من “ست الدنيا” إلى “سويسرا الشرق” و”باريس الشرق الأوسط”، والكثير من الألقاب لُقبت بها بيروت على مرّ الزمان، كانت ولا تزال تحظى باهتمام الكتّاب والأدباء والشعراء والسيّاح كافة، وعجزوا عن تفسير محبتهم وانجذابهم لهذه المدينة

النابضة، فقد قال عنها الشاعر المصري محمد عفيفي: “بيروت إذا أردت أن تقدّم تعريفاً مناسباً لها فلن تجد مهما أجهدت ذهنك شيئاً تقوله سوى أنّها… بيروت!”، صدق عفيفي بقوله، فهي صعبة الاختزال وشديدة الغرابة إلى حدّ الدهشة.
بعد المراهنات على سقوطها إبان الحرب الأخيرة على لبنان، ها هي تنفض غبار الدمار عن ملامحها متسلّحة بدرعها الثقافي الذي تجسّدت كلّ معالمه في معرض بيروت الدولي للكتاب الذي انطلق منتصف مايو الماضي، بنسخته الاستثنائية الـ66 بعد تأجيل موعدها المعتاد في نوفمبر 2024.
من 15 أيار إلى 25 منه كان محبّو القراءة والثقافة والأدباء والشعراء والطلاب على موعد مع الكتب والوسائط الحديثة في قطاع التعليم والتطوير الذاتي والعلوم والتخصّصات في المجالات العلمية والإنسانية والهندسية والفنية، إضافة إلى الحضور الأكاديمي المتمثّل بأكشاك للجامعات يقدّمون النصائح والإرشادات لطلاب المدارس.

للذكاء الاصطناعي حضور بارز تجسّد في عدة أنماط، إن في الكتب أم من خلال التحفيز على استخدامه في الدورات وورش العمل التي أقيمت على مدار أيام المعرض، بغية أن الذكاء الاصطناعي يتكامل مع مقوّمات التطوّر والمعرفة ليس لجهة تقديم المعلومة بل على اعتباره يتداخل مع نمط الحياة السريعة.
“الحصاد” جالت في المعرض وتعرّفت إلى أقسامه ودور النشر المشاركة والمكتبات، وتوقفنا في هذا التقرير على أبرز مقوماته، وناقشنا أبرز ترتيبات المعرض وصعوباته في هذا التوقيت مع مدير المعرض الدكتور عدنان حمود، كما تحدّثنا مع رئيسة جمعية المعرفة البيضاء – علم الايزوتيريك هيفاء العرب، والدكتور ميلاد السبعلي الذي حدّثنا عن النهضة في زمن الذكاء الاصطناعي، كما أخذنا كريم حلبي برحلة تراجيدية بزوايا مكتبة الحلبي الشهيرة وأخيراً، شرح لنا حسن عنيسي عن تحديات التعليم والتربية الحديثة.
الافتتاح
افتتح رئيس مجلس الوزراء نواف سلام معرض بيروت العربي والدولي للكتاب الـ66، الذي نظّمه النادي الثقافي العربي في قاعة المحاضرات في “سي سايد” – واجهة بيروت البحرية، بحضور شخصيات سياسية وتربوية وثقافية.
سلام في كلمته أمام الحضور قال: “أقف أمامكم اليوم، في افتتاح معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، لأحييكم باسم الكلمة التي تبني، والفكرة التي تحرّر، والقراءة التي تفتح الأبواب نحو آفاق أرحب من الفهم والانفتاح”.
أكد سلام أنّ “الحقيقة هي أن معرض الكتاب هذا هو أيضاً معرض للقراءة والقرّاء. فالكتاب ليس مجرد حبر وورق، بل

سواء كان مطبوعاً أم مسموعاً أم إلكترونياً، الكتاب هو رحلة نحو معرفة الذات وفهم الآخر. جسر عبور بين العقول والقلوب. منه نتعلم أن الاختلاف لا يلغي الاحترام بل يعمّقه، وأنّ التنوّع لا يهدّد الهوية بل يُغنيها. وكلما غرفنا منه تعلمنا أن العالم أكبر من حدودنا الضيقة وأغنى من تصوراتنا المسبقة، وأن ما يبدو مستحيلاً أحياناً قد لا يكون إلا صعباً، بل ممكناً”.
وتابع سلام قائلاً: “ليس مصادفة أن تكون بيروت حاضنة هذا المعرض. بيروت التي لم ولن تتعب من حمل راية الثقافة رغم كل الجراح. بيروت التي انطلقت بنشر الكتب منذ وصلت لبنان أول مطبعة في الشرق. بيروت التي فتحت قلبها وأبوابها لكل من أحبّها من مفكّرين وكتاب وأدباء وشعراء لبنانيين وعرب، فتحولت بهم ومعهم الى مدينة مفتوحة ومنفتحة على إنتاج ثقافي لا ينضب وعاصمة من كلمة ونور وحياة”.
جولة عامة
لا تشبه الدورة الـ66 من معرض بيروت الدولي سواها، عدا عن توقيتها الاستثنائي، فهي اتخذت شكلاً مصغّراً عن الدورات السابقة، من حيث توزيع القاعات والأجنحة والمساحات الداخليّة، عناوين الكتب المعروضة، والفعاليات التي أقيمت. من العناوين الأساسيّة لمعرض هذا العام: عناوين تكريميّة لهامات ثقافيّة، تراث اللغة العربية، كما أُجري العديد

من الأمسيات والندوات التي ناهضت العدوان الإسرائيلي على لبنان، كما كان لنشاطات الأطفال التربوية والتعليمية التي تزيد التطور الإدراكي والمعرفي دور لافت.
تحديّات المعرض
عند الحديث عن تنظيم وترتيب معرض ثقافي تربوي لبناني يتوجّه إلى العالم، بعد مرحلة صعبة عاشها لبنان واللبنانيّون خلال الحرب قد يبدو الأمر مستحيلاً، لكنها بيروت بلد العجائب والمفاجآت، ومن أجل الحصول على إجابات لجميع هذه الإشكاليات، “الحصاد” التقت مدير المعرض عدنان حمود، الذي أخبرنا عن الإجراءات التي اتُخذت لهذه الدورة، حيث قال: من المقرّر كان أن تكون دورة المعرض الـ66 في شهر تشرين الثاني، واضطررنا لتأجيلها إلى شهر آذار لكن مع حلول شهر رمضان والأعياد تعذّرت إقامتها مجدداً، لذلك ارتأينا إقامتها في الفترة الممتدة من 15 إلى 25 آيار.
وعن تأثيرت ذلك القبول والحضور للمعرض، قال: ترك ذلك خللاً لدى زوّار المعرض من جهة والمشاركين ودور النشر من جهة أخرى، حيث اعتاد الزوّار على توقيت المعرض مع بداية العام الدراسي، أما المشاركون من دور نشر محلية أو عربية فقد تضارب توقيت المعرض مع معارض عربية أخرى كمعارض الدوحة وسلطنة عمان.
وعن سؤاله ما تطلعات النادي للدورة الـ67، أجاب: نأمل للنسخة المقبلة التي ستقام بالتوقيت المعتاد للمعرض أن تكون المشاركة العربية المتمثلة بدور النشر والجامعات والكليات أوسع وأكبر لأن لطالما كان الحضور العربي نافذة ثقافية مهمة في المعرض تسمح بالتواصل والانفتاح في تقديم رؤية جديدة في كافة المجالات.
تحولات الذكاء الاصطناعيّ
أما الدكتور ميلاد السبعلي فتوجّه بإصداره الجديد نحو النهضة التي يقودها الذكاء الاصطناعي، وتأثيراته على الاقتصاد المعرفيّ وتطور لبنان والمنطقة، وقد استند في كتابه على المفاهيم الجديدة التي تقود عالم المعرفة ككلّ مثل الدبلوماسية الرقمية والسيادة الرقمية، كما وازن بالمقابل على تأثيراته السلبيّة بحال جرى استغلاله بطرق خاطئة أو لأغراض مسيئة، والتعامل معه حساس ودقيق ولا بدّ من توجيهه في إطارات محددة للإفادة منه قدر المستطاع.
وأضاف د. السبعلي: لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة من هذا التطور الذي يندرج ضمن إطار الذكاء الاصطناعي هو إنتاج جيل جديد يعرف كيفيّة التعامل مع الذكاء الاصطناعي وينتج فيه ولا يستهلكه فقط ويعتمد عليه.
علوم اجتماعية وإنسانية
برزت في المعرض الجوانب العلمية والنفسية والإنسانية، واستوقفنا كشك مخصّص لجمعية المعرفة البيضاء التي تقدّم علم الإيزوتيريك، وللمعرفة أكثر حدّثتنا المهندسة هيفاء العرب، وقالت: علم الإيزوتيريك هو علم إنساني يساعد في كيفية تطوير الوعي، الذي أسسه دكتور جوزيف مجدلاني. يقدّم هذا العلم تقنيات وطرقاً لمعرفة الذات البشرية وفهم الطاقات الإنسانية، لربط المادة المحسوسة (الجسد) بالوعي، ما يساعد على زيادة الإدراك في التعامل مع الأمراض النفسية التي يُصعب عليه فهمها وتحليلها.
تضمّن الكشك مؤلفات ومناهج تقنيات المعرفة الإنسانية للوعي والباطن، ما يخلق توازناً أكبر بين الإنسان وحياته التي قد يحدث فيها خلل أو عدم توازن بفعل التطوّر التكنولوجي السريع، والأحداث المتسارعة حوله.
رحلة تراجيدية في مكتبة الحلبي
عند الوصول إلى ركن مكتبة الحلبي تلقائياً تأخذك الأجواء إلى قلب العاصمة بيروت، حيث صُمم الكشك على شكل مكتبة مصغّرة، من الأثاث، الأضواء، التراث اللبناني المتمثل بالطربوش وفنجان القهوة، صور فيروز وصباح، كتب وبروشرات عن المناطق اللبنانية، في كل زاوية حكاية وبصمة لبنانية تقودك إلى القراءة والاستمتاع بما فيها من تفاصيل.
ويقول كريم حلبي عن ذلك: أسس جدّي مكتبة الحلبي منذ حوال 65 سنة، في منطقة قصقص في بيروت، أعدنا إحياء المكتبة أنا وأختي لانا، حتى نحافظ على هذا الإرث الذي تركه جدي لنا. نقوم بنشاطات تربوية وثقافية للأطفال، ونقيم فعالية “الحكواتي”. نتعامل مع عدة محال صغيرة لها صبغة لبنانية تحاول الحفاظ عليها، ككافيه يونس، قصة طابع وقسم خاص بالصناعات اليدوية وهي جزء لا يتجزأ من مكتبة الحلبي.
وأضاف: نحاول في مكتبة الحلبي أن نحكي عن تاريخ وعراقة لبنان من خلال عيون الشعراء، الفنانين والموسيقيين ونتوجّه للعالم من خلال اللغات العربية، الفرنسية والإنكليزية، حتى نعطي للعالم صورة عن لبنان التي نفتخر بها.
أدب الأطفال
تتخصص دار البنان بتقديم كلّ ما يتعلّق بأدب الطفل، ومناهج التعليم التربوية الحديثة التي تسهّل على الآباء التعامل مع الطفل في ظلّ الشاشات، وقدّم لنا حسن عنيسي فكرة عمّا تقدّمه دار البنان، وقال: التربية باتت حساسة، اذ تتطلّب العناية التي تبدأ من المنزل، حيث يجب على الأهل تحديد وقت للقراءة خلال النهار، حتى يكتسب الطفل مخزوناً متنوّعاً يزيد من قدرته على التفاعل مع الكتاب في عمر صغير.
وأضاف: نهتمّ في دار البنان أيضاً بكلّ ما يتعلّق بالألعاب الفكريّة والتربويّة والحسيّة التي تنمّي مهارات الطفل، أو ما يتعلّق بمشاكل الذاكرة القصيرة، ونقدّم المساعدة في ما يخصّ الصعوبات التعليميّة لدى الأطفال.
وأكّد أخيراً على ضرورة مشاركة الأهل في مرحلة تعليم الطفل، كالمشاركة بالألعاب العائلية التي تزيد قوة التركيز والقدرة على حلّ المسائل.
في ختام جولتنا، في معرض بيروت الدولي، يمكننا القول إن رغم ما عاناه لبنان من مصائب في العام الماضي فإن الاطلاع والفكر والقلم يبقى سيفاً بوجه الأزمات، والقدرة على الاستمرارية تتغذّى من الإيمان والعلم والمعرفة.