مايا أنجيلو شاعرة أميركا الأولى

“من وسط عار التاريخ، عار العنصريّة والتمييز على أساس عِرقيّ، من ماضٍ متجذّر بالألم، وطفولة مغمّسة بالصدمات، وكمحيطٍ أسود عميق وواسع – تأتي قصيدتها “Still I’ll rise-” بقوّةٍ وعزم يتحمّل التيّار، تاركةً ورائها ليالٍ من الخوف والرّعب، تزدهر مايا أنجيلو الفنانة الأفروأميركيّة الشاعرة وكاتبة السيرة الذاتية والممثلة والمخرجة، بشجاعة وثبات، منحاها أن تسكّ وزارة الخزانة الأميركيّة عملة معدنيّة تحمل صورتها تقديرًا لما قدمته للأدب وللذات الأميركيّة.

مايا أنجيلو

طفولةٌ صعبة

 عاشت مارغريت آن جونسون (1928- 2014) المعروفة باسم بـ مايا أنجيلو  Maya angelou طفولة مكلّلة بالمعاناة، وحياةً لا تعرف الاستقرار، ولدت في سانت لويس بولاية ميسوري.

من صدمة الانفصال عن الوالدين بعد طلاقهما، إلى صدمة إرسال والدها لها وهي في الثالثة من عمرها وأخيها الذي يكبرها بعام في قطار وحدهما مع ورقة أُلصقت بمعصمهما تعرّف بهما في الطريق للعيش في بيت الجدّة، التي تعيش في ولاية اركنساس، والتي كانت تملك متجرًا صغيرا لبيع السلع. وهناك واجهت مواقف عنصريّة كما العديد من الأميركيين ذوي الأصول الإفريقيّة، ممّا راكم في داخلها الشعور بالمهانة والدونية، فتذكر أنها كانت تحب الفساتين، وكانت مغرمة بفُستان تحبه، ولكن سخرية أشخاص من فستانها ذلك جعلها تكرهه وتكره الفساتين.

وفي سن السابعة حضر والدها ونقلهما دون سابق إعلام إلى كنف والدتهما، في سانت ليو، وهناك تعرضت انجيلو لصدمة قاسيّة أخرستها لخمس سنوات إثر تعرّضها لانتهاك جسديّ على يدّ صديق والدتها. حينها لم تستطع الدفاع عن نفسها، وقد هددها بالقتل، فلجأت إلى أخيها الذي بدوره أخبر العائلة، سُجن المعتدي لعام واحد فقط، وبعد خروجه قُتل على يدّ أحد أفراد عائلتها -انتقامًا-.

 بعدها عادت إلى كنف الجدّة وهناك استعانوا بالمعلمة “بيرثا فلاورز” التي فتحت رأسها وقلبها على عناوين كبيرة في الأدب، فقرأت لها شكسبير إدغار آلان بو، وتشارلز ديكينز، وحدّثتها عن فنانات من ذوات البشرة السوداء مؤثّرات أمثال (فرانسيس هاربر، جيسي فاوست)، مما ساعدها على استعادة ثقتها بذاتها واستعادة قدرتها على الكلام.

عن تلك المرحلة تقول: “أظن أن صوتي قتله، فقد قتلت هذا الرجل لأنني أفصحت عن اسمه، ومن ثم لن أقوى على الكلام ثانية، لأن صوتي بإمكانه قتل أي شخص آخر”.

 وفي سن الرابعة عشر انتقلت أنجيلو وأخيها للعيش مع والدتها، في كاليفورنيا وهناك وإبان الحرب العالمية الثانية التحقت بمدرسة جورج واشنطن العليا، وتعلّمت الرقص والدراما في مدرسة كاليفورنيا، وشغلت عدّة وظائف كان حكرًا على البيض منها قاطعة تذاكر في الترام بسان فرانسيسكو.

الحُبّ يحرّرنا

“نحن، غير المعتادين على الجرأة

نحن المنفيين من المتعة

نحيا متكوّرين في أصداف العزلة

إلى أن يخرج الحبّ من معبده المقدس العالي

ويتبدّى في مدى بصرنا

ويحرّرنا ويخرجنا إلى الحياة.”

في سن السابعة عشر أنجبت أنجيلو طفلها “غاي جونسون” نتيجة علاقة لا شرعيّة مع زميل لها في الدراسة، ووجدت نفسها المسؤولة الوحيدة عن حياة طفلها، كانت تعيش مع والدتها في منزل كثير الغرف، قررت أن تترك المنزل مع استهجان والدتها، تقول في مقطع مصوّر -كما العديد من المقاطع التي تظهر فيها أنجيلو بوجه سموح وابتسامة راضية تروي لنا حكمة نضوجها-، يومها قالت لها والدتها: “عندما تخطين عتبة البيت ستكونين قد كبرتِ، وتعرفين الفرق بين الصواب والخطأ، افعلي الصواب..” وهكذا تقول أنجيلو أن والدتها حرّرتها على الرغم من معارضتها لقرارها بالرحيل، وأخبرتها أنه بإمكانها المجيء متى ما أرادت، وفي كلّ مرة كانت تعود فيها لم تكن تلومها بل كانت ترحّب بها وبطفلها وتعدّ لها ما تشتهيه من الطعام، والاهتمام بطفلها..

في تلك المرحلة التي انتقلت فيها للعيش وحدها، اختبرت الكثير من مصاعب العيش، وجرّبت الكثير من المهن لإعالة طفلها، حتى أنّها انخرطت في العمل في الملاهي الليلية.

وفي مقطع من قصيدة بعنوان “وحيدة” تقول:

” وأنا مستلقية ليلة أمس كنت أفكّر

كيف أعثر لروحي على وطن

حيث الماء ليس ظامئًا

والرغيف ليس حجرًا

وصلتُ إلى شيء واحد

ولا أظنني مخطئة،

أنّه لا أحد،

لا أحد

يستطيع أن يشقّ طريقه لوحده هنا…”

امرأة استثنائيّة

لم تشأ أنجيلو أن تكون عابرة، فرسّخت دورًا لها في كلّ مرّة فتحت لها الحياة دربًا، وأسّست للكثير من علاقات الصداقة مع أُسر وشخصيّات ناشطة في المجتمع، كانت امرأة استثنائية، تقول:

“… أدخل إلى غرفة

جذابة كما يسرّكم

فينهض الجميع أو

يركعون على ركبهم.

ثم يحتشدون حولي،

كخلية نحل.

أقول،

إنها النار في عينيّ،

ولمعان أسناني،

وتمايل خصري،

والبهجة في قدمي.

أنا امرأة

على نحو استثنائي.

امرأة استثنائية

هذه أنا.”

لم تُبنَ هذه الثقة في نفسها جزافًا، بل كانت نتيجة الكثير من الدروس والعِبَر.

كانت أنجيلو ملهمة للنساء، وصوتًا نسويًّا يصدح بالحكمة ففي كتابها ” إلى ابنتي العزيزة” الذي يتوجه إلى جميع نساء العالم، متكِئَة على سيرتها الذاتية، تقول: “أنجبت طفلا ذكرًا، لكن لديّ آلاف البنات. أنتِ بيضاء وسوداء، يهودية ومسلمة، أسيوية، ناطقة بالإسبانية، أميركية أصلية…  بدينة ونحيفة وجميلة وعادية، مثلية وسوية متعلمة وغير متعلمة أنا أكتب إلى جميع الفتيات وأتحدث إليهن جميعًا”.

وتقول: “تعلمت أن أحب ابني دون أن أرغب بامتلاكه وتعلمت كيف أعلمه أن يعلّم نفسه”. ناقشت فيه موضوعات متفرّقة من الإيمان والامتنان والصداقة والعنف والبذاءة والاستقلالية.

تقول عنها الدكتورة داليا كشميري أستاذة محاضر في الأدب الإنكليزي المقارن في جامعة الأزهر: “وظّفت شعرها في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وكانت ناشطة حقوقيّة، فكتبت قصيد بعنوان “مساواة”

ساهمت مع مالكوم اكس في إنشاء منظمة لوحدة الأفارقة الأميركيين في غانا ومنظمة أخرى للحقوق المدنية، وأسست اتحادات نسائيّة لمواكبة ظروف النساء السود في أميركا، فأسست رابطة ثقافية للنساء من التراث الأفريقي.

وقد وصفها ميشال أوباما بالكاتبة الشجاعة والشرسة، وأنّ قدومها ورحيلها عن الحياة كان مثل البرق الساطع.

وتُضيف كشميري: “كان لديها نظرية قوس قزح الموجّهة للأطفال، التي تقوم على مبدأ أنّ أي شخص ملهم للطفل ويهتم بمستقبله سواء كان شاعرًا أو فنانًا أو أي شيء، يمثّل له قوس قزح لأنه يكمن في السحاب والسحاب قريب من الأرض “

ولأنجيلو عدة مؤلفات موجّهة للأطفال مثل: “منزلي المرسوم، دجاجتي اللطيفة وأنا”، “الحياة لا تُخيفني”..

فنانة، شاعرة، وكاتبة سيرة ذاتيّة..

درست الرقص ومارسته في الأنديّة، ومنها الرقص على موسيقى الكاليبسو، وقد سجّلت أول ألبوم لها، بعنوان ” ملكة جمال الكاليبسو” في العام 1957. غنّت في فرقة “ذا بلاك” العام 1961.

كتبت وقدّمت ” Blacks, blues, black ” وهي سلسلة أفلام وثائقية مكوّنة من عشرة أجزاء تتناول العلاقة بين موسيقى البلوز وتراث الأميركيين الأفارقة لصالح التلفزيون الوطني التربوي.

وظهرت في مسلسل جذور الأميركي 1977. كتبت فيلم “جورجيا جورجيا” وأخرجت فيلما سينمائيا “إلى أسفل الدلتا” 1998. ظلت محاضرة في الجامعات الأميركيّة حتى الثمانينات من عمرها.

أُطلق عليها لقب: “شاعرة أميركا الرسمية السوداء” وكذلك أطلق على شعرها ” نشيد الأمريكيين الأفارقة” ورُشحت مجموعتها الشعرية ” أعطني كوب ماء بارد فأنا أموت” لجائزة بوليترز في العام 1971. وقد اشتهرت بقصيدة ” على نبض الصباح” التي ألقتها في حفل تنصيب الرئيس الأميركي “بيل كلينتون” العام 1993.

وُصفت قصائدها بأنها تؤدي وظيفةً اجتماعية أكثر منها جماليّة. مما عرّض شعرها للكثير من الانتقاد الذي طال شعريّتها.

تُشير الدكتورة داليا كشميري، عن مراحل تطوّر كتابتها الشعريّة:” من شعر ينصب على فكرة السواد، والظلام والشعور بالذنب والكراهية، ورفض النفس وعدم قبول الآخر ثم تطوّرت إلى مرحلة إثبات الهوية واكتشاف الذات، ثم بعد ذلك مرحلة التصالح مع النفس.. “

الطائرُ الحبيس

قدّمت أنجيلو ما يقارب السبع سيَر ذاتيّة؛ كان الإفصاح بالحقيقة طريقها للتحرّر من الألم. انتقلت منذ بداية أربعينيّاتها لكتابة فن السيرة الذاتيّة، حيث أرّخت لحياتها ومراحل عمرها، وجعلت من شخصها مرآة لكلّ مرحلة زمنيّة عايشتها تناولت فيها الأوضاع بشكل عام السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، والتطوّرات والأحداث التي ساهمت في بلورة شخصيّتها، وركّزت على نقل معاناة الأميركيين من أصول إفريقيّة، وكفاحهم.

 كانت البداية مع “أعرف لماذا يغرّد الطائر الحبيس” 1969:

” الطيرُ الحبيسُ يغنّي برعشةٍ خائفة

عن أشياء لا يعرفها … لكنه يتوق إليها

وألحانه.. تُسمَعَ في الهِضاب القَصيّة

ذاك أنّ الطيرَ الحبيس

يغنّي عن الحريّة.”

تحدثت فيه عن صدمات طفولتها منذ تفتح ذاكرتها حتى سن السابعة عشر.

“اجتمعا معًا في اسمي” 1974، هي السيرة الذاتية الثانية التي تروي حياتها منذ السابعة عشر وتُصوّر فيها كيف وجدت نفسها أمًا وحيدة تمارس البغاء لإعالة طفلها.

 وقد تحدثت أيضًا عملها طاهية، ويُذكر أنّها كانت ماهرة في فن الطبخ، ومزجت بين مهارات الطهي ومهارات الكتابة في مؤلف “هاللويا! مائدة الترحيب” تضمّنت وصفات تعلمتها من جدتها ووالدتها مرتبطة بمجموعة من القصص.

سيرتها السادسة كانت “الأغنية التي صعدت عنان السماء” 2002. وفي سن الخامسة والثمانين أصدرت سيرتها السابعة “أمي وأنا وأمي” 2013، والتي تناولت علاقتها بوالدتها.

 في نهاية العام 2010 تبرّعت بأوراقها الشخصية وتذكاراتها المهنيّة لمركز شكومبيرغ للبحث في ثقافة السود بهارلم. وضمّت الوثائق ملاحظات مكتوبة بخطّ يدها، بريد المعجبين مرسالات شخصية ومهنيّة .

وَصَف الباحث جون ماكورتر أعمالها بالكتابة الدفاعية ضمن تقاليد الأدب الأفروأميركي باعتباره سلاح للدفاع عن ثقافة السود في وقت كانت الكاتبات السودوات مهمّشات، جعلتها سيرتها الأولى المرأة السوداء الأكثر سطوعًا في سماء أميركا والصوت الناطق بفن السيرة الذاتية.

كرّمتها الجامعات والمنظمات الأدبية والأجهزة الحكومية وجمعيات المصالح الخاصة بفضل أعمالها الأدبية. سكّت وزارة الخزانة الأميركيّة عملة معدنيّة تحمل صورتها من فئة الربع دولار.

ودخلت أعمالها في المناهج الدراسيّة وكذلك استُخدِمت لأغراض تدريبية تعليميّة، للتحدث عن الأعراق.

وعنها قال بيل كلينتون ” كانت من أهم الأصوات وأقواها في العالم”.

ونختم بمقطع مقتبس لها، تقول:

“عندما تموت النفوس العظيمة، بعد مدّة يزدهر السلام، رويدًا رويدًا وبطريقة غير منتظمة، ليملأ الفراغ داخلنا، لكن حواسنا المستردة ثانية أبدًا لن تعود كما كانت، بل هي تهمس لنا: أنهم موجودون، موجودون، وبإمكانكم أن تكونوا أفضل لأنهم موجودون”.