذي فُتح الحساب بإسمه. يتم تذكير موظفي ذلك البنك دائما بضرورة عدم فتح النوافذ المطلة على تلك الباحة، وأن لا يديروا ظهورهم إلى القبر حتى اثناء جلوسهم الى مكاتبهم. القبر لمحارب متمرد كان اسمه ماساكادو، قتل عام 940 للميلاد.

ادعى ماساكادو أن آلهة الشمس اختارته امبراطورا يعتلي الحكم في اليابان، فقتل حاكم مدينته وبدأ باحتلال المقاطعات المجاورة، مما دفع الإمبراطور الفعلي لوضع جائزة مالية لمن يحضر ماساكادو حيّا او ميتا. قبض ابن عمه الجائزة وقُطع رأس المحارب المتمرد وعلق في سوق المدينة. يقال ان ذلك الرأس كان يعوي كالذئاب طوال الليل متسائلا عن ما حل بجسده. بعد سلسلة طويلة من الأحداث كان الرأس خلالها يختفي ثم يظهر في أماكن متفرقة، وفي كل مرة كانت الحكايات تتزايد عن قدراته الخارقة، تم دفنه اخيرا في موقع أصبحت الأرض المحيطة به فيما بعد مكانا لمبنى وزارة المالية.

آمن الكثيرون بقدسية ماساكادو، وقد خشيت الحكومة من تأثيره في عقول الناس، فتم في عام 1874 إعلانه عدوا للإمبراطور، في محاولة لإنهاء حالة القدسية التي احيطت به. لكن وزارة المالية احترقت بالكامل بعد ان ضرب زلزال اليابان عام 1923، والقي اللوم بذلك على ماساكادو. ظلت احداث سيئة ترافق انشاء المبنى الجديد للوزارة، فقد أزهقت ارواح اربعة عشر عاملا في الموقع في حوادث متفرقة خلال خمس سنوات، مما اضطر المسؤولين الى الاعتراف بإعطاء الموافقة على هدم قبر ماساكادو وازالته في بداية عملية انشاء المبنى. بعد وفاة وزير المالية عام 1929 تم الإسراع بإعادة بناء القبر وإقامة (مناسك تهدئة) بحضور قديس، اذا كان من غير اللائق بالنسبة للمسؤولين آنذاك ان تقام مراسم لطرد الأرواح الشريرة!

لم تنته الحكاية هناك وتفاصيلها اللاحقة اكثر من ان تستوعبها مساحة هذا المقال، ولكن يقال ان ماساكادو ليس الشبح الوحيد في اليابان، ذلك البلد الذي يشار اليه الآن بعبارة (كوكب اليابان) لما حققه من تطور كبير في مجالات العلم والتكنولوجيا، ذلك التطور الذي جعل اليابان تبدو وكأنها كوكب آخر خارج حدود كوكب الارض.

ان كانت تلك الحكايات تشير الى قوى غيبية غير ملموسة، فللخرافة أشكال اخرى منظورة تتجسد في أشخاص يحتلون بطريقة او بأخرى مكانة الزعيم الروحي لدى بعض الأفراد او الجماعات، وربما لدى الغالبية من بعض المجتمعات. ولا يزال الزعيم الروحي الى يومنا هذا يمتلك سطوة على عقول المؤمنين بقدسيته، فكم من أرواح أزهقت طوعا تلبية لنداء من ذلك الزعيم المقدس.

أواخر عام 1978 حصلت كارثة انتحار جماعي في واحدة من قرى غويانا في اميركا الجنوبية، وكان ذلك بايعاز من زعيم روحي كانت تلك الجماعة تتبعه وتؤمن بقدسيته. دفع ذلك الزعيم الآباء والأمهات الى قتل اطفالهم اولا عن طريق اعطائهم شرابا ساما، ثم انتحروا هم بنفس المحلول بعد ذلك. قتل في ذلك الحدث المروع ما يقارب الألف شخص!

يمتلك العقل البشري قدرة مذهلة على تفسير الأحداث والظواهر التي يشهدها الانسان، بما يتناسب مع ما ترسخ فيه صوابا كان ام خطأ.

نشأنا منذ الطفولة على مفاهيم التضحية والفداء؛ فالحرية لدينا مضرجة بالدماء الزكية، واوطاننا لا ترويها سوى تلك الدماء، ولكني الآن، وبعد ان قطعت في الحياة شوطا طويلا، اجد ان الكثير من الأرواح الفتية قد ازهقت والكثير من الدماء الزكية قد اريقت بفعل مفاهيم لا تختلف عن الخرافة بشيء. قد لا يتفق معي البعض، وربما يزعجهم رأيي، ولكني أؤمن ان القدسية للحياة وللانسان، فالأرض تفقد قيمتها عندما تخلو من أناس يعمرونها ويبثون فيها الحياة، والاوطان تتحول الى مدن أشباح ان تغذت على ارواح ساكنيها ودمائهم.

العدد 98 – تشرين الثاني 2019