نافذة على الحياة.. إكسير الحياة

سهير آل إبراهيم

في عام 1943، وقبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، وصل المقاتل اليوناني ستاماتس مورايتس الى الولايات المتحدة الاميركية لعلاج إصابة شديدة تعرض لها خلال الحرب، كادت ان تُفقده ذراعه.

استقر مورايتس في مدينة نيويورك، حيث بدأ يعمل هناك وتزوج ورزق بثلاثة اطفال. في عام 1976 بدأ يشعر باعتلال صحته، ثم بينت الفحوصات الطبية انه مصاب بسرطان الرئة. لم يكتف مورايتس بتشخيص الطبيب الذي راجعه، بل ذهب الى تسعة أطباء آخرين، اكدوا جميعهم نفس النتيجة، وأخبروه ان المتبقي له من العمر لا يتجاوز اشهرا عديدة. كان حينها في منتصف الستينات من العمر.

بدلا من البقاء في أميركا والخضوع لأساليب معالجة السرطان التي اقترحها الأطباء، قرر مورايتس العودة الى اليونان ليُدفن في بلدته الصغيرة إيكاريا، حيث يحتضن جسده نفس التراب الذي احتضن اجساد اجداده، في مقبرة البلدة التي تظللها اشجار الصفصاف، والمطلة على بحر إيجة.

من العوامل التي دفعته للعودة الى بلده الأم، ارتفاع كلفة مراسيم تشييع الجنازة والدفن في اميركا، اذ تبلغ الوف الدولارات، بينما كان المبلغ لها حينذاك في بلدته لا يتجاوز مائتي دولار أمريكي. أراد مورايتس ان يقلل من كلفة تشييعه ودفنه كي يترك الجزء الأكبر من مدخراته لزوجته، والتي كانت ستصبح أرملته بعد أشهر قليلة.

انتقل مورايتس مع زوجته للعيش مع والديه المسنين في دارهم الصغير الواقع في الجزء الشمالي من جزيرة ايكاريا، والتي لا تبعد كثيرا عن الساحل الغربي لتركيا، المطل على البحر الأبيض المتوسط. كان الدار محاطا بمزرعة عنب تتدرج على سفح منحدر. في البداية كان

المقاتل اليوناني ستاماتس مورايتس

مورايتس يقضي أيامه في الفراش حيث كانت والدته تقوم على رعايته بالتعاون مع زوجته.

بدأ يستعيد بالتدريج رغبته في أمور كان قد اعتاد على ممارستها في طفولته وشبابه، اثناء عيشه في وطنه الأم، والتي أبعدته الحياة في المهجر عنها. صباح يوم الأحد من كل أسبوع، كان مورايتس يجر جسده المتعب أعلى التل ليصل الى الكنيسة التي عمل جده قسيساً فيها في فترة ما. وعندما اكتشف رفاق الطفولة والصبا عودته، بدأوا بزيارته كل يوم، وكانت الأحاديث الطويلة بينهم تجعل الساعات تمر وكأنها لحظات، ولم تخل تلك الجلسات من تناول النبيذ الذي كان يصنع من الأعناب المزروعة محليا، فقد كان يقول انه موشك على الموت ويفضل ان يموت سعيداً!

بمرور الأشهر بدأت صحته بالتحسن، وبدأ يشعر ببعض القوة والحيوية، مما شجعه على زراعة بعض الخضروات في الحديقة، لم يكن يتوقع انه سيعيش ليجني ثمار ما زرع، ولكن تواجده في الحديقة كان يعني التمتع بشمس النهار الدافئة ونسيم البحر العليل. كان يفكر ان زوجته ستجني تلك الثمار بعد رحيله.

مضت الأشهر التي حددها الأطباء ولم يمت مورايتس، بل عاش ليحصد الخضار التي زرعها، كما ساهم في العمل في مزرعة والده! تغير نظام حياة مورايتس بعد عودته لبلده، فكان يستيقظ في الصباح متى ما شاء، بدون استخدام منبه لإيقاظه في وقت محدد، فيذهب للعمل بالمزرعة حتى منتصف النهار، ثم يتناول وجبة الغداء، والتي كان يصنعها بنفسه احيانا، تليها قيلولة طويلة حتى المساء، حيث كان يذهب احيانا الى حانة قريبة، فيمضي الأمسية مع أصدقائه في الأحاديث والسمر ولعب الدومينو واحتساء النبيذ المحلي.

استمرت صحته بالتحسن بمرور السنوات، ويبدو أنه نسي أن يموت كما اخبره الأطباء، أو كأن الموت نسيه لفترة! توفي مورايتس في بداية عام 2013 عن عمر ناهز الثامنة والتسعين، رغم انه كان يؤكد ان تاريخ ميلاده الموثق بالأوراق الرسمية غير صحيح، وفقا لذلك يكون قد تجاوز السنة الثانية بعد المائة من العمر عند رحيله. لم يستخدم اَي دواء او اَي نوع من العلاج المتاح آنذاك لمعالجة سرطان الرئة الذي أصابه، كل ما فعله مورايتس انه عاد الى وطنه الاصلي في جزيرة ايكاريا!

لم يكن مورايتس المعمر الوحيد هناك، بل ان جزيرة ايكاريا تتميز بكثرة عدد المعمرين من سكانها، وذلك امر استرعى انتباه الباحثين واثار فضولهم وشغفهم بالبحث لمعرفة العوامل التي تساعد على اطالة العمر هناك.

بينت الأبحاث ان احتمال بلوغ الرجل في ايكاريا التسعين من العمر أكبر من ذلك بالنسبة للرجل الأمريكي بأربع مرات. كما تتأخر إصابة الانسان في تلك الجزيرة بالامراض التي تصاحب التقدم في العمر كأمراض القلب والزهايمر والدمنشيا بعشر سنوات او أكثر مقارنة مع الفرد الأمريكي. ومما يزيد الامر دهشة ان الفرد في ايكاريا يبقى يتمتع بصحة ذهنية جيدة الى نهاية العمر! تجدر الإشارة الى ان المقارنة تمت مع الفرد الأمريكي لان البحوث اجريت من قبل باحثون اميركان وبدعم من تجمع ناشيونال جيوغرافيك.

يقول دان بويتنر، أحد أعضاء تجمع ناشيونال جيوغرافيك، انه إلتقى بأحد الأطباء القلة في جزيرة ايكاريا، دكتور إلياس ليريادس، وذلك عام 2009. كان الهدف من اللقاء طبعا محاولة معرفة اسباب تمتع الأفراد هناك بالصحة الجيدة والعمر الطويل. وكان دكتور إلياس قد أعد لذلك اللقاء طاولة في باحة داره الخارجية، عليها بعض الزيتون ومهروس الحمص، او كما نسميه حمص بالطحينة، مع النبيذ المحلي وخبز ايكاريا السميك.

أخبره دكتور إلياس ان الناس هناك عموما لا يستيقظون مبكرا، حتى انه لا يفتح عيادته قبل الحادية عشر صباحا، فقبل ذلك لا يأتيه اَي مراجع. كما انهم يتمتعون بالقيلولة متى ما احتاجوا اليها! قال له:  »هل لاحظت ان لا أحد هنا يرتدي ساعة يدوية؟ وقد لا تجد ساعة مضبوطة على الوقت الصحيح في اَي مكان في الجزيرة. نحن لا نعبأ بالوقت، فاذا دعوت أحدنا للغداء قد يأتيك في العاشرة صباحا او في السادسة مساء، لا فرق عندنا«!

لم تصل الحضارة الى جزيرة ايكاريا بالقدر الذي وصلته الى المناطق القريبة المحيطة بها. استمر الناس هناك بالعيش بنفس طريقة آبائهم واجدادهم؛ يأكلون ويشربون ما تنتج أراضيهم وبجهودهم، ولم تأخذهم دوامة الحياة التي جعلتها المدنية والحضارة تدور بسرعة مخيفة، مختصرة في دورانها سنوات كثيرة من عمر من تعلق بها، مختزلة عافيته وصحته النفسية والبدنية.

لم يعلم مورايتس مسبقا ان عودته الى وطنه الأم ستعيد اليه عافيته المفقودة، وتضيف الى الأشهر القليلة التي كانت متبقية له في الحياة، اكثر من ثلاثة عقود من الزمان! ما الذي وجده هناك؟ بيئة صحية ومناخ معتدل، شمس مشرقة اغلب أيام السنة، عمّدت بدفئها خلايا جسده العليلة، ولكن الأهم من ذلك، برأيي، دفء المحبة الصادقة، وحميمية التواصل مع الأهل وأصدقاء الطفولة والشباب، ذلك الدفء الذي غسل روحه من أدران الغربة ووحشة العيش في بلاد لا جذور له فيها.