بين لوحات جدارية، وتماثيل تتباين في أحجامها من ضخمة إلى صغيرة، تُخلِّد روسيا ذكرى واحد من ألمع شعراء العصر الفضّي الروسي، تقديراً لمكانته في الأدب الروسي، وشعبيته الواسعة.
تتوزَّع هذه التماثيل في الأماكن العامة (المنتزهات، والساحات، والمدارس، والمتاحف)، بين موسكو وضواحيها، وأشهرها ذلك الذي ينتصب في الميدان الذي حمل اسمه «ميدان سيرغي يسينين»؛ وسانت بطرسبرغ التي ضمَّت أيضاً عدداً من تماثيله في أماكن مختلفة؛ ومسقط رأسه كونستانتينوفو، حيث يعلو ضريحَه تمثالٌ يظهر فيه كما كان: شابّاً وسيماً ذهبيَّ الشعر، متَّقد العاطفة.
يتزنَّر الضريح طوال السنة بباقات من الأزهار، وضعها عشَّاق الروح اليسينينية، وشعراءٌ يأتون تارةً فرادى وتارةً جمعاً، يقرأون على الملأ قصائدهم ليتباركوا بروح الشاعر «سيرغي ألكسندرفيتش يسينين» (1895 – 1925).
شاعر الريف والوطن
تنوَّعت ألقابه، وأشهرها في روسيا: «شاعر روسيا الوطني»، و«شاعر الريف». إذ حمل معجمُه الشعري صوتَ الريف الروسي وروحَه، وحفيفَ أوراق البتولا، وعواءَ الكلاب ووفاءها، وأغاني السياج في القرى الزرقاء.
إرثٌ عالميٌّ
عاش يسينين حياةً قصيرةً، ثلاثين عاماً فقط، لكنَّه ترك إرثاً شعريَّاً غنيَّاً منحه الخلود والشهرة والألقاب والعشّاق، ليس فقط في روسيا، بل حول العالم.
تُرجمت أعماله إلى اثنتَين وثلاثين لغةً، من بينها العربية. ومن أهم المترجمين العرب الذين نقلوا إلينا قصائده الغنائية الوجدانية: الطبيب والمترجم السوري «إبراهيم إستنبولي»، الذي ترجم عدداً كبيراً من قصائده، وكتب عنه عدَّة مقالات، أهمها المقالة التي نُشرت في الملحق الثقافي لجريدة السفير، منذ ما يقارب العشرين عاماً، وأطلق عليه خلالها لقب «كمنجة روسيا الحزينة»؛ والكاتب والمترجم العراقي «جودت هوشيار» الذي ترجم وكتب بدوره الكثير عن يسينين وأطلق عليه لقب «شاعر الروح الروسية»؛ والناقد والمترجم السوري «ثائر زين الدين»؛ والكاتب والمترجم العراقي «علاء الفريجي»؛ وغيرهم…
شهادات مبدعين
تنوَّعت العوالم الشعريّة للشاعر الشاب والوسيم، والتقت جميعها في عشق روسيا وريفها. حيث قال عنه الروائي والشاعر والسيناريست الروسي «يفغيني يَفتوشينكو» (1932-2017): «كان يسينين أكثر الشعراء روسيَّةً»، «كان يسينين يتكلّم شعراً».
في حين وصفه الكاتب والشاعر الروسي بوريس باسترناك (1890-1960): «لم تلد الأرض الروسية مَن هو أكثر أصالةً، وأكثر عفويةً، وأكثر وطنيةً، وأفضل توقيتاً، من سيرغي يسينين».
في نهاية كانون الأوّل (ديسمبر) عام 1925، عندما وصل خبر وفاة يسينين إلى الروائي والكاتب المسرحي مكسيم غوركي (1868-1936) الذي كان حينها في برلين، بكاه قائلاً: «سيرغي يسينين ليس رجلاً، بقدر ما هو كيان خلقته الطبيعة للشعر حصراً، للتعبير عن حزن الحقول الذي لا ينضب، وعن الحب لجميع الكائنات الحيّة في العالم. والأهم من ذلك، للتعبير عن الرحمة التي يستحقها الإنسان».
نهاية غامضة

في ذلك اليوم الحزين البارد، عندما لم يجد يسينين حبراً، معه، كتب بدمه آخر قصائده: «وداعـــاً، وداعاً يــا صديقــــي، أنت في القلب منّي/ ما فراقنا هذا، إلّا ليعدنا بلقاء لاحق/ وداعاً يا صديقي/ بلا كلام ولا سلام/ لا تحزن، ولا تعقد حاجبيك/ ليس بالجديد أن نموت في هذه الدنيا/ وبالطبع، ليس بالأكثر حداثة أن نعيش». وبعدها وُجد داخل غرفته في فندق «أنغليتير»، في مدينة لينينغراد (بطرسبرغ حالياً) منتحراً أو مقتولاً!
أشاعت الرواية الرسمية خبر انتحاره. في حين أظهرت الدراسات اللاحقة بالأدلة أنّه لم ينتحر، وإنّما قُتل على يد المخابرات البلشفية، نظراً لآرائه المعادية للسلطة حينها، وأشعاره ذات الطابع القومي. وتلقى هذه الرواية قبولاً في أوساط الرأي العام الروسي أكثر من رواية الانتحار الرسمية، التي دوّنت كنيته بشكل خاطئ، إذ كُتب «ديسينين». وفي رواية ثالثة، قيل أنّ اليهود هم من قتلوه، بسبب معاداته للسامية.
لاحقاً، ردّاً واحتجاجاً على انتحاره (حسب الرواية الرسميّة)، كتب الشاعر فلاديمير مايكوفسكي: «كوكبنا غير مُهيَّأ للفرح/ علينا أن ننتزع السعادة من الأيّام القادمة/ ليس صعباً أن نموت في هذه الدنيا/ والأكثر صعوبة أن نصنع الحياة!».
الروح الريفيّة
بصرف النظر عن تلك الروايات، يبقى يسينين الشاعر الأكثر شعبية والأقرب إلى قلوب الروس، فهم يحفظون قصائده العابقة برائحة الريف، ويردّدونها إلى يومنا هذا. فقد عكس فيها الأصل الذي جاء منه، قرية كونستانتينوفو، حيث وُلد في كنف عائلة فلاحيَّة فقيرة، وقضى طفولته في أحضان الطبيعة التي وقع في غرامها، حتّى صار كما قيل: «آخر شعراء القرية الروسية». ومن ذاك الريف الذي سكن خياله الشعري، جاء إلى المدينة بقلب يعجُّ بالقصائد الغزيرة بالحب والطبيعة والحزن الشفيف.
الكلب رفيق يسينين الوجودي
لم يكن يسينين شاعراً وحسب، بل كان أشبه بساحر يحوِّل المفردات الوجوديَّة إلى انزياحات شعرية تصير قصائد. حيث امتلك قدرةً فريدةً على تحويل الملموس إلى مجرَّد، والعادي إلى أسطورة.
فعلى سبيل المثال، في قصيدته السردية «أغنية عن كلبة» حوَّل دموع الكلبة إلى نجوم من ذهب: «ومثلَ كلبة يمازحونها/ ألقوا عليها حجراً كصدَقة/ خبا نشيجُها/وانهال فوق الثلج دمعُها/ مثل نجوم من ذهب». وفيها نسج من حادثة بسيطة ومأساوية في آن واحد، نشيدَ رثاء للبراءة والقسوة، للأمومة والمعاناة، يبدو ظاهريَّاً عن قصة كلبة تَلدُ سبعة جراء، يسرقها منها صاحبها المزارع ويُلقي بها في النهر، لكن في جوهره استعار معاناة أمّ كلبة، ليحكي عن معاناة الأمومة البشرية. وبذلك، غدت القصيدة تأمُّلاً في طبيعة الألم، وفي قسوة الإنسان العابثة، وفي نقاء الحب الأمومي، وفي كيفية تعامل الكائنات الأضعف مع فقدان معنى وجودها.
تردَّدت مفردة الكلاب في قصائد أخرى لشاعر الريف، جاعلاً منها جسراً بين الإنسان والطبيعة، حمل معاني: الوفاء، والبراءة، والمعاناة، والغريزة، والرغبة في القبول. ففي قصيدة «كلب كاتشالوف»، ناجى يسينين في قالب حواري درامي كلب صديقه كاتشالوف الممثّل الشهير في مسرح موسكو، جاعلاً من مصافحة هذا الكلب طقساً شعريّاً: «هات يا جيم يدك عهداً على السعادة». بدأ بعدها بقلب الأدوار، إذ لم يعد الكلب مجرّد حيوان أليف بل مانح غفران، وشاهداً على حياة الشاعر، وحاملاً لبراءة فقدَها الشاعر، والصديقَ الوحيد الذي يمكن البوح له.
وكَمُن جمال هذه القصيدة في استعلاء يسينين للمشاعر، إذ رفع الكلب إلى مستواه الإنساني ووجد فيه رفيقاً وجوديَّاً. فأصبحت القصيدة أشبه بصلاة شاعر أدرك أنّه أخطأ، وعرف أنّه سيواصل الخطيئة، وطلب الغفران ممن لا يستطيع فهم مفهوم الخطيئة أصلاً: «يا عزيزي جيم/ كم كانَ بينَ ضيوفِكَ/ من أصنافٍ وأصناف/ لكن تلك الأكثر صمتاً وحزناً من الجميع/ أما مَرَّت فجأةً؟ إنها ستأتي، أضمن لك هذا/ عندئذ ثَبِّتْ عينيكَ عليها عَنّي/ ولأجلي الحس برقّةٍ يَدها/ مُكفِّراً عن كلِ ما اقترفتُهُ من ذنوبٍ وما لم أقترفه».
البتولا: انعكاسٌ للروح اليسينينية
احتلَّت شجرة البتولا، التي تمثِّل رمزاً في الثقافة الروسية، يتعدَّى طقسَ المشي في غاباتها البيضاء والفضية، إلى رمز للنعمة والقوّة والجمال الطبيعي للمرأة الروسيّة، وإلى رمز يرتبط بالحبّ والزواج؛ مكانةً عاليةً في قصائد شاعر الريف، إذ تردّدت في كثير من قصائده، كما تردّدت في الأغاني الروسيّة الفلكلورية.
مثّلت البتولا ليسينين ذاته الثانية وانعكاساً لروحه: روسيّة، حزينة، أنثوية، جميلة في ثوبها الأبيض ولكنها تبكي تحت هذا الثوب. فالبتولا، من أوائل الأشياء التي حنَّ إليها بعد بريق شعر الحبيبة البعيدة في قصيدته «أذكرُ يا حبيبتي، أذكر»: «أذكر ليالي الخريف/ حفيفَ ظلالِ البتولا».
وفي قصيدته «سهوبٌ ثلجيَّةٌ، قمرٌ أبيضُ»، التي كتبها في عام وفاته، واعتبرت بمثابة نبوءة الشاعر التي تحقَّقت؛ جعل من البتولا قلب التراجيديا، وحوّلها إلى جوقة أشبه براهبات في مأتم، أو أشباحاً في جنازة، تبكي بكاءً صامتاً مجمَّداً: «كفن يُغطي البلاد/ وأشجار البتولا بأرديتها البيضاء تبكي في الغابات/ من قُتلَ هنا؟ من مات؟ تُرى ألستُ أنا نفسي؟». وجعل القصيدة بمجملها منبتاً للتناقضات: جمال يتحوَّل إلى كفن، طبيعة صامتة تبكي مصير الشاعر، اغتراب نفسي أصبح به الشاعر بذاته شاهداً على موته.
لون التناقض الوجودي
احتلَّ اللون الأزرق بتدرجاته إلى جانب البتولا والكلاب، مكانةً في قاموس يسينين الشعري، أصبح فيه طيفاً من المشاعر والرموز الوجودية، التي ظهرت في كثير من القصائد. ففي «أذكر يا حبيبتي» تغدو السنوات زرقاء. وفي «مساءٌ أزرقُ، مساءٌ مُقمرٌ» إلى جانب المساء، السعادة أيضاً زرقاء. وفي «قبّليني، هيّا قبّليني» الأحلام زرقاء، كناية عن جنة وهميَّة شخصيَّة خلقها في خياله. وفي «كلب كاتشالوف» منح السنوات الجميلة هذا اللون. وفي «معطفٌ سماوي اللون، عينان زرقاوان» حمل المعطف وعينا المحبوبة اللون الأزرق بتدرجاته. وفي «لم أكن في يومٍ من الأيام في البوسفور» إلى جانب البلاد البعيدة الزرقاء، التي أشار بها إلى روسيا الحلم، أرض الجمال المطلق؛ عينَا المحبوبة أيضاً كالبحر سماويتين.
وهكذا صار الأزرق عند يسينين لون التناقض الوجودي، الذي رسم به قصائده: جمالٌ حزينٌ يجرح، وسماءٌ تعلو لكنَّها لا تحمي، وحنينٌ إلى وطن هو نفسه مصدر الألم.
(2025) عامُ يسينين في روسيا
يتسع معجم يسينين الشعري، أكثر بكثير من المفردات والقصائد المُشار إليها هُنا. وبقراءة المزيد منها، يشعر القارئ بأنّ يسينين شاعر الوجودية الحزينة، الذي ما يزال إلى يومنا هذا يحظى بشعبية عالية، فما أن تصدر طبعات جديدة من أعماله حتّى تنفد. وتحمل العديد من الشوارع والمكتبات، والمؤسسات الثقافية في روسيا اسمه. وتُزيِّن صوره واجهات المتاجر والمكتبات على امتداد الجغرافيا الروسية.
بل أكثر من ذلك، إذ أعلنت السلطات الثقافية الروسية أنّ عام (2025) هو عام يسينين في روسيا، حيث أقرّت الاحتفاء به طوال هذا العام، الذي يتصادف فيه الذكرى الـ 130 لميلاده (3 أكتوبر 1895)، والذكرى المئوية لوفاته (28 ديسمبر 1925). ويُقام بهذه المناسبة العديد من الفعاليات الثقافيّة التي تحمل اسمه: (مهرجانات شعرية – معارض فنية – عروض مسرحية مستوحاة من حياته وأعماله – قراءات عامة لأشعاره بمختلف اللغات وغيرها…).
وقد صرّحت وزيرة الثقافة في الاتحاد الروسي، أولغا ليوبيموفا: «إنَّ سيرغي يسينين ليس مجرَّد اسم في تاريخ الأدب الروسي، بل هو رمزٌ للعلاقة الوثيقة بين الشعر وروح الشعب الروسي. واحتفالاً بذكراه، نسعى جاهدين لتوحيد جميع القوى الثقافية في البلاد؛ فكل مشروع وكل فعالية هي خطوة نحو الحفاظ على إرثه، وبشكل عام نحو تعزيز التواصل بين الأجيال من خلال الفن والأدب. ومن المقرر تنظيم العديد من الفعاليات في جميع أنحاء البلاد بمناسبة ذكرى الشاعر العظيم في المتاحف والمسارح والمكتبات والمؤسسات التعليمية ودور النشر والمجتمعات العلمية التي تدرس الإرث الإبداعي للشاعر/ ترجمة: جودت هوشيار».
