في حوار مع الشاعر والفنان التشكيليّ الأردني محمد العامري

محمد العامري للحصاد:

 “فعل الكتابة هو إحدى طرائق المواساة الذاتية التي تباعد بيننا وبين الغياب، تباعد بيننا وبين الموت”

“أبحث بشكل دؤوب عن شعرية الأشياء المفقودة، سواء في وجودها المادي أو في ظلالها التجريدية التي تبدو ككسور من الزجاج”.

نتحدّث اليوم عن الفنّ والموهبة، عن القلم والريشة والألوان، عن التجارب التي تتجسد في تلاحم الصور والكلمات وتعيد الحياة إلى الحواس المعطّلة.

الكثير من الشعراء كانوا فنانين تشكيليين ولم يكن هناك اتّزان أحيانًا في تسليط الضوء على تجاربهم وقد حاز الشعر على النصيب الأكبر والعكس حدث في تجارب أخرى.  فأن يضمّن الشاعر ديوانه صورًا، هو نوع من التميّز

محمد العامري

والإضافة التي تغني العمل.

 نحن إذًا أمام مخيّلة يمتلكها الموهوب المبدع تشتغل لتجمّل الأفكار وتمكنّها من أن تستقرّ على شكل مجازات تهندس العالم.

ويمكن للشاعر أن يستوحي قصيدة من خلال تأمّله باللوحات، كما يمكن للرسام أن يختصر حياة بأكملها في قصيدة أو صورة، ومن رؤيته وذاتيته يبثّ انطباعًا يحفر في أعماله ويثير حساسية المتلقي وذائقته، إننا أمام عمليّة تأثير وتأثّر وتصوير، من هنا تتكشف العلاقة المبنيّة على الشغف بين الكلمة واللون. ولكل نوع من الفنون خصوصية لكنّ الموهوب المبدع البارع هو الذي يستطيع أن يجعلك شاخصًا متحّدًا بالصورة كما يوحدك  بالقصيدة.

نتذكّر هنا نزار قباني والرسم بالكلمات فالصور التي تراها في قصائده تدعو القارئ إلى التخييل، أما فيكتور هوغو فعلى الرغم من إخفائه رسوماته ولوحاته إلا أنه لاحقًا تمّ اكتشاف لوحاته التي كانت في معظمها صورة عن حالته وطبعه فهو شاعر ورسام، كذلك ميكالانجلو الشاعر والفنان الإيطالي الذي  اشتغل على الكلمة والصورة واللون وحقّق شهرة عالميّة. هذا بالإضافة إلى أسماء كثيرة برعت واشتهرت في هذا المجال.

ضيفنا اليوم محمد العامري الشاعر والفنان التشكيلي الأردني الذي ربي في كنف عائلة مهتمة بالعلم والفن. في هذه الأجواء أنجز مجموعة من المشاريع التي تجمع بين الشعر والرسم، ونال عدة جوائز كما أقام عدة معارض في جامعة اليرموك وفي الصالات الأردنية والصين وغيرها…

وفيما يخص تجربته الشعرية تنوعت قصائدة بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر حيث ظهرت مفردات الطبيعة بشكل جلي في مجمل تجربته الشعرية والفنية.

في ديوانه “يمحو سيرته وينأى” يأخذنا الشاعر والفنان التشكيلي لنختبر عوالمه المتعددة وليكشف عن سيرة شعرية يشتغل فيها على ثنائية الصورة والكلمة، فقد كانت الرسوم التي استوحاها من حياته حاضرة لتشكّل تفاصيل حياته اليومية وسيرة حياة بأكملها مرتبطة بمرحلة زمنية تبدأ منذ الطفولة.

وهنا لمحة عن أعماله:

أصدر مجموعته الشعرية الاولى في العام 1990 بعنوان ” معراج القلق ” وكتابه الثاني “خسارات الكائن ” في العام 1995 والذي حاز على جائزة افضل ديوان شعر عربي وكتابه الثالث بعنوان “الذاكرة المسننة- بيت الريش” في العام 1999 وكتابه الرابع بعنوان “قميص الحديقة”،عام 2003 وكتابه الخامس “ممحاة العطر في العام 2017 وكتاب “شجرة الليف ” سيرة ذاتية في العام 2015

عليه العشب- 2020 – دار خطوط للنشر والتوزيع

أحلم بالرصيف – يوميات الفيروس- 2020 الحاصل على الجائزة الاولى – دار خطوط للنشر والتوزيع

شباك ام علي رواية -2020 – دار الجيدة للنشر والتوزيع.

تفاحات سوداء – 2021

دع كل شي واذهب الى النهر- كتاب باللغة الالمانية- منشورات دار الاداب في ميونخ 2004

وكتاب التفكير باليدين “مجلد”حول تجربته في الفنون التشكيلية في العام 2011 وكتاب فن الغرافيك الاردني في العام 2015 الطبعة الثانية والطبعة الاولى في العام 2006 وله مجموعة من البحوث في مجال الفنون التشكيلية وهو كاتب مقال شهري في مجلات متخصصة منها مجلة دبي الثقافية ومجلة الشارقة الثقافية .

 الحصاد تواصلت مع الشاعر والفنان محمد العامري وحاورته حول تجربته بمناسبة صدور ديوانه الجديد، وكان لها معه الحوار الآتي:

“الحصاد” يمحو سيرته وينأى” ديوان جديد صدر لك حديثًا، نراك تعبّر فيه عن حيواتك بتفاصيلها، ألا يدعونا هذا العنوان إلى التفكير بأنّنا بالشعر نستطيع أن نفرّغ الذاكرة لتكون الكتابة فعل مواساة وامتلاء للشاعر؟

“محمد العامري” يمحو سيرته . وينأى ضروب من التذكر والمحو في آن، حيث تتجلى الصورة الأولى في ذاكرتي كما لو أنها قد حدثت الآن، فأذهب لأكتبها من جديد بصورة أكثر طزاجة من واقعها الأول، وهي صورة من صور التطريز ومحاولة لتخييل الذاكرة أمام واقع يفيض منه الدم.

هي كتابة أقرب إلى الوجاء للحماية من الانهيار اليومي الذي يجتاح نبتة الروح، فالشعر يضمدها ويداوي عطب اليومي المجروح أصلًا.

 وهناك مسألة أُخرى، هي أن نتمكن بالكتابة بكل تجلياتها وألمها الخفي من الكشف عن المسافة التي قطعتها الروح في عوالم تعلو فيها العثرات والحواجز، ان نحتفظ قدر المستطاع بسليقة تساعدنا على التصديق بفكرة الحياة ذاتها، والتي أصبحت بعيدة عن متناول اليد، فمساحة الذاكرة الأولى هي الحنين إلى ماضٍ كان بالأمس عفويًا ومليء بالأعشاب والماء ليصبح مساحة وخزانًا لا ينضب ضد تحدب الحياة، كون الحنين إلى الماضي هو استحضار لما فات وكاد أن يموت، هذا الديوان حراثة في ماضٍ شخصي، سكن بي وصار مؤونتي لمواصلة الضحك واستحلاب الغيم لوسادة امتلأت بالدمع، وأنا كائن لم ينفصل أبدًا عن طفولته، فالطفولة بمكوناتها الأولى هي مدار استحضار يومي ضد الموت، ومحاولة جادة للتقليل من وجوده كعتبة لمواصلة اخضرار الأشياء.

ففعل الكتابة هو إحدى طرائق المواساة الذاتية التي تباعد بيننا وبين الغياب، تباعد بيننا وبين الموت، الكتابة إكسير ضد السكون والتوقف عن زراعة وردة، ففي هذا الكتاب تتحول الطفولة برغم قسوتها إلى حلوى للماضي والحاضر المرّ، فالأشياء التي كانت تقع عليها عيناي قد تغيرت الآن، صورة السلاح المعلق في مضافة جدي، وحفرة النار العظيمة تحت الدالية والرماد الذي كان يحتضن البطاطا ورائحة الهيل وصوت المهباج، كلها عناصر ساهمت في مواصلة حياتي في الكتابة، بل تحولت إلى واقعية سحرية بصور مختلفة.

كل ذلك كان يتحرك عبر سياق يتوافق مع وجود تلك الأشياء، أحن إلى كل ذلك الماضي بكونه المعين الذي لا ينضب في فعل التحبير في سياق حاضر أليم.

“الحصاد” ماذا تعني لك الكتابة؟ وكونك فنان مبدع في عالم الرسم والألوان، أين تجد نفسك أكثر؟ وما المشترك بالنسبة إليك بين الشعر والفن التشكيلي؟

“محمد العامري” أعتبر الرسم والكتابة مجرى ممتزج بعشب اللون وخدوش الكتابة، فكان الإنسان قبل الكلام يرسم ما يريد، فالرسم كتابة وكذلك الكتابة رسم مجرد للصورة، فكل كتبي الشعرية مشفوعة برسومات تعبر عن حالة القصيدة وولادتها، فحين تتوقف القصيدة أرسم على الورقة نفسها، فيفتح الرسم لي مناخات صادمة في مواصلة القصيدة وانثيالها.

 ففي هذا العَمَل الشِّعْرِي، حركة أشمل من القصيدة بتعريفاتها التقليدية، حيث أقبض على الصوت والصورة معًا، تصادٍ بين فعلين، وحيّوية يمكن اللحاق بها عبر الحلم إن أمكن، وأذكر هنا قول “أبو اليزيد البسطامي”: “إن المعنى جناح لجسد الصورة”.

فكل شيء يبدأ بــالــصُور التي لا تعرفها، بالصور المكتشفة، بصور تكشط عنها الغبار لتلمِّع مراياك.

فهي تساؤلات مشرعة على المطلق في الكتابة ويخلقها المنوع والمتحرك، فهي كذاكرة الطين الطري الذي يتحول من شكل إلى آخر، متحققة بجوانبها الوجودية، ومحاولات للإمساك بالغيبي، محو وكتابة ورسم في الكتابة، وما أقدمه هي مجموعة من الوظائف المتشعبة في الفعل الإبداعي، فالمنسي في النص يتقدم الحاضر ذاته، إنها الحالة العِرفانية العالية في النظر إلى جوانية الأشياء وحيويتها، وقراءات تراكمية لتاريخ روحك على جدار المبصور والمكتوب، دهشة مناكفة تكشف عبرها خساراتك في الحياة وتجلياتك العالية، طبيعة تدعوك للعشق الجواني، وتثير فيك أمداء لا حدود لها، هي الأول والآخر والمطلق الذي لا ينضب.

“الحصاد” في ديوانك لقاء الكلمة والأشكال وتزاوج بين الشعر والسيرة، وكأن الحياة تحولت إلى سرد من داخل القصيدة. ماذا تقول عن انفتاح الأجناس الأدبية هنا؟

“محمد العامري” اليومي في غالبه قائم على السرد، فالسرد هو مؤونة اليومي وله سطوته البائنة، لكن الشعر تثقيف للسرد، وايجاز له، وهو تحول عميق بكوننا نمتلك من الموروث الشعري البائن في حياة العرب الكثير والذي شكل سلطته الطاغية ما أدى إلى انصراف العرب عن السرد في حدوده القصوى، فحين جاء القرآن والذي يحمل في طياته الكثير من القصص ساهم في تغيير المسار إلى اشتباك السردي بالشعري وينطبق ذلك على الكتب المقدسة الأخرى، فالقرآن لم يكن يسعى إلى إحداث قطيعة معرفية وثقافية مع تراث ما قبل الإسلام، إنما الغاية  حسب تصوري هو  إيجاد ثقافة موازية قوامها السرد، لكننا الآن في عصر العمل الفني الشمولي وظهور مصطلح شعرية الرواية مثلا، جميع الصنوف الإبداعية تقترض من بعضها لتنتج عملاً فنيًا مفارقًا.

وفيما بعد تواصلت السرديات العربية في سياقات مختلفة، منها كليلة ودمنة، والبخلاء، والمقامات، ورسالة الغفران، وأدب الرحلات وصولًا إلى السير الشعبية الواقعي منها والمتخيل، فقد تغيرت النظريات الأدبية على اعتبار أن التماهي هو السمة الواقعة الآن، وهو دليل على حيوية التحول والتغيّر التي تعتري الأنواع الأدبية، كما قال رينيه ويلك – أن مفهوم نظرية الأنواع أصبح في موضع شك؛ انطلاقًا من كون الشعر “يحمل معنى التعدد وكثرة الأنواع، لأن الشعر ليس نوعًا واحدًا، وإنما هو عدة أنواع”.

فالتمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية فقد صار مفهوم التصنيف مكانًا للريبة والشك، والحديث عن هذا التداخل حديث قديم، المهم بالأمر طبيعة التجربة المتجاوزة في شتى الطرائق، والتي تنبع من تجربة الكتابة في الشعر العربي المعاصر، والتي تقوم على تحولات سريعة وهائلة، أمام تفكك الراهن والأسئلة التي تطرحها الحياة ذاتها، وبرغم آلامها إلا انها قد صنعت آفاقًا شعرية منفتحة على السرد والممكن والشك والمعرفة والسؤال المتوالد في كل لحظة.

فنحن أمام تمازج عضوي بين ثنائية الشعر والسرد، حيث تقترض الرواية من القصيدة والعكس كذلك، إذ نتلمس الشعر داخل النص السردي، والسرد الكامن بين طيات النص الشعري، هذا التداخل ساهم في إنتاج سمات التجديد والابداع، بوصف قصيدة الحداثة  أحد هواجسها هو تجاوز البنية النصية الموروثة.

“الحصاد” يقول بيسوا: ثمة شعر في كل شيء. ما هي الأشياء التي تستهوي محمد العامري والتي استوحى منها الديوان؟

“محمد العامري” لم تغب الأشياء كوجود واقعي، فهي موجودة لكن العين التي تنظر إليها ربما تكون مصابة بالعماء الجمالي، فالمسألة منوطة بإزاحة الستار عن ظلال الأشياء والكشط عن الغائب في الأشياء حيث يكون وجودها بحسب حساسية الشاعر، فما ذهب إليه غيليفك في إعادة الاعتبار للأشياء، والتي تقدم شعريتها بمفاهيم جمالية متجاوزة، وأذكر هنا ما ذهب إليه ويتمان عندما كتب عن العشب الذي سماه منديل السيد الإله، فقد سخر من المقارنة بين العشب وورقة الدولار الخضراء، فهل يمكن لشجرة السرو أن تنوب عن الغابة، الأشياء التي أخذتني إليها هي ذاتها التي تأملتها في الطفولة منها الوشم الغافي على وجه أمي ورائحة عرق الخيل التي كنت أعيش معها، والبندقية المعلقة في صدر مضافة جدي، رائحة النار وطمي النهر والجبل الذي كان يبدو لي كقبعة مقاتل عظيمة، صوت الشلال المتحدر من الجبل، كلها أشياء تمتلك شعرية تتولد في كل لحظة في الذاكرة من جديد في الكتابة.

 أبحث بشكل دؤوب عن شعرية الأشياء المفقودة، سواء في وجودها المادي أو في ظلالها التجريدية التي تبدو ككسور من الزجاج، فأعيد النظر بها لتتخلق من جديد بهيئة مختلفة، وتتمظهر الأشياء بالوضوح والغموض والبساطة في سياق التكثيف والاختزال والإيجاز.

الحصاد”ماذا تعني لك الطفولة، الذاكرة، الأمكنة، وأمور أخرى لو شئت تذكرها؟

“محمد العامري” الطفولة أساس متجذر في سرديتي الشعرية، فهي الهيكل الأساسي لطبائع الكتابة لدي، حيث يتكثف المشهد الطفولي بكل شغبه وعاطفته ليسيل في النص الشعري، كشجرة كبيرة للذاكرة، شجرة مليئة بالفروع والجذور والأصوات، وهي حالة تمتلك الديمومة والاستمرارية كما قال بول ريكور :- “بأن أذهب صعودًا من دون أية قطيعة مع الحاضر المعاش، إلى الأحداث الأبعد في طفولتي”.

وهي منطقة تمتلك لذتها الخاصة التي تورط القارئ في طفولته كصورة من صور تقمص النص نفسه، ولا ينفصل الأمر في الطفولة عن الأمكنة، فالأمكنة هي الحاضنة لذاكرة الطفولة وكذلك للزمن التي كانت فيه،  وهي جزء أساسي من فتنة الكتابة وغريزتها الفائرة، وتسهم في إعادة العافية للتعبير في اللغة، واستحضار رائحة الأشياء حيث تشكل الرائحة جسدها الخفي في الحديث عنها.

“الحصاد” هل أنت مطمئن إلى ما تكتبه؟

“محمد العامري” أشك بكل شيء ولا أطمئن لما أكتبه لأنني أخاف من الطمأنينة كحالة إبداعية، أبني كل شيء على الشك والقلق وأنزح نحو الأسئلة المواربة في جدوى الكتابة.

“الحصاد” كونك مسؤول في دار خطوط وظلال ولك ذائقة في اختيار الأغلفة وتقرأ الأعمال. ماذا تقول عن المنجزات الإبداعية اليوم؟

“محمد العامري” المنجز الإبداعي اليوم بما يخص الشعر هو منجز قد أعفى الكاتب من الخوف من التمترس خلف الأشكال وتنزح الكتابة العربية الحاضرة للتجريب وهذا أمر عظيم، لأن التجريب دليل سؤال كبير حول شكل الكتابة وتطورها عبر الزمن، واعتقد أن الكتابة العربية ذاهبة نحو المغامرة من دون وجل من شيء.