نعيم تلحوق

نعيم تلحوق

الشاعر

من المستحيل أن يكون الشاعر قديساً على الورق، بل هو من أهم زنادقة الزمن… وعليه، فإن اللحظة الشعرية تقيم عرشها وملكوتها حين تستدعي الصدق، والألم والمشهد المختلف… الشاعر أكثر من فيلسوف وأقل من روائي، والحياة مسرحية والزمن فيها الشيطان الأكبر… كونه العارف والمتحدي والجريء والصادق في تظهير صورته وأفعاله…

أما على أرض الواقع فأنا هو نفسي الشاعر المتصارع مع نفسه دوماً، والمؤسس لفكرة الانتقال من المشهد- الصورة الى المشهد- الحلم، لأنقذ نفسي من هذا الكوكب العجيب الذي اسمه الأرض… وعليه، فأنا أكبر خطيئة أوجدها الشعر على الأرض…

حبر البياض

إلى التي صرخت جرحها

قبل أن تأخذ الرحمة أنفاسها:

قتلوك يا ولدي…إلى أمي…

 -1-

كان صبحٌ،

والعتم فيه فصيح،

كنت أوزّع أيامي على مقلب الوقت،

أضناني الفراق، وأنت بعيدة الخدّين..

لم يصفح الفجر لي،

ولا الوقت أعانني على ردّ هزيمتي

لأرقد على حافة صوتك…

حين أبلغوني أني قتلت،

استفقت،

كنت أعلم أنك تدركين مصابي،

وإني بلا شفاعة كنتُ…

غفرت لربي كي يتيقظني العمر

فأستمده منك…

حينها أبلغوني،

أنّكِ ارتجفت قبل الرحيل

وأنكِ غنَّيتِ المدى

فكرة المستحيل…

مَن يعشْ يرَ…

ومداد روحك حبر سطَّره البياض.

يا مَن يدرك أني انتهت…

وبأن غطاء العمر كفّنه الردى،

وأني بلا دفء صرتُ…

وأنكِ كنتِ كما كنتُ ذ صريع رؤاي..

أحتمل العمر وتحملين سواي…

تركضين خلف المتاهة تضيئين غرّتي،

روحكِ تتحدى الشمس،

قلبك تكسره المسافة

أنام على صحوة العمر،

وتنامين على طرّاحة الخلق…

كأن الأحلام تراود نزوعها الطبقي

باتجاه اللغات…

وأنت لا تعرفين سوى لغة البصمات…

وقد جمّعتها عنكِ حوانيت الزفرات،

حتى بدت أجمل الأغنيات..

وجهك لا يعرفني،

اختصر المعرفة وتصيَّد الجهات،

أقابل حُرفتي بموت يطابق سنيني،

لكنه خافت العبرات…

مَن يكن قلبي؟!

لست أدري؟!

واللظى ناهش الوجد

وقد فقدتني الصرخات…

يا ويلي،

كيف تنشدين قهر الموت باللحظات…

وعيناي لمّا تزل تتابع مواويلك حتى السُبات…

هاتِ ما عندك من صفات،

وادخلي مضجع الروح شعاعاً، قلبي أوجاع الأثير،

فلن يظن أحد بعدها أن الله مات…

                                                 -2-

صَمتَتْ وفي قلبها طَرْقٌ

يبعد الشبهة عن غرّة الأيام

تيبَّسها الظرف،

وفي قلبها حسرة العشق،

انتبه يا بني »لا توقع يديك في الظلم«

أنتَ بيدري المسروق

وأنا أهوى ديدنك يغرّد كعصفور أبيك،

فلا تضحك من يقيني،

أنا متهمة بالقهر والعناد،

أخاف أن يقتلوك..

وقلبي لا يحتمل جراح الشك والرماد…

-3-

لستُ زمنك، ولا أُجاريك،

لكني أفهمك،

اسمع ما بك رغم وجع الفراق،

أنادي على نسوةِ يدلّلنك ويشتممن رحيقك

ومجد قلبي بك كمجد النخل للعراق،

لست أفضل يُتمك

أبيعُ قلبي لأشتري أيامك،

وأفرح حين ألاقيك،

كي تضحك، لتلتفت نحوك السماوات…

أنا أموت يا بني،

استدرك نفسك من مهالك المكظومين،

وتعب الساعات التي لا تشتري رحمة…

ولا تدرك صلاة…

أمُّك ترحل يا ولدي،

لم تعد صبية الدار…

صارت أمكنتها تزهو بها الأفلاك،

ولا أظنك تبخل إذ ما كنت أراك،

أنا أمٌّ يا ولدي،

أقف مع الحق حين يكونك،

ومع الباطل لأحمي أيامك من أيامي…

فلا تخشَ صراخ دمي

أني أحاول أن أفديك كصبي..

وأنت تحاول أن تشاكس كنبي…

-4-

كانت مساحة البيت فارغةً،

وكنتِ تترصدين هواي عنوة..

وأنا ألعب بالزمهرير ورقصة الناي…

كنتُ أحبكِ، وأنت تعلمين أني أناور،

تأكدني ظنِّي بأنك تسمعين لهاثي،

وبأنك تغارين إذا ما أخبرت أحداً عني،

تقصفين إلى فراشك خلسةً…

ثم تعاودين متابعة أقدامي في السرير..

كان صدر البيت فسيحاً لغنائهم،

لكنه صغيرٌ على لوعتي،

وأنت تنفضين يدك على خيالي، حين يلتاع قلبي

فأغمر شعرك المكنوز بارتماءات ثقيلة

أصابعي تمشّط ما بقي من سنين،

وتضحكين من يديّ:

»أمك ختيرت يا بني، رحلت أيامها«.

لم يكن وجهي ملقاك،

كان قلبي دنياك،

وما صبرني يتمي سوى أنّه ترجّاكِ،

كي ينام خدّك على أحلامه المرجومة بالأوهام،

وها قد فعلتِ، كي يرتاح الله من صدى الأحلام،

أقول بكيتُ، لم أبكِ،

كانت الصرخات تعلو شأني،

ويصارعُني  نعاسي،

على وجنتيك استفاق حلم النبي المشاكس،

واختلف العناق في مشاكلة الأرحام،

أنا أم الصبي الذي لم ترحمه الأفخاذ ولا العشيرة،

حتى استفاق على سطر من حبر البياض،

وعينين من دواء العشق

وصراخ الغريب الذي تمنّع عن مراقصة الأشجار،

وثوى نحو محجريك يكابد الريح بالأخطار…

أنا هو…

صَبيّ وعدك الطافح بالنكبات،

مَن يدلُّهُ على طُهر يلبِسُه قمع الرغبات؟!

لم أرَ مَن ينتظرني بعد،

ولم أظفر بتقوى النبوءات،

لأعيد ما استطاعته الأحلام مني،

وأغنّي.. أمّي،

يا قصيدة لم تكتبها بعدُ اللغات..

-5-

أين أخبئ وردتي

حين تصير الجريمة شتاتاً،

وحين الدمار يطوف الأغنيات؟!

لست أدري ما الذي أعاقني عنك،

وأنا ألمُّ خطاياي،

راكضاً صوب يقيني،

كنتُ قبلها، تعرفني الأشياء،

وكادت هامة الصبح تبصر خلاصاتها،

وفرحتي أن تعتقيني…

حين هجمت الصبايا على حائط البيت،

يلاطفنني،

كنت تعرفين أني مسيح غرامي،

وأني شفيع البلاغات،

وأن عداواتي صداقات كثيرة،

لا تبصرها الأسفار…

سيّان ان اصطفيت قهري،

أو كان دمي الإعصار…

كنت أخشى عليك وطني،

ويخشى وطني عليك من الإصرار…

-6-

قضيت العمر، أدقّ الباب يا وطني،

فما رأيت مَن يفتح إلاّ مقابر الوثن،

سمعت حينها ما استعادتهُ كبوتي،

ورحت بالصراخ أُغلق منافذ البدن..

ما عاد صوتي الذي كنت أضمره،

بل صار رقصاً يلاطف حضره الكفن..

دائماً أشك بغرابتي،

ولا وقت لديّ، للصراحة،

فما أدهشني أحد،

كانت دهشة القبر أبلغني…

-7-

خمسون عاماً،

والرب يسألني،

ألَم تمت بعد،

وكنت دائماً أردّ الجواب،

أَلا تستدرك موتك بالنوم،

فلِم إذاً تمتحن صبري بالصوم؟

وحدك تعلم،

إني استعرت كل الأوطان،

وأنفقتها على شهوتي،

حتى لم يبق في جيبي وطن…

لِمَ تسألني

وكأسك مترعة بالأجوبة،

وصدري مليءٌ بالعفن؟

ألا تقوى على ردِّ ظلامتي عنك

فتعفينني من القبائل والأعراق،

المذاهب والأطياف،

فتعيدني إلى صدر أمي،

لألقي عليها السلام،

فأحبس ضحكتي في وجه من حطام…

لماذا لا تفهم موتك يا بني،

وتقرأ دفتر صمتك

قبل الصيام؟

دعني أفكرك بأن لله باباً واحداً

ولأمّك ألف باب…

فلا تصرخ في فمي

يا زارع الفردوس قبل اليباب،

أيامي طويلة معك

فلا تجزع إذا اغتصبَ

الليل هامتي في وضح النهار..

غنِّ ما شئت تغني،

لكن استدرك أن تنشد العمر

لحن السراب…

عالم أكبر من أحلامنا

لم تخطر على بالي اللغة لأدفنها فوق رأسي، كنت أبحث عن الما فوق، لأستجلي فهماً لحركة جديدة، فالعالم على استعداد دائم لتقبّل الفوق قبل التحت، وهذه مشكلة صراعية منذ بدء التكوين… لم يتكيَّف فهمنا للطاقة كعلم أو كمدار أو كمخزون لغوي تتحرك الأشياء من ضمنه… فالصيرورة الزمنية أسبق من الحق العيني المدرك… اللعبة قد تكون سوداء أو بيضاء، لا خوف من اصطراع الألوان، طالما عمى البسيطة مأخوذ براحته، وليس الخلاف على عمودية العالم وأفقيته سوى دلالة على غباء الحروف داخل الدائرة، واللجوء من الشمال الى اليمين، ومن الشرق الى الغرب سوى تحريف لوحدة القضايا والهروب من خط الاستقامة…

نحن عالم دائري يخطط للجوء الى المستنقع أو القعر، ولا نعرف متى يكون الماء سطحاً أو عمقاً، لأن لا مرتكز فني ودلالي لوحدة الدائرة…

هكذا نحن، عنيفون في يومياتنا، عنيفون في أحلامنا، لست أدري من أين يأتي هذا الكم من العنف داخل الدائرة التي لا وجهة لها سوى أنها تدور دون دراية منّا…

لست أدري،

لماذا يبتكر العالم عنفه، يريد أن يصوغ مشهدية لعالم مدفون في خلايانا، ويتحرك داخلنا نتيجة الخوف من أنفسنا لعدم اكتمال الدائرة فينا، وعدم الاكتمال يشعرنا بالنقص، فيزيد الخوف، ويكبر القلق، وينتاب المرء حالة من الفوضى في كرياته الدموية…

أصدقكم القول :

العالم يضيق بي.. لم أعد أعرف من أنا..

هل تحتمل صراخك يا رضوان ؟؟

      ما الذي دعاك للموت ؟ هل استدعتك الفضيلة لتنشد لها معزوفة البقاء ؟ لا أعرف ما الذي يبقى فينا يا صديقي من كل هذه الترهات التي تستقبل أمسها فينا بأسنان فاضحة ؟؟؟

        كنتَ تحرص كثيراً على تمشيط أيامك كما تفعل بلحيتكَ، تُبقي أسراركَ نائمة في الخوف،وتستجلي مكامن روحكَ، ومدارك وعيكَ كي تستظلَّ عِتاباً غاشياً فوق سطح الروايات العتيقة…

      أتقنتَ مسرحكَ، إخراجاً وتمثيلاً، وكنت في قلب الحياة الكومبارس الذي يصنع البطل ويضفي عليه معناه، كان الصمت يقرع طبول داخلك ليزيل الحشو عن بدن الخشبة، في اللغة كما في الحياة…

  أضأت على الآخرين وأطفأت وحشتكَ بشيء من الضحك الخفيف…

  كان يجب أن تكون ضيفي في برنامج الحياة، فأكرمكَ العناد برجفة الموت، وقلت لنفسك أنت الشيوعي : هو الله ؟؟؟

             كنَّا نتحزَّر الطريق إلى فلسطين، من أين سيكون الممر، وكيف ستكون الوجهة ؟ نبكي ونضحك لأن الفقراء الذين لا يمتلكون على صدورهم قميصاً قد شحُّوا، فاسستتروا بزوادة الرحيل لوعة على ظهورهم وفي حناجرهم، فلم يعد الشعب شعباً ولا الصوت صوتاً، ودخلنا عصر تجارة البؤس التي أوقعنا بها أصحاب القضايا الكبرى !!!

   وأنت تحتار يا صديقي كيف سترسم ضلعاً من ضلوعك على خشبة الحياة، فلا الخشبة أسعفتكَ ولا صرخة المذياع في »صوت الشعب« أعانتكَ على شفاء غليلك، هل كنتَ ستصدق أنكَ وحدكَ في هذا الزمن ستحمل صراخكَ وتمضي إلى اللامكان حيث مَن يسمع ويدرك ويعرف…

أخبرني يا رضوان حمزة، هل تحتمل صراخكَ الآن؟؟؟

ـ  المخرج المسرحي رضوان حمزه