«سياسة قطع الألسُن بعد الموت» 

من مسرح شكسبير إلى حكومة الجولاني: 

  تعود عبارة «Tongueless Dead Men» إلى الأدب الكلاسيكيِّ الانكليزيِّ، وتحديدًا إلى مسرحيَّة «ويليام شكسبير»، (هنري السَّادس-الجزء الثَّاني/ Henry VI, Part 2)، الَّتي تناولت فترةً مضطربةً وحاسمةً في تاريخ إنكلترا، وهي حرب الوردتين (1455-1485)، الَّتي دارت بين عائلتَي «لانكستر» و«يورك» المتنافستَين آنذاك على العرش الإنكليزي. 

  سياسة الإسكات الأبديّ: 

 لا تقبل هذه العبارة القويَّة ترجمةً حرفيَّةً: «رجالٌ ميِّتون بلا ألسنة/ أمواتٌ بُكمٌ/…»؛ فالتَّرجمة الحرفيَّة تُفقدُها جوهرَها. لأنَّها ليست مجرَّد وصف، بل تكتنز دلالةً ورمزيَّةً عميقتَين، يمكن تفكيكهما بالعودة إلى المشهد الَّذي ظهرت فيه، وذلك عندما يُعدَم «لورد ساي – Lord Saye»، الَّذي عُرِف ببلاغته ودعمه للتَّعليم والقانون، بأمر من «جاك كاد -Jack Cade» الَّذي مثَّل نموذجًا لغوغائيَّة الثَّورة الجاهلة، الَّتي تتَّخذ من العنف أداةً لها، ومن الفوضى مَنهجًا، دون تطبيق أدنى معيار للعدالة. 

  قبل لحظة الإعدام وعلى مسمع «ساي»، يأمر «كاد» بقطع رأسه عشرات المرَّات، ثُمَّ بقطع لسانه، ليبقى عاجزاً عن الكلام حتّى بعد موته: «ابحثوا عن لسانه واقطعوه، كي لا يتكلَّم أكثر من ذلك، ليصبح رجلاً ميَّتاً بلا لسان». وهُنا، يتجاوز فعلُ قطع لسان رجل ميِّت فعلَ القتل نفسه، إلى فعل إسكات الصَّوت بالقوَّة وإلى الأبد، ووأد أفكار الميِّت، وقيمه، وقصَّته الحقيقيَّة، وماضيه. 

إنَّها طريقةٌ وحشيَّةٌ وهمجيَّةٌ لا تكتفي بموت الخصم، بل ترمي إلى التَّزوير والتَّشويه، وقتل السِّلاح الأقوى للإنسان وهو «اللِّسان»، أي «الكلمة»، أي «الحقيقة»، أي «ما سيُروى»، أي «ما سيُصبح جزءاً من التَّاريخ». 

  العبارة الشّكسبيريَّة في الميزان السُّوريِّ 

 
  وبذلك قدَّم شكسبير صورةً أدبيَّةً عميقةً عن القمع السِّياسيِّ، وخوف السُّلطة السِّياسيّة من السُّلطة الفكريَّة، والوحشيَّة الَّتي يمكن أن يصل إليها الإنسان في صراعه على السُّلطة. صورةٌ تصلح لأن تكون انعكاسًا عن الواقع السُّوريّ اليوم. صورةٌ عن سياسة تكميم الأفواه، وتزوير الحقائق، وتشويه ما سيُروى عبر التَّاريخ، لثورةٍ عمياءَ، حصد ثمارها الإسلام السِّياسيُّ. ويُفسِّر عماها كلَّ ما تُدمِّره من قيم ثقافيَّة وتقاليدَ مُجتمعيَّة للمكوِّنات السُّوريِّة في بيئاتهم المختلفة بعد وصولها إلى الحُكم. 
 

 التَّجسيدُ الحَرفيُّ: مجازر آذار (مارس) وما تلاها 

  بعد المجازر بحقِّ العَلويِّين، التي بدأت في السَّادس من (آذار/ مارس 2025)، وما زالت مستمرَّةً حتَّى يومنا هذا بأشكال متعدّدة وطرق متنوِّعة، يعيش العَلويُّون المعنى الدَّلاليَّ والرَّمزيَّ لعبارة شكسبير حرفيَّاً، الَّتي نستطيع فيها استبدال كلمة «Alawites» بكلمة «Men»، لتصبح: «Tongueless Dead Alawites». 

  فالعَلويُّون في السَّاحل السُّوريِّ، وفي ريف حماه الغربيِّ، وجزء من ريف حمص؛ الَّذين كانت أرواحهم قُربانًا لجميع أبناء طائفتهم، في مجازر (آذار/ مارس 2025)، يُمارس بحقِّهم سياسة «قَطع الألسُن/ Tongueless Dead Alawites». إذ اشتُرط على من أراد الحصول على شهادة وفاة، لِمن قضى من أهله في المجازر، أن يكتب أنَّ سبب الوفاة هو القتل على يد فلول النِّظام، على الرَّغم من أنَّ جميع الفيديوهات الَّتي وثَّقها القَتلة بأنفسهم، كانت دليلًا دامغًا على هوية القاتل. وما هذا بمجله سوى تجسيدٌ حرفيٌّ لعبارة «Tongueless Dead Alawites». 
 

  التَّهجير القَسريُّ: ألسنٌ صامتةٌ وطائفيَّةٌ بغيضةٌ 

 
  في الأماكن الَّتي يتعرَّض فيها العَلويُّون للتَّهجير القَسريِّ، كما في ريف حماه الغربيِّ، وفي بعض من أحياء مدينة حمص وريفها، وفي حَيِّ السُّومريَّة؛ يُجبَر العَلويُّون أحيانًا على ترك بيوتهم وأرزاقهم تحت تهديد السِّلاح، وفي مرّات أقل على بيع أملاكهم بسعر بَخْس، مع التَّهديد بالقتل إن اعترضوا أو حاولوا رَفع أصواتهم للمناشدة. ليعيش بذلك العَلويُّون تغريبتهم وسط صمت مُطبق من أغلب المكوِّنات السُّوريَّة الأُخرى أمام هذه التَّغريبة. وما هذا سوى تجسيدٌ آخرُ لعبارة شكسبير، مع انزياح لغويٍّ مُغاير: «Tongueless Alawites Displaced». 

 
الطَّلبة الجَامعيّون: صوتٌ مُكَبَّلٌ 

 
  نظَّم مجموعة طلَّاب في كليَّة الطُّبِّ في جامعة اللَّاذقيَّة وقفةً صامتةً سلميَّةً، رفعوا خلالها صورَ زملائهم الَّذين استشهدوا في مجازر (آذار/ مارس2025). أصدرت بعدها مباشرةً رئاسة الجامعة تعميمًا يمنع أيَّ نشاط سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ داخل حرم الجامعة. ليكون هذا القرار تجسيدًا آخرَ لعبارة شكسبير، مع انزياح لغويٍّ بما يتلاءم مع الوقفة التَّضامنيَّة للطُّلاب: «Tongueless Alawites Students». 
 

 النِّساء المُختطفات بين التَّغييب والتَّلفيق 

– عشرات النِّساء والفتيات العلويَّات المُختطفات، اللَّواتي يُستعبدن جنسيًّا، ويُزوَّجن قسريًّا. قلَّةٌ منهنَّ عُدنَ إلى عائلاتهنَّ بعد ابتزاز ماليٍّ، وأكثرهنَّ مجهولات المصير. وعددٌ أقلُّ، نُسجَت لهنَّ حكاياتٌ من يسمعها يقول: «مجنون يحكي، وعاقل يسمع»؛ أُجبرن على قصِّها لجمهور التَّواصل الاجتماعيِّ والرَّأي العامِّ، ليتكلَّمن بذلك بلسان غير لسانهنَّ، مثل: «مَي سلّوم، وميرا ثابت». وما ذلك سوى تجسيدٌ آخرُ لعبارة شكسبير، مع تعديل يتناسب مع قضيَّة النِّساء والفتيات العلويَّات المُختطفات، اللَّواتي قُطِّعت ألسنُهنَّ، وكُمَّت أفواهُهنَّ تحت عبارة: «Tongueless Abducted Alawites Women». 

اغتصاب «روان»: العدالة الميِّتة 

  في قرية «حورات عمُّورين» التَّابعة لسهل الغاب في ريف حماه الغربيِّ، تعرّضت الفتاة العشرينيَّة اليتيمة «روان محفوض أسعد» لحادثة اغتصاب جماعيٍّ وحشيٍّ. إذ اعترض طريقها مسلَّحون أثناء توجُّهها صباحًا (10أيلول/سبتمبر 2025)، على درَّاجتها من منزلها إلى مكان عملها في محلٍّ للحلويات في مدينة سَلحَب، واقتادوها إلى جهة مجهولة بالنِّسبة لها، وتناوبوا على اغتصابها، ثُمَّ رموها عاريةً على قارعة الطَّريق. لجأت الضَّحيَّة روان إلى عائلة من عشائر البدو في تلك المنطقة، فمنحوها ملابس تستر بها جسدها، وأوصلوها إلى قريتها. احتضنت العائلة وأبناء القرية ابنتهم روان، كضحيَّة لا حول لها ولا قوَّة، وسط بلد تسوده شريعة الغاب. 

  حتّى اليوم، لم يلقَ المجرمون عقابهم، وما زالوا طلقاء يعيثون في الأرض فسادًا، دون أدنى محاكمة أو تجريم من قبل أيِّ سلطة أو قضاء أو حتّى أيِّ جهة عامة. 

  تمثّل هذه الجريمة الشَّنيعة، بكلِّ ما رافقها من صمت الجهات العامَّة، وطَيِّهم لملفِّها في الجوارير ليأكلها العفن والتَّهميش والنِّسيان، مثالًا آخر عن سياسة قطع الألسُن بعد الموت، الَّذي جاء هُنا مجازيًّا: موت العدالة، موت القانون، وموت الضَّمير الإنسانيِّ. 

 
اغتيال «ليال غريب»: إحدى سياسات التَّهجير القسريّ 
 

  في انتهاك وحشيٍّ لحرمة التَّعليم، ورمزيَّة المدرسة والمعلِّم، اغتيلت المعلِّمة «ليال غريب»، وهي من بنات الطَّائفة العَلويَّة. بحسب شهادات من داخل المدرسة، فإنَّ الحادثة جاءت عقب خلاف وقع قبل يوم واحد فقط بين المعلِّمة وإحدى مجموعات الطُّلاب أثناء الاصطفاف الصَّباحيِّ، حين طلبت منهم الوقوف بانتظام، فردَّ عليها أحدُ الطُّلَّاب بعبارات استفزازيَّة قائلًا «بخلّي أبي يقوّصك». وهذا ما حدث فعلًا صباح اليوم التَّالي (7 تشرين الأول/ أكتوبر 2025)، إذ اغتيلت المعلِّمة ليال بطلقة ناريَّة من مسدس كاتم للصَّوت، أمام مدرسة «وليد النَّجَّار» في حيِّ «جب الجندلي» في مدينة حمص. 

  وأكدَّ شهود عيان أنَّ زميلات المعلِّمة اللَّواتي كنَّ برفقتها تفاجأن بإطلاق النَّار فهربن خوفًا على حياتهنَّ، ولم يُسمَح بأن يتدخَّل أحدٌ من الحاضرين لإسعافها، في مشهد وصفه الأهالي بأنَّه يعكس احتقانًا طائفيًّا واضحًا داخل الوسط التَّعليميِّ والمجتمعيِّ. 

  امتنعت مديريَّة التَّربية في حمص عن إصدار أيِّ بيان نَعيٍّ أو توضيح رسميٍّ حول الجريمة. 
  وتُظهر الملابسات المحيطة بالقضيَّة أنَّ ما جرى لا يمكن فصله عن سلسلة التَّوتُّرات الطَّائفيَّة التي تُخيم على مدينة حمص ومدنٍ سوريَّة أخرى، وسط اتِّهامات للسُّلطات التَّعليميَّة والأمنيَّة بالتَّستُّر على الجريمة ومحاولة إسكات الأصوات التي تطالب بالعدالة للضَّحيَّة «ليال غريب»، ووقف الانتهاكات الَّتي تستهدف الكوادر التَّعليميَّة على أساس مذهبيٍّ، إذ اختُطِفت عدَّة معلِّمات أُخريات منذ بدء العام الدِّراسيّ (2025-2026) دون أيّة مساعٍ حقيقيَّة من الجهات العامَّة لملاحقة قضيَّة اختطافهنَّ، وإعادتهنَّ إلى عوائلهنَّ. 

وما هذا بمجمله سوى تجسيدٌ آخرُ لسياسة قطع الألسُن، مع انزياحات جديدة في عبارة شكسبير لتصبح: «Tongueless Alawites teachers». 

 
الطُّفولة بين الخطف والتَّرهيب والتَّهديد: 

 
  لم تتوقَّف سياسة القتل والخطف المُمنهجَين على رجال ونساء الطَّائفة العَلويَّة، بل طالت حتَّى أطفالهم. ففي صباح الأربعاء الموافق للثَّامن من تشرين الأوَّل (أكتوبر) 2025، أقدم مسلَّحون ملثَّمون على اختطاف الطِّفل «محمد حيدر»، البالغ من العمر ثلاثة عشر عامًا، من أمام مدرسته «جمال داوود» في حَيِّ المشروع العاشر في مدينة اللاذقيَّة، على مرأى زملائه والمارَّة، دون أن يمتلك أحدٌ القدرة على التَّدخُّل أمام سطوة السِّلاح. 

  شاهد الطُّلاب زميلهم يُسحب إلى داخل سيَّارة سوداء، فامتنع بعضهم عن دخول المدرسة، وعاد آخرون هربًا إلى منازلهم خوفًا من أن يتكرَّر المشهد. 
لم يصدر أيُّ بيان رسميٍّ من مديرية التَّربية في اللاذقية يستنكر الحادثة، ولم تَظهر أيُّ جهة رسميَّة إلى العلن تستنكر الجريمة وتحذِّر من انعكاساتها على المشهد التَّعليميِّ والتَّربويِّ ككلّ، وتتعهد بعودة الطِّفل محمد إلى كنف عائلته. 

 شهد اليوم التّالي إضرابًا في بعض المدارس والجامعات، من قبل آلاف الطُّلَّاب والمعلِّمات والمعلِّمين والأهالي، في مناطق السَّاحل وريفَي حمص وحماه. وخرج معلّمون ومعلِّمات وأهالي حَيّ «المشروع العاشر» في اعتصام سلميّ أمام مدرسة «جمال داوود»، احتجاجًا على خطف الطّفل «محمد حيدر»، واغتيال المعلِّمة «ليال غريب». 

  ترافق الإضراب مع تهديد للمشاركين فيه وفي الاعتصام وترهيبهم، ابتداءً من تهديد المعلِّمين والمعلِّمات بالفصل من وظائفهم، والتَّلاميذ بالعقوبات المدرسيَّة؛ وصولًا إلى ترويع قرى بأكملها، وتوعُّد أهاليها بالذَّبح إن استمرَّوا في الإضراب. كما ترافق ذلك مع تجييش طائفيٍّ واسعٍ على صفحات التَّواصل الاجتماعيِّ، ودعوات لمحاسبة مَن أضرب أو خرَج في الاعتصام، بحجَّة أنَّهم يعطّلون سير العمليَّة التَّعليميَّة. إنَّها حجَّةٌ مُبطّنةٌ بحقد طائفيٍّ، وموت الضَّمير الإنسانيّ، وجَهل أسودَ. 
 

  عنفٌ مُستمرٌّ وعصور ظلامٌ لا تنتهي: 

  تبقى هذه الأمثلة جميعها -على شناعة وقساوة كلٍّ منها على حدة- غيضًا من فيض عن سياسية قطع الألسُن، وتكميم الأفواه، وتشويه الحقائق، الَّتي يتعرّض لها العَلويّون في ظلِّ حكومة الجولانيِّ، منذ أوائل (كانون الأوَّل/ ديسمبر 2024)، وحتَّى يومنا هذا. دون أن تكون هناك أيّةُ مساعٍ حقيقيَّة لحمايتهم، أو لمحاكمة مرتكبي الإبادة البطيئة والمُمنهجة بحقِّهم، وسط صمت معظّم النُّخب المُثقَّفة، وتجييش طائفيٍّ على صفحات التَّواصل الاجتماعيِّ، وشماتة وتوعُّد بالمزيد. 

  سياسةٌ رمى شكسبير إلى الحديث عنها في مشهد واحد في الجزء الثَّاني من مسرحيَّته، عن أحداث دارت في القرن الخامس عشر، وسبقت حربًا أهليَّةً نجمت عن تفكُّك سلطة الدَّولة وسقوط النُّخبة المثقَّفة في مواجهة ثورة قادها رعاعٌ همجٌ، والَّتي تجسَّدت في المسرحيَّة بموت «لورد ساي» على يد رجال «جاك كاد» وبأمرٍ منه. 

  مشهدٌ يُشبه ما نعيشه اليوم في سوريا في القرن الواحد والعشرين، من غياب للعدالة، وعنف أهليٍّ، وقطع ألسُن؛ بل أكثر من ذلك، أكل قلوب وقطع رؤوس. 

  إنّه لفارقٌ زمنيٌّ بسيطٌ بين عنف تاريخيٍّ وعنف مُعاصر! فارقٌ زمنيٌّ يُقارب فقط ستَّة قرون، أيّ ستَّمائة عام عن عصور أوربا الوسطى. فمتى تنتهي عصورنا الوسطى نحن؟