ألمٌ وشجنٌ وشعورٌ بالوحدة والضعف والانعزال والانفصال عن الروح والسفر بعيدا عن الذات في غياهب التيه والضياع. كلها معانٍ قد تجسد مفهوم الغربة بأقسامها وأنواعها. وإن كانت قد وُسِمَت بالابتعاد عن الوطن ومرابع الصبا والأهل والأحبّة. هذه المعاني التي جعلت الشعر العربي الجاهلي لا يفارق سمته الأساسية وهي الوقوف على الأطلال كناية عن الترحال والتغرّب والابتعاد في محاولة لرسم معاناة الشوق والحنين.
وإذا كان الشاعر في وقوفه على الطلل إنما يجسد ألمه وحسرته وشوقه الكبير لمن كان ساكنا فيه، فهو في الحقيقة يستجلب الذكريات الجميلة التي كان يعيشها. يقول عنترة:
لمن طَللُ بوادي الرّملِ بالي
مَحتْ آثارَهُ ريحُ الشّمالِ
وقَفتُ به ودَمعي من جُفُوني
يَفيضُ عَلى مَغَانِيه الخَواليِ
أُسائِلُ عن فَتاةِ بني قَرَادٍ
وَعَنْ أتْرابِـــها ذَاتِ الجَـــمالِ
وَكَيفَ يُجيبنِي رَسَـمٌ مُحِيلٌ
بَـــعيدُ لا يرُدُّ عَلى ســؤاليِ
إذا صَاح الغُرابُ بهِ شَــجَانِي
وأجْرى أدَمُـعيِ مثُل اللاَلي
وأخبَرنِي بأصناف الرَّزايا
وبالهجرانِ مِنْ بَعَد الوصَالِ
وقد يذهب بعيدا في مناجاته فيساءل الحجر والطرقات عن الأحبة الذين هاجروا ولم تبق إلا آثارهم في لمحة تجسد الحزن والألم. يقول امرؤ القيس:
فَتُوضِحَ فَالمِقَراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها
لما نَسَجَتْها من جنوبٍ وشَمْألِ
تَرى بَـــعَرَ الأرآمِ في عَرَصاتِها
وقَيِعانَــها كأنَّهُ حَــــبًّ فُلْفُلِ
وَقوفاً بها صَــحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّهمْ
يقَولونَ لا تَـهلك أسىً وتَجَمَّلِ
وإذا كان هَمُّ الشاعر الجاهلي هو الوقوف على الاطلال كونه يعيش في البادية، فانَّ الشاعر الحضري ذهب أبعد من ذلك في تجسيده لغربته وحزنه وألمه كما فعل المتنبي في وصف العيد وهو بعيد عن أحبابه وأهله ووطنه حيث يقول:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ
فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ
لَولا العُلى لَم تَجُب بي ما أَجوبُ بِها
وَجناءُ حَرفٌ وَلا جَرداءُ قَيدودُ
وَكانَ أَطيَبَ مِن سَيفي مُضاجَعَةً
أَشباهُ رَونَقِهِ الغيدُ الأَماليدُ
لَم يَترُكِ الدَهرُ مِن قَلبي وَلا كَبِدي
شَيْئاً تُتَيِّمُهُ عَينٌ وَلا جيدُ
والغربة التي آلمت الشعراء آلمت غيرهم على حد سواء. وإذا أردنا ان نغوص فيها أكثر، فان لفظ الغربة بما يحمله من معانٍ كثيرة في جذره اللغوي هو الابتعاد عن الوطن والنزوح لديار أخرى. إلّا انه في معناه اللغوي النفسي يعني أن الفرد أصبح غريبا. وربما يتوافق ذلك مع معاني الابتعاد والانتقال من مكان الى آخر كون الغربة تشير الى جهة الغرب كالانتقال من جهة المشرق الى المغرب. ومنه يأتي أيضا مفهوم الغرابة والاستغراب وهو إيجاد كل الأشياء المحيطة غريبة عنه ولا تنتمي إليه ولا ينتمي هو إليها. ومنه يأتي معنى الانتهاء والأفول مثل قولنا غربت الشمس. وإذا جمعنا المعاني المستقاة من المعجم لوجدنا أن مفهوم الغربة يعني الانسلاخ عن الوطن والأصل والجذر والعيش بعيدا عنه في محيط ليس فيه انتماء أو صلة. وإذا كان هذا معناها في اللغة فإن معناها وأثرها النفسي يشير لأكثر من هذا بكثير؛ فالغربة في مفهومها الروحي تعني الشعور بالانفصال وفقدان الانتماء وهو ما يؤدي في الغالب الى العزلة أو الشعور بها والوحدة وبالتالي القلق ومن ثم فقدان الهوية والتأثير في المحيط. وقد يكون وقعها وتأثيرها النفسي كبيرا يؤدي بالفرد الى الانفصال عن الذات والانزواء عن المجتمع.
وإذا كان الحديث عن الغربة في موضوعات الأدب والشعر فانه يعني بالدرجة الأساس مفهومها النفسي وتأثيرها الاجتماعي والروحي؛ فهي في حقيقتها كما وصفها أبو سليمان الخطاب فقدان الاتصال الروحي بالمحيط حتى لو كان الفرد بين أهله ووطنه. قال:
وما غربةُ الإنسانِ في شقّة النوى
ولكنها واللهِ في عدمِ الشكلِ
وإني غريبٌ بين بُستٍ وأهلِها
وإنْ كان فيها أسرتي وبها أهلي
وإذا كانت الغربة ابتعادا عن الوطن كما يجسده عبد الرحمن الداخل في قوله :
أيها الراكب الميمِّم أرضي
أقرِ من بعضيَ السَّلامَ لبعضِي
إنَّ جسمي كما علمتَ بأرضٍ
وفؤادي ومالكيهِ بأرض
قُدِّر البين بيننا فافترقنا
وطوى البينُ عن جفونيَ غمضي
قد قضَى الله بالفراقِ علينا فعسى
باجتماعنا سوفَ يقضِي
إلّا أن تأثير الغربة كما أن له مناحيَ سلبية فله مناحٍ ايجابية أيضا؛ فهي السبب في دفع الشعراء لإنتاج أعمال مميزة؛ وذلك أن الابتعاد عن الوطن والأهل والجذر يفضي الى الحنين والشوق واللوعة فيثير مشاعر الغربة والألم؛ الأمر الذي يدفع الشعراء لترجمة هذه المشاعر الثرة في أشعارهم فتخرج صادقة معبّرة.
ولا بأس أن نستشهد بقول عبد الرحمن الداخل أيضا في ذلك عندما حاكى نخلةً جُلبت له من المشرق لتُزرع في الأندلس:
تبدَّتْ لنا وسْطَ الرصافة ِنخلةٌ
تناءِتْ بأرضِ الغربِ عن بلدِ النخْلِ
فقلتُ شبيهي في التغربِ والنوى
وطول التنائي عنْ بنِّي وعنْ أهلي
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ
فمثلكِ في الأقصاءِ والمنتأى مثْلي
غير ان مفهوم الغربة قد تغير مع تغير الزمان والعصر وتبلّد المشاعر واندثار معظم الأصول والعادات والقيم؛ خاصة بعد التقدّم العلمي والتقني الذي أصاب الحياة الاجتماعية البسيطة بداء التقنية الذي لا لقاح للنجاة منه. فانتقلت الغربة من مفهوم الوطن والقبيلة والبيئة الى مفهوم الأسرة ففككتها وبعثرتها وحطمت روابطها وأصبح الفرد وحيدا غريبا منعزلا مفصولا عن أسرته قبل أن يكون مفصولا عن بيئته ووطنه. بل ان الأنكى والأكثر من ذلك أن ينفصل الإنسان عن ذاته في غربة تحجمه وتسجنه داخل إطار ذاته المنفردة.
فالمجتمع الذي أصبحت سمته الكذب والاحتيال والغدر والاعتداء وعدم الصدق وعدم الأمان أضحى مجتمعا غريبا يعيش غربةً وكلُّ من فيه غرباء لا ينتمي بعضهم لبعض. وربما يكون هذا المستوى من الغربة هو الأخطر على المجتمع والأفراد.
يقول الشاعر أبو الصلت الداني:
رَمَتنـي صُروفُ الدَهرِ بَينَ مَعاشرٍ
أَصـــحُّهُمُ ودّاً عَـــدوٌّ مُقاتــلُ
وَما غُربَةُ الإِنسانِ في بُعدِ دارِهِ
وَلَكِنَّهـا فـي قُـرب مَن لا يُشاكِلُ
وقريبٌ من هذا قول أبي سليمان الخطاب:
وليس اغترابي عن سجستان أنني
عدمتُ بها الإخوانَ والدارَ والأهلا
ولكنني ما لي بها من مُشاكِلٍ
وإنَّ الغريبَ الفردَ من يُعدَم الشكلا
وقد كان وقع الغربة والتغارب على الشعر والأدب كبيرا جداً تمثل بنتاجات طيبةٍ مليئةٍ بالألفاظ والصور والتراكيب. من ذلك قول الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب في قصيدته الخالدة (غريب على شاطئ الخليج):
الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل
وعلى القلوع تظل تُطوى أو تُنشَّر للرحيل
زحم الخليج بهن مكتدحون جوَّابو بحار
من كل حافٍ نصف عاري
وعلى الرمال على الخليج
جلس الغريب يسرّح البصر المحيَّر في الخليج
ويهدُّ أعمدة الضياء بما يُصَعِّدُ من نشيج
أعلى من العبَّاب يهدر رغوُهُ ومن الضجيج.
وغير بعيد عنه يقول أحمد مطر الذي عاش الغربتين غربة الوطن وغربة الروح حيث يقول:
كلُّ ما في بلدتي
يملأ قلبي بالكمد
بلدتي غربة روح وجسد
غربةٌ من غير حد
غربةٌ فيها الملايين
وما فيها أحد
غربة موصولة
تبدأ في المهد
ولا عودة منها للأبد
شئتُ أن أغتال موتي
فتسلّحتُ بصوتي
أيها الشعر لقد طال الأمد
أهلكتني غربتي أيها الشعر
فكن أنت البلد
ومن المهم أن نذكر ان لفظ الغربة والاغتراب لم يرد في القرآن الكريم، إلا ان مفهومه ورد بكثرة في الفلسفة الاسلامية وخاصة الصوفية. فلقد تجسد مفهومها عندهم في فكرة الانفصال عن (مشارق الانوار)؛ وتعني انفصال المخلوق عن الخالق كما تصوّره الآيات القرآنية في قصة آدم عند خروجه من الجنة وهبوطه منها ومن ثم حياته التي كانت مليئة بالغربة وفق المفهوم الصوفي. وقد شاع عند النقاد والمهتمين بالأدب أنَّ خير من وصف الغربة والاغتراب وتبنّى فكرتها كانوا هم المتصوفة؛ إذ انهم لم يكتفوا بتجسيد الغربة بقصة سيدنا آدم فقط بل ذهبوا الى تعميم هذه الفكرة لتجسد كلَّ الأشياء والمحطات التي ينتقل اليها الانسان عبر حياته الدنيوية ومنها غربته عن بطن الأم حينما كان جنينا وانفصل عنها؛ وفي هذا يقول ابن العربي في الفتوحات المكية (كانت الأرحام وطننا فاغتربنا عنها بالولادة).
إلا ان مفهوم الغربة تركز عند الفلاسفة المتصوفة بصورة الانفصال عن (مشارق الأنوار).
عن أبي مدين شعيب الغوث انه قال:
وَمِن عَجَبٍ أَنّي أَحِنُّ إِلَيهِمُ
وَأَسأَلُ عَنهُم مَن أَرى وَهُمُ مَعي
وَتَطلُبُهُم عَيني وَهُم في سَوادِها
وَيَشتاقُهُم قَلبي وَهُم بَينَ أَضلُعي
وقول رابعة العدوية:
أحبُّك حبَّينِ حبَّ الهَوى
وحبًّا لأنّك أهْلٌ لذاكَ
وأشتاقُ شوقَيْنِ شوْق النَّوى
وشوقًا لقربِ الخُطى من حِماكَ
فأمَّا الَّذي هُو شوقُ النّوى
فمَسرى الدُّموعِ لطولِ نواكَ
وأمّا اشتياقي لقربِ الحِمى
فنارُ حياةٍ خبتْ في ضِياكَ
ولستُ على الشّجْو أشكو الهوى
رضيتُ بما شئتَ لي في هُداكا
وقد تنوعت الغربة في موضوعاتها وأفكارها فأصبحت تشمل الاغتراب الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني والفكري إضافة للنفسي والروحي.
ونحن نعيش عصر الغربة والاغتراب المليء بالشجون والأسى والعزلة والانفصال عن الذات مع اندثار القيم وسقوط المرجعيات تكونت غربة جديدة من نوع خاص بلغت حداً أن الفرد أصبح يرى المحيط عدواً يتربصه ويتحيّن به الفرص، وقد ضاقت نفسه واضطربت روحه وتدكدكت دعائم ذاته ففقد بوصلته وضاعت اتجاهاته، فأصبح حائرا ضائعا يسير من غير هدى وقد اخذته الريح الفكرية والبيئية والمجتمعية والدينية والعقائدية والسياسية والنفسية والروحية مآخذ أغرقته في بحر من الغربات لا غربة واحدة فتشبّع بالغربة حتى أصبح غريبا في غربته.
ومن الجدير بالذكر أنَّ من الصعب أن نعرّف الغربة في العصر الحديث كونها أخذت أبعادًا أكثر فأصبحت تتفنّن في إيلامنا وإشعارنا بالأسى والحزن والندم. فالحياة التي أضحت منافيَ وسفراً وهروباً كان لها وقعٌ لا مثيل له على النفس. وقد يجسد هذا المعنى قول الشاعرة السورية سميرة عيد:
الغـربـةُ الحمــقاءُ دبّ دبيـبُها
وسَـرَتْ بــهم بمصـائبٍ ودواهِ
وعلى رصيف الرُّوح بضعُ رسائلٍ
سَرَقتْ هـدوءَ البـالِ دون تنــاهِ
حـُزنٌ مـع الأيـام أيـنـعَ صبرُه
دمـعاً يـواسي حـرقـةَ الأفـواهِ
وهناك في صدر النّسيمِ غمامةٌ
تسقي غريقاً في صدىً متـماهِ
قلبي عـلى أمٍّ تـُغالبُ دمـعَـها
لتـرومَ ظــناً لم يخِبْ بـالـلّـهِ
تـبَّ السّـفين وتـبّ غـربتَها فقدْ
رشفَ الشِّراعُ دمــاءَهم بميـاهِ.
ان الغربة التي لا تكفُّ عن محاربتنا والتصدّي لمحاولاتنا في العيش الهانئ الهادئ أضحت أكثر استعارا كلّما حاولنا التصدي لها. إلا ان الأمر المؤسف أنها تنجح في كل مرة بالانتصار علينا. فهل من سبيل في الوقوف بوجهها والعودة الى ذاكرتنا وزمننا الجميل؟!