كم بات صعبًا على الإنسان المعاصر أن يواكب التطوّر الهائل للتكنولوجيا، لاسيّما قفزاتها المرعبة عبر الزمن الرقمي. إذ يستحيل على البشر أن “يترقمنوا” في شكل كامل متخلّين عن الخصائص الإنسانية الفريدة. هذا الصّراع المدمّر، خلق عالمًا مضطربًا بين العالمين الحقيقي والافتراضي، وبالتالي تولّدَ منه، عند البعض الحائر والعالق بين العالمين، رُهاب الرّقمنة وفوبيا الاقتراب من مكتسباتها ومنجزاتها، لأن هذا البعض يعتقد أن التكنولوجيا تمتلك الإجابات، في حين تخونه الأسئلة ويضيع طريق الوصول إليها ويفقد التمييز بينهما. هذا التمييز يصبح “مثل المنعطفات الحادة في الطريق، أمرًا بالغ الأهمية بسبب السرعة الهائلة التي نسافر بها في عالم التكنولوجيا الفائقة لاقتصاد الخدمات” على قول كلارنس توماس.
وكم بات صعبًا أيضًا أن تسود الروح البشرية على التكنولوجيا كما دعا أينشتاين، إذ إننا نعيش في عالم قلِق، مرتاب، وكأننا في سباق تسلّح لا يتوقف. لا شك أن أدوات التسلّح أصبحت فائقة التطوّر، لكن خوفنا منها صار أكثر بدائية، وأصبحت هذه الزنزانة المنفردة، حيث نقيم، أكثر تشويشًا وتعقيدًاً. كما أننا نسير في اتجاه التخلف على الصعيد الإنساني العميق، بحيث أصبح الإنسان أقلّ صفاءً ونقاءً من الإنسان المتخلف، وبالتالي أقلّ رحمةً وشهامةً ومروءةً ومودة.
غزوات التكنولوجيا الأخيرة التي تقود اليوم ثورة جامحة على المفاهيم التقليدية وحتى الحديثة، هي غزوة الذكاء الاصطناعي التي أحدثت ثورة في العديد من المجالات والصناعات، بدءاً بالتصنيع إلى الطب وحتى الفن. ومن أهم مزايا هذا الذكاء أنه يتيح للإنسان إمكانية الوصول إلى مستويات جديدة من التكنولوجيا، أبرزها القدرة على الابتكار وإيجاد حلول جديدة للمشاكل التي تعانيها البشرية. فهو يساعد في تحسين الكفاءة والإنتاجية والخدمات وتوفير الوقت والتكاليف، وتحسين الصحة والتعليم والسلامة والأمن التخطيط، والتنبؤ بالأعمال والاستثمارات، وتحسين الأمن والحماية والخصوصية على الإنترنت، والتعليم والتدريب وتشخيص الأمراض وعلاجها وتوقّع الأمراض قبل حصولها. بالإضافة إلى ميزاته في عالم الفنون من حيث تحسين الإبداع الفني وتطويره، إذ يمكنه إنتاج الأعمال الفنية الرائعة التي تمتلك خصائص الفن الحقيقي. ومع ذلك فإن استخدامه يثير الكثير من التساؤلات حول ما إذا كان الفنانون سيُستبدلون بالروبوتات والحواسيب الذكية في المستقبل. وهنا تشير الدراسات إلى أن الفن الحقيقي ينبع من قلب الإنسان، ولا يمكن الذكاء الاصطناعي أن يحل محل الإبداع والعاطفة عند البشر. ولكنه في الوقت نفسه يتضمن العديد من الأخطار والتحديات التي يتعين علينا مواجهتها، بما في ذلك المسائل المتعلقة بالأخلاق والمسائل القانونية والخصوصة والأمان. فضلًا عمّا يمكن أن تؤدي إليه زيادة الاعتماد على التكنولوجيا، من فقدان الوظائف والتغيير في طبيعة العمل، والتراجع عن العمل اليدوي والبشري.
نحن أمام تقنية ثورية مثيرة للإعجاب والذهول، والدردشة مع مستر ChatGPT تتطلب المزيد من البحث والتطوير والتفكير والحذر والمسؤولية.