كلمتي في تكريم سليم الحص

حيّان سليم حيدر

أن تتكلّم عن سليم الحص، ولا أقول شهادة، فهو شرف وطبيعي ومتعة في آن، أمّا أن تُعطى دقائق معدودة لهذه الغاية فهذه، لا شك، عقوبة.  إلا أنّي سأحاول إعطاء المهمة بعضا من حقّها.

أصحاب ألقاب الجدارة والمحبّة،

أيّها الحفل الوفيّ.

مع كرور الأيام والسنين، يُرضيك أن تدرك.. ولو بعد حين.. أنك مع هذا الذي يقول الصحّ.. ويفعله.

ما يأسرك في علاقتك مع سليم الحص، الأخلاق أولا.. وباقي الخصال تنهمر. والمجموعة التي تتحلّق حوله تحاول جاهدة أن تثبت لنفسها مقولة: كما تكونوا يُولّى عليكم ! علّها تنجح مع رجل دولة في مجتمع بقي من دون دولة.

إنّها سيرتي الخاصة في ذكريات مبعثرة تلبية لضيق وقت الكلام، لأنّ سيرته السياسية حرص هو على توثيقها وتأريخها وتحقيبها شخصيّا، كلّ حقبة سياسية في حينها، في ما يزيد عن عشرين مؤلّف، وبلغتين، فقليل هو ما يمكن إضافته في ذلك المجال.

مع سليم الحص أنت تعمل في منظومة أخلاقية كاملة.  أخلاق في الفكر والقرار والتصرّف وحتى في الظنّ، وأنت تعلم أنّ جلّ من لا يخطىء، لكنّك تعمل معه على قاعدة أنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه، وعليك إجراء فحص ضمير ذاتي بغية التماهي مع طريقة عمله، ودائما في سبيل المصلحة العامة.  هو تحدّي تتمتّع بواسطته بـ » تأنيب الضمير« مع ضمير الناس.

أنت تقرأ بإعجاب في تهذيبه الجمّ في التعاطي مع الآخرين.   فطلبه المحال الى موظف في الإدارة فيه حكما تنويه بوجوب الحرص على تطبيق القانون ومراعاة الأصول.  وفي استعمال اللغة الصحيحة والدقّة في التعبير، أذكر هنا ملاحظة وجّهها إليّ على أول تقرير فنّي قدّمته له في العام 1974 وأوردت فيه العبارة الشائعة:  »وتجدر الإشارة الى..«  فقال: يا حيّان، أنت مهندس وقد درست الموضوع بالعمق ولو لم تجدر الإشارة لما ذكرت الموضوع.

ومن طبيعة أدبه أنه، وبعد عِشْرة ما يزيد على أربعين عاما، وكلّما همّينا بالخروج من باب الغرفة، ما زال يدعوك للمرور أمامه

ولأنّ دماثة الأخلاق لا يمكن أن تغيّر عنده في صلابة الموقف، أقتبس سريعا جدّا ما أختصرته من مواقفه. يقول:

 »مشكلة لبنان، لا بل معضلته، أن المسؤول فيه غير مسؤول« 2017،  ثمّ:

 »أضحى مجرمو الحرب من نجوم الساحة السياسية يحاضرون في العفّة ويُتحِفونا بالحِكَمْ اليومية« 2005. أمّا رأيه في تعديل الدستور:

 »الطائف ليس نهاية الطريق وإنّما هو الطريق.  هو الطريق الى مستقبل أفضل« 1994،  وما أدراكم ما هو المستقبل الأفضل في عاصفة الخلافات القائمة على مهل وصلاحيات الطائف ؟ وأذكر أنّه كان يقول مازحا أنه إذا اجتمع النواب في الطائف فيُمْسي دستورنا طائفيّأ، وأمّا إذا اجتمعوا في جدّه فقد يكون جدّيّا، وكان اقتراح المدينتين قائما كمقر للإجتماع.  أمّا النتيجة؟  فباتت واضحة!

وفي القضية يقول:

قاطعوا البضائع الإسرائيلية، ليس لأنّها مسمّمة بل لمجرّد أنها آتية من عدو للشعب والوطن والأمّة.

2012.وأين نحن من ذلك كلّه؟« ثمّ يُردِف:

 »إنّ الصهيونية حركة إستعمار واستغلال وهيمنة… ويتوجّه الى العرب بالقول… قلّما مرّ في التاريخ أمة تطالب بنصف حقّ، الحقّ يكون واحدا متكاملا أو لا يكون«.

أقوال واضحة قوية والشهود عينها شاهدة… مواقف لا مواربة ولا مجاملة فيها لرجل لا عنفي بامتياز.

وفي العلاقة السياسية معه أذكر ما قاله لي صديق، أكاديمي وإعلامي، أن أكثر ما يرضيك في أن تكون مع سليم الحص هو أنك تحسّ بالتمايز لأنّك حرّ وتبقى صاحب رأي وأنت تنتمي بقناعة تامّة الى مجموعته التي ضمّت فيمن ضمّت من فهم أنه يمكن أن تكون صديقا لحكم القانون وأنّ النزاهة  »مش عيب«.

وأزيد، بعد أن تكرّر، على مرّ الزمن، سؤال بعض أهل السياسة والصحافة لي: ما هو سرّ علاقتك بالرئيس؟  والآن يمكن لي أن أفصح عن مدى هذا السرَ، وقد أحجمت عن الجواب في الماضي مراعاة  لشعور البعض.  الأمر هو أنّك، كما يحتاج كلّ كائن حيّ الى كمية من الأوكسيجين اليومي، قد تحتاج أنت الى جرعة من النقاوة في النفس وفي الفكر وفي تنظيم قراراتك المصيرية، فترى نفسك تزوره تلقائيّا لتتزوّد بها.  وفي الجوّ الموبوء سياسيّا الذي كان سائدا والذي يتفاقم يظهر أنّي كنت بحاجة دائمة الى جرعات منها بدليل أنّ زياراتي كانت تتكرّر مرتين في اليوم أحيانا.

وفي الأمور المالية، فلا مكان للخفّة. هناك الإمتحان الأصعب.  فإن كانت تقديمات أو تبرّعات وما شابه من أفراد أو مرجعيات أو دول، وإن كانت وجهة استعمالها العمل الخيري أو الإجتماعي أو العام، فعليك بلجنة، ويستحسن أن تضمّ مدقّق حسابات، ونظام مالي وموازنة وكلّ عدّة الشفافية مع حدّ أقصى للتبرّع فتقرير مالي وقطع حساب.  أما إذا بقي مال في الصندوق.. فإلى الجمعيات الخيرية فورا. وإذا أتتك الهدايا على شكل طائرة خاصّة أو سيارة مصفّحة، فإلى الدولة والحكومة مثواها كونها لم تكن لتُهدى لولى موقعه السياسي.

وعندما يكون الوطن في خطر، ونادرا ما لم يكن، فلا مراعاة  للأمور الشخصية.  ولأنّ الوطن ليس فندقا، لا يغادر مقرّه في المناطق السكنية الآهلة القابعة تحت القصف الى منزله في الدوحة، مخافة من نشر الهلع في نفوس أهل الجوار.  وفي حدّة انقسام الناس، ومتى لم ينقسموا؟ الى بيروت غبيّة وبيروت شقيّة، لا ينسى أن يخاطب، في نداء الى،  »أخي في بيروت الشرقية« يطمئنه فيه بانتمائنا جميعا الى وطن ومصير واحد.  ومن ثمّ يخاطب رؤساء الدول في أحلك الأوقات )وما زلنا في العتمة( واضعا نقاط لبنان على حروف المنطقة بلغاتهم العالمية.

وعندما أفهمونا أنهم لا يفهمونا، باقتضاب، تمايز بموقفه معتزلا العمل السياسي منصرفا الى العمل الوطني حريصا على مصالح الناس والدولة والوطن.

ثمّ أحسّ، مرهفا، بأن البلاد باتت تقف على فالق سياسي مدمّر، فدعا، وقبل أسبوعين من زلزال 14 شباط 2005، دعا الى اجتماعات موسعة أفدت الى نشوء منبر الوحدة الوطنية وكنّاه بالقوة الثالثة في وجه الإصطفاف العامودي.   وبعدها، عندما اندمجت القوتان في حكومة واحدة، وليس وحدة، تتقاسمان فيها مصالحها، أعلن من أمام باب الرئاسة الأولى حذف كنية القوة الثالثة من منبرنا لإنتفاء الحاجة إليها.

وأختم باستعارة لطرفي نقيض السيرة: الظُرف عنده دائما في طرف يومياته، والصلابة في المصيري من مواقفه.

ما أجملها لحظة طراوة عندما نكون مكدّسين في تلك الغرفة المحدودة المساحة، الواسعة الإحتضان لجلّ شجون البلاد ولكثير من مجون العباد، والكلّ فيها يُجَدوِل المطالب والمهام في خضمّ انقسام الحكم والمقاطعة والمراسيم الجوالة تسييرا لأمور الناس ودائما مع إحترام الصلاحيات.  ثمّ يأتيك مدير متأبّطا قرار استمراره في الوظيفة، متجهّم الوجه، مقطّب الحاجبين، يضع قراره أمام الرئيس شاكيا: يا دولة الرئيس، أنا لم أعد أعرف هل أنا مدير عام بالأصالة أو بالوكالة أو بالإنابة أو بالتكليف؟ ويأتيه الجواب فورا: أنت، يا فلان، مدير عام بالمتعة !  وقهقه.. وقهقه.. صاحب الطلب قبلنا نحن لتنفرج أسارير اللقاء ونمضي الى معالجة باقي شؤون الناس.

وفي الطرف الآخر، صلابةٌ لا تلين وموقف لا يراعي، ومن على صفحات الصحف يُقرِّع سليم الحص المسؤولين في مقالة بعنوان:  »الدين والطائفية والمجتمع« واضعا، بجرأته المعهودة، الطائفية في منزلة خيانة الوطن، أيّ الخيانة العظمى.  إسمعوا يا سياسيّين، ما أقواه من إتّهام !

     سليم الحص..

                 لقد نشأت سليما

                                وحكمت سليما

                                             وكرِّمتنا سليما

                                                        سلمت يداك… سلمت يداك.

                                                                                              والسلام عليكم.                                 بيروت في 12 كانون الأول 2018م.                                                                 حيّان سليم حيدر.