محمد ناصر الدين: شاعرٌ ومترجمٌ خَليلتُه اللغة

ماذا لو استبدلنا بالعبارة القائلة «لكلّ امرئٍ من اسمه نَصيبٌ» عبارةُ «لكلّ امرئٍ من قريته، وما تطلّ عليه نَصيبٌ»!
فمن قرية «سُجد» التي استعارت اسمَها من الخشوع في حضرة الله، فاستلقت على أعالي قمّة جبل الريحان تُناجي الخالق، مطلّةً على إقليم التفاح ومناطق واسعة من الجنوب اللبنانيّ، والجولان السوريّ المُحتلّ، والجليل الأعلى في فلسطين المحتلّة؛ جاء الشاعر محمد ناصر الدين، مُمسكًا بحفنة ضوء، نفخ فيها وقال «كوني!»، فكانت قصائده التي اتّسعت لها تسعُ مجموعات شعريّة. استمدَّ مفرداتها من بيئة الجنوب وطبيعته، ومن المقاومة، والأساطير، والقرآن الكريم، والحبّ الذي وجد فيه قوّةً تُحيي ما تمسُّهُ.

  في حضرة الشعر، تارةً يُناجي الله: «أيّها الربُّ العظيمُ/ حين تتطاير الأجسادُ نحوك في الانفجار/ أعدها إلى الأرض/ مثل كرة ترتطم بالعارضة/ ثمّة متفرجون كُثرٌ هُنا». وتارةً يُناجي الجمال، ليختزله بتكثيف يجمع ليلَ القرية والقمرَ وشهداءَ المقاومة وطبيعةَ الجنوب ووجه أمّه «نورا»: «يكون القمر خَشنًا/ حتّى يمرّ في الصيف فوق قريتنا/ يرتدي وجهًا زهريًّا مثل الخجل/ يُمسكه فرسانٌ دُفنوا فوق جيادهم من يده/ يدبك على منجيرة الراعي/ ويروّض الوحوش في الوادي/ ولئلّا يموت عند أوّل الصبح/ يسيلُ فضّةً على وجه أمّي». يخبرنا بمفارقة مذهلة أنّ الرحمة تقتل البشاعة والحروب والانقسامات: «في قلبي إلهٌ صغيرٌ/ يملك سهمًا اسمُه الرحمة/ يكسر الآلهة المُحاربة».

 ولأنّ اللغة خَليلتُه، لم تقتصر شعرًا، بل امتدّت لتشملَ عشرات المقالات الأدبيّة والتحقيقات والحوارات، واتّسعت أكثر لتلامس ميدان الترجمة.

  في هذا الحوار، نُبحر معه في سماء لغته العالية:

– يكفي أن يُذكر اسم «مرسيا إلياد» ليكونَ القارئ أمام وجبة معرفيّة غنيّة للعقل والروح. فـ«إلياد» من أبرز مؤرّخي الأديان الرومانيّين، وفي كتابه «حدّادون وخيميائيون» قدّم رؤيةً ثوريّةً لتاريخ الأديان، من خلال تحليل الممارسات الرمزيّة للحدّادين والخيميائيّين في الحضارات القديمة. هل وجدت نفسك أمام مخاطرة حقيقيّة عند بَدء مشوارك في الترجمة، بترجمة كتاب يُدرَّس في سياقات أنثروبولوجيا الأديان، وتاريخ العلوم، وفلسفة المادة لأحد عمالقة مؤرّخي الأديان؛ خاصّةً وأنّه استخدم فيه لغةً غنيّةً بالرموز، مستندًا إلى نصوص تاريخيّة وأساطيرَ قديمة؟

– بالفعل وجدت نفسي أمام مجازفة تشبه رحلات أولئك الملّاحين والمستكشفين القدامى إلى قارّات وأراضٍ مجهولة. لكنّها مجازفةٌ ممزوجةٌ بالمتعة، وبما يقوله إلياد نفسه: أن يمسّنا العمل المكتوب بحجر المعرفة، فيحوّلنا من الداخل أثناء رحلتنا معه. أترجِم فأضيء. خاصّةً إذا أدركنا مكانة إلياد على الخريطة الثقافيّة في بلاده الأصليّ ة التي «في لحمها تسيل بيزنطة وتتسكّع مرّةً في أوروبا ومرّةً في الشرق»؛ ثمّ في البلد الوجهة فرنسا، حيث شكّل هو وإميل سيوران وتريستان تزارا ثالوثًا فريدًا في الفلسفة والشعر وعلم الأديان. هجر هؤلاء الثلاثة لغتهم الأصلية وكتبوا بالفرنسية، كانوا يكتبون لغةً فوق اللغة، ما يُعيدنا إلى تعريف الترجمة في أساسها، ومقولة دولوز أنّ النصّ الجيد هو ما يبدو للوهلة الأولى مكتوبًا بلغة أجنبية. أخذني إلياد من يدي إلى عالمه، وكأنّ الخيمياء التي تحدّث عنها في نصوصه حوّلت هذه الترجمة إلى رحلة روحيّة أكثر من كونها عملًا احترافيًّا.

– بعد قراءتي الكتاب، وجدت أنّ لغتك كمترجم نجحت بأن تكون لغةً شعريّةً تُحافظ في الوقت ذاته على تعقيدات النص الفلسفيّة، مع هوامشَ توضيحيّة أضفتها للقارئ. حدّثنا عن بعض الصعوبات التي واجهتك في ترجمة كتاب يبحث في التشابك بين الأساطير والطقوس عبر ثقافات متعدّدة (إفريقيا، الصين، الهند، اليونان، الإسلام)، ليُظهر أن الحدادة والخيمياء تجسّدان رؤيةً كونيّةً موحَّدةً تربط بين الإنسان والطبيعة والسماء؟

– بالفعل كانت الصعوبة أوّلًا في الإمساك بمعجم المصطلحات عند إلياد، ومن ثمّ بأرخبيلات اهتماماته المعرفيّة المتصلة بالعالم الروحاني عند الإنسان من الأديان والشامانيّة واليوغا والخيمياء، وعدم التقليل منهجيًّا من أيّة فكرة تسمح بتفسيرها كظواهر ثقافيّة إيجابيّة وجديرة بالاهتمام، مُلاحقًا جذورها في المجتمعات القديمة، حيث كانت النباتات والأحجار والمعادن تتّخذ طابعًا مقدّسًا، وتنمو مثل الأجنّة في رحم الأرض. كان عليّ -مثلًا حين يتعلّق الأمر باستشهاداته من ابن وحشية النبطيّ في كتابه «الفلاحةُ النبطيَّة»، أو ببيت شعريّ لابن الرومي حول السيف، أو حديث للإمام جعفر الصادق- أن أنقّب عن النصوص في مصادرها الأصليّة، لا سيّما أنّ النصّ انتقل من الرومانيّة إلى الفرنسيّة، ثمّ إلى العربيّة. كنت أضع القارئ نصب عينَيّ، وأسأل نفسي عمّا ستقدّمه له هذه الترجمة من وجبة معرفيّه، تدخل الدقّة والأمانة ضمن مكوّناتها، وتُضيف تلك الاستشهادات متعةَ تذوّقها؛ وعن إمكانيّة فتح أرخبيلات المعرفة في كلّ اللغات على بعضها.

– أخذني الكتاب المذكور إلى قصيدتك «الشعرُ في يومه السابع»، التي نسْجت من خلالها أنطولوجيا تختزل قصّة الخلق والأسطورة والدين والأرض والمقاومة والفلسفة والخيمياء، لينتصر الشعر في نهايتها، بتكثيف ومجاز مذهل. وورد في كتاب إلياد: «يذكّرنا إلياد في الكتاب الحاليّ بأنّه يُفترض بحجر الفلسفة تحويل كلّ فلزّ إلى ذهب واستحواذ الخيميائيّ على الخلود، أي إنّنا أمام تغيير خارجيّ وتبديل داخليّ». أليس هذا جوهر الشعر؟ وإن كان هُناك الحدّاد والخيميائيّ… أتوافقني الرأي في أنّ الشاعر هو ثالثُهما؟

– بالطبع، وهذه التقاطة مدهشة. الشاعر خيميائيٌّ بالضرورة، إذ يحوّل العاديَّ والأرضيَّ والزائلَ إلى ما هو أعلى وأسمى. قال العرب أنّ للشاعر شيطانًا أو قرينًا، يُحدّثه من «الجهة الأخرى». وأخاله حدّادًا أيضًا، ولو كان في القول شيئًا من الغرابة، إذ يصهر الشاعر الرؤى والمشاعرَ في أتون عالمه الداخليّ، فتتفاعل تلك الموادُّ الأوليّةُ الباردةُ وترتفع حرارتها كلّما كانت قدرة الشاعر أكبر على تذويبها جميعًا، لتخرج في نهاية المطاف برّاقة ناعمة ومصقولة، كتلك السيوف التي تحدّث عنها إلياد في كتابه. إنّها القدرة على الخلق التي أشرتِ إليها في القصيدة، وكأنّما الشعر هو الخيمياء والحدادة وكلّ قدرة على الخلق، يبدأ حيث تنتهي الأديان والفلسفة والأساطير: يكتب نصًّا فوق النصّ، ويأخذنا إلى يومه السابع.

– يجعل البناء غيرُ الخطّيّ لرواية «المأدبة السنويّة لأخويّة حفّاري القبور» منها روايةً صعبة الفهم، وبالتالي صعبة الترجمة. ففيها تتداخل فتراتٌ تاريخيّةٌ متنوّعةٌ، عبر تقمُّص أرواح الشخصيّات أجسادًا جديدةً؛ ما أسهم في ضخامة حجمها، حيث تمتدّ على أكثرَ من خمسمائة صفحة، لتغدو عملًا فلسفيًّا-تاريخيًّا معقّدًا، يطرح أسئلةً وجوديّةً حول التقدّم البشري عبر استعارة فكرة التناسخ، ليقدّم بذلك «ماتياس إينار» بانوراما نقديّةً للبيئة الفرنسيّة بدءًا من عمقها الريفيّ إلى أمجادها الزائفة. كيف استطعت التعامل مع سرد طويل وصعب يدمج بين الواقعيّة الساخرة والفانتازيا التاريخيّة، وتتخلّله فصول مستقلّة بعنوان «أغنية» تزخر بالحكايات الغراميّة والتراجيديا المنفصلة؟ حدّثنا عن مختبر هذه الترجمة، وعن ورحلتها التي أستطيع السماح لنفسي أن أصفها بالشاقّة، وكيف استطعت الحفاظُ على لغة الرواية الشعريّة والموسوعيّة الغنيّة بمفرداتها الريفيّة وإيقاعها الإبداعيّ؟

– بالفعل كانت هذه الرواية -هي الأخرى- نوعًا من التحدّي الخاصّ في فهم فرنسا وتاريخها الثقافيّ من باب غير مألوف وهو: ثقافةُ المهن (حفّارو القبور) والطعام (المأدبة السنويّة وكلّ ما عليها من أصناف الطعام والشراب ورهافة الذوق الفرنسيّ). اكتشفت أنّي أمام روائيّ فذّ، قادر على تجريب شتّى أنواع الكتابة الروائيّة، ويتنقّل برشاقة من مقاطع تصلح لأن تكون معجمًا ثقافيًّا للطعام مثلًا، إلى قفزات ينصهر فيها التاريخ مع المأساة الإنسانيّة، ثُمّ يجوب في تاريخ البحّارة وأمراء الحروب الصليبيّة، ثُمّ يُعيدنا إلى متن النص وهو مَهمّةٌ أنثروبولوجيّة لباحث داخل فرنسا المَنسيّة، المدن التي لا يعرفها السيّاح، لينتهي به الأمر عاشقًا وناشطًا بيئيًّا مقاومًا للعولمة.

ساعدتني سنوات إقامتي في فرنسا، وإلمامي بالكثير من خصوصيّات اللغة والثقافة الفرنسيّة في ترجمة هذا العمل، الذي أرى أنّه لم يأخذ حقَّه، على الأقل في دراسة الأسلوب الروائيّ العبقريّ، وإمكانيّة الاستفادة منه في فتح آفاق للرواية العربيّة.

– بروفيسور الفيزياء الطبيّة محمد ناصر الدين إلى جانب الشعر والترجمة يعشق لعبَ الورق. ترجمت الرموز المطبوعة على ورق اللعب إلى لغة شعريّة في قصيدتك «لعب الورق في ليل القرية الطويل». وشاءت المصادفة أن يرد في رواية إينار المذكورة رسومٌ توضيحيّةٌ تشرح جلسة لعبة ورق اسمها «البْلُوتُ». هل تحيّزت في ترجمتك إلى الصفحات التي تتضمّن هذه الجلسة؟ وما وجه الشبه بين ليل «سُجد» في جبل الريحان الوارد في قصيدتك، وليل الريف الفرنسي في منطقة «نيور» (مسقط رأس إينار) الذي ابتدع فيه شخصيّات روايته الذين يلعبون الورق أيضًا؟

– الليل الجنوبيُّ عميقٌ، ونحن نُغلِبه أبًا عن جدّ بلَعب الورق. تروقُني هذه الجملة كثيرًا لأصف قريتي الجنوبيّة «سُجدُ المنسيّةُ» في أعالي جبل الريحان، ووجدت إينار في روايته يحيل إلى لعبة ورق في مقهى تلك المدينة البعيدة، وكأنّ المللَ يبعث على مداواته بالمؤانسة. كان عليّ أن أتعلّم لعبةَ «البْلُوت» التي فرَد لها إينار صفحات كاملةً، وأستفتي الخبراء في قريتي عنها، وذُهلت أنّها كانت تُلعَب هُناك في ثمانينيات القرن الماضي، وأنّ أبي كان أحد أبطالها. أخاف على القرية اليوم -كما أقول في القصيدة- من أن يختفي اللاعب الرابع في الورق، أن تقتله الحرب، أو يُغيّبه عن المؤانسة التطرّفُ الدينيّ، فننام مثل أيتام الحظّ والكلمات في ليل القرية الطويل.

–  كيف توفّق في وقت واحد بين: الفيزياء الطبيّة، والكتابة الصحافيّة، والترجمة، والشعر؟ من أين تقترض الوقت لتُحيط بهذه المجالات الأربعة إحاطةً ناجحةً؟

الخيط الجامع لهذه المجالات الأربعة هو الشغف والحبّ. ربما تكون الفيزياء الطبيّة هي المهنة التي أزاولُها بحكم الدراسة والتخصُّص العلميّ، لكنّي سرعان ما وجدت رباطًا يربطها بالشعر، حين يسألان الأسئلة ذاتها، ويحاولان معًا أخذنا في رحلتهما بين العالم الأصغر والعالم الأكبر في مقولة عليّ بن أبي طالب (وتزعُمُ أنّك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالمُ الأكبر). الشغفُ بالكلمات واللغة ونَشأتي بين الكتب الفرنسيّة والعربية في بيت أهلي، ثمّ سفري إلى فرنسا جعلاني بطبيعة الحال أقترب من عالم الترجمة ثمّ أخطو فيه بتؤدة ومتعة. أمّا الشعرُ، فهو فئة دمي الأصيلة، رغم أنّي أشعر أحيانًا أنّه يختفي من روحي، مثل تلك الجداول التي تغور في وادي قريتي، وأحيانًا يُعيدها الربيع.

– تقول في إحدى قصائدك «رغم أنّ الشمس/ لا تطلع إلّا لأجلها/ والسماء باعدت الغيوم/ لتصنع لها كرنفالًا من العصافير/ والهواء ربّت على ساقها/ أبَت الوردة إلّا الموت/ قُل شيئًا أيّها الحبّ». هل حقًّا يُحيي الحُبُّ العظامَ وهي رَميمٌ؟ أم هذا مجازٌ شعريٌّ وحسب؟

– يقول الفيلسوف الفرنسي رولان بارت: «كان على المسيح أن يحبَّ أليعازرَ لكي يُحييَه». الحبُّ حتّى في المجاز الشعريّ هو حجرُ الخيمياء الذي يُحيي الروحَ. لكن حَذارِ! أحيانًا، قد يكون ذلك السيفُ اللامعُ المصقولُ الذي ينغرزُ في قلبها!