الروائي والناقد التونسي كمال الرياحي: أرى أن فن اليوميات هو الفن القادم عربياً وعالميًا

بين تونس وكندا، بين الرواية والنقد، وبين شاشة التلفاز وصفحات الكتب، يتحرك كمال الرياحي بخفة الكاتب وبصيرة الناقد. هو أحد أبرز الأصوات الروائية في العالم العربي اليوم، ترك بصمته في المشهد الثقافي من خلال أعماله الادبية التي حصدت جوائز، وترجمت إلى عدة لغات. كما أسهم في تأسيس مؤسسات ثقافية رائدة، مثل بيت الرواية في تونس سنة 2018، أول بيت للرواية في العالم العربي، وبيت الخيال في تورنتو بعد انتقاله إلى كندا عام 2021.

الرياحي قدّم برامج ثقافية لاقت صدى واسعاً في التلفزيون التونسي، ودرّس الكتابة الإبداعية في جامعتي تورنتو وكارلتون، ولا يزال يدير ورشات للكتابة منذ عام 2010. من بين أبرز رواياته: المشرط، الغوريلا، عشيقات النذل، والبيريتا يكسب دائماً، إضافة إلى مؤلفات نقدية مثل فن الرواية والرواية تموت أم تترنح.

في هذا الحوار الخاص للحصاد نتوقف معه عند محطات من مسيرته الأدبية والإعلامية، ونتأمل معه في واقع الرواية، وتحولات المشهد الثقافي العربي، وسؤال الكتابة في المنفى.

الحصاد: كيف كانت نشأتك في العروسة، “تونس”، وكيف أثرت هذه النشأة في مسيرتك الأدبية، ما الذي دفعك لتصبح روائيًا، هل كانت هناك لحظة معينة شعرت فيها بأنك ولدت لتكون كاتبًا؟

كمال الرياحي: أعتبر نفسي محظوظا أنني ولدت في ذلك الريف الصعب والخصيب في قرية جبلية شامخة قريبة من مدينة العروسة.  ملأني ذلك الجو الريفي بالجمال ونشأت نظرتي على اخضرار الحقول والغابات وأصوات ال طيور والحيوان وخرير المياه في الأودية.  نشأت على الحياة حذرا من الأفاعي والعقارب والذئاب والخنازير.  تدربت على التخلص من كل خوف في ليل ذلك الريف، ذلك الليل حالك السواد. نشأت على التحكم في الضوء عبر التحكم في ثورتنا النفطية الصغيرة لإنارة القنديل.  في تلك العزلة ربيت نفسي قبل أن يربيني أهلي، فكل يوم لي مع ذاتي حوار فلا أحد سأحاوره غير ذاتي والطبيعة واخوتي أحيانا.

هنا نشأت علاقتي مع قلم الرصاص رسما وقلم الحبر كتابة بعد أن صار الكتاب الصديق الوحيد لي.

كنت أقضي يومي ما بعد المدرسة في القراءة، أينما كنت، كنت أقرأ القصص والروايات، في الطريق، وراء عنزاتنا في الجبال، وأنا أنتظر دوري لجلب الماء من البئر، انتظار أبي من العمل، انتظار أن تنتهي أمي من طهي الخبز، كان الكتاب هو الذي يسكن جوعي ويسكن انتظاري ويؤنسني في وحشة الطريق وكم قرأت بصوت عال عندما أشعر بالخوف مع الفجر عندما أتجه نحو المدرسة.

أما متى بدأت أشعر بأني مشروع كاتب فيوم كتبت أو محاولة لي، كنت في تلك الليلة أقرأ قصة للأطفال عندما دخلت أمي وأطفأت القنديل للتحكم في ثروتنا النفطية، أصبت بهلع وغضب كبيرين لأنها حرمتني من مواصلة القصة فنمت باكيا، ومن الغد قطعت على قراءة قصة جديدة لكن هذه المرة كنت مستعدا ولم أبك، سحبت من تحت الوسادة كراسي المنزلي وأخذت أكتب ما تخيلته بقية القصة التي كنت أطالعها. من الغد وقبل أن أذهب الى المدرسة كنت أٌقارن بين ما كتبته وأحداث القصة الأصلية وهكذا بدأت لعبتي مع الكتابة. اكتشفت الآن وأنا أدرب الكتاب أن أول ورشة للكتابة الإبداعية شاركت فيها كانت ورشة أمي التي أرغمتنا بحركتها اليومية أن أكتب.

 

الحصاد: تقول الكاتبة الأمريكية مارلين روبنسون: “أنا على صلة بالحياة ومع الآخرين مما يخدم عملي الأدبي”. شخصيات رواياتك وقصصك، كيف تختارها، ولماذا اخترت الكتابة عن موضوعات تعتبر “محرمات اجتماعية” في بعض رواياتك؟

كمال الرياحي: لا قضايا محددة عندي سلفا، كل كتاب وله مطبخه وأفكاره ورهاناته، لكن بدأت منشغلا باستلهام قصص من حولي من المهمشين في القرى والمدن الصغيرة، من الخادمات الصغيرات إلى الشيوخ والعجائز وأسئلة الفلاح البسيط والأطفال الفقراء في الأرياف وعلاقتهم بالآخر الطارئ عليهم. مساءلة تقاليد وعادات بعضها مهم وبعضها مظاهر تخلف، قضايا ميتافيزيقية كانت تشغلني وقتها وقضايا وجودية لشاب صغير. هكذا كانت بداياتي مع القصة القصيرة، أما تجربتي في الرواية فبدأت في المدينة، العاصمة تونس عندما أتيت اليها طالبا جامعيا وانغمست في قضاياها المعقدة من قضايا النزوح والتمييز الطبقي والعنصري والبطالة والعنف والجريمة والجنس والأدب والفنون والاعلام. لا يمكنني حصر القضايا التي تناولتها في كتبي فهي مركبة ومعقدة أما قصة المحرمات فهذا شأن لا أفكر فيه في الكتابة لكني أكتب بايمان راسخ أنه لا شيء يستنثى من الكتابة ولا شيء محرم وكلمة التحريم كلمة قبيحة لا مكان لها في عالم الأدب والفن.

الحصاد: ما الذي دفعك إلى الانتقال إلى كندا، هل ترى أن الانتقال إلى العمل في كندا ومنصات ثقافية عالمية قد غيّر من طريقة تفكيرك ككاتب؟

كمال الرياحي: الهجرة إلى كندا اختيار وأنا رجل أحب السفر وسبق أن هاجرت لبلدان قبلها للعمل، هاجرت من أجل تجديد الحياة ككل مرة وكان العمل احدى دوافعي، فأنا من الأشخاص الذين يرفضون الاستقرار في عمل ومكان لوقت طويل لذلك استقلت من منصبي بوزارة الثقافة وتوجهت نحو الجامعة بكندا في تجربة لتدريس الكتابة الإبداعية في أكبر جامعات العالم، لذلك اعتبر أن وجودي هنا خطوة في مسار نجاح مهني وابداعي.

الحصاد: شغلت مناصب ثقافية عديدة، من بينها مدير دار الثقافة ابن خلدون ومدير بيت تونس للرواية. كيف جاءت فكرة تأسيس “بيت تونس للرواية”، وكيف أثرت هذه الأدوار على تطوير المشهد الثقافي في تونس؟

كمال الرياحي: سؤال أتمنى أن يجيبك عنه من استفاد من تلك التجربة فقد كنت في خدمة الثقافة ببرامج نوعية وتنويرية رائدة جعلت من تلك المؤسسات الثقافية الوطنية منارات عربية وعالمية، كما أسست لصورة جديدة للمبدع والكاتب التونسي والعربي، عملت على أن تكون ناصعا وأن يكون المبدع قدوة وعلامة نجاح للأجيال اللاحقة والشابة وأن أرتقي بالفن والأدب إلى المستوى الذي يليق بها. حققت الكثير في هذا المجال وفخور بكل تجربة خضتها في تونس أو خارجها.

الحصاد: رواية “المشرط” كانت علامة فارقة وحصدت عدة جوائز. ما الذي ألهمك لكتابتها، وكيف تصف تطور أسلوبك الروائي منذ تلك الرواية وحتى آخر عمل من أعمالك الحديثة؟

كمال الرياحي: إن انتقالي إلى المدينة جعلني انتقل من كتابة القصة القصيرة الى الرواية فالرؤية اتسعت والقصص تعقدت تعقد الفضاء المدينة وخاصة ظهور خصوصية في المدينة وهي الجريمة، ولذلك تصديت لأشهر جريمة متسلسلة حدثت في تونس وقتها، والمعروفة بقصة الشلاّط ، المجرم الذي كان يطارد النساء بمشرط طبي ويضربهن في عجيزاتهن مما أحدث حالة رعب عند النساء في ذلك الوقت. انطلقت من هذه الحادثة لأذهب بالتخييل بعيدا وأبني رواية شديدة التعقيد أحاول فيها تشريح الذهنية الذكورية للشعب التونسي وعبره الشعوب العربية التي تنتج مثل هؤلاء المجرمين.  وكانت الرواية انطلاقة لمشروع في التصدي عبر التخييل لظاهرة العنف بتعدده الاجتماعي والثقافي والسياسي..

 الحصاد: كيف ساهمت تجربتك مع الصحافة والكتابة الثقافية في تشكيل رؤيتك الإبداعية؟

 كمال الرياحي: اعتبر الصحافة معينا أساسي في تجربتي الإبداعية فقد تزامن ظهوري كمبدع مع ظهوري كأعلامي ثقافي، ولطالما كان الروائيون في علاقة وطيدة بالصحافة ولم يتركوها حتى في قمة شهرتهم من دوستويفسكي إلى اميل زولا إلى غابريل غارثيا ماركيز إلى مارغريت أتوود وسلمان رشدي… الصحافة تجعل معارفك دائما محينة وتجعلك دائما كائنا في الراهن، في الآن وهنا. أدين للصحافة بالكثير فهي عالمي الأوسع لأني أشتغل فيها بجدية وعمق ومتعة كبيرة.

 الحصاد: ترجمت بعض رواياتك إلى لغات أخرى مثل الإيطالية والعبرية. كيف ترى تأثير الترجمة في إيصال صوتك الأدبي إلى العالم، وهل أثرت الترجمة على تفاعلك مع قرائك خارج العالم العربي؟

كمال الرياحي: التعامل مع العالم الغربي كان عبر النص العربي، فنجاح النص العربي جعلهم يهتمون بالتجربة ويحاول البعض ترجمتها إلى لغته. شخصيا لست مهموما كثيرا بقصة الترجمة وجل طموحي أن أنافس نفسي في اللغة العربية وأن أطور التجربة في لغتها الأم وأن أصل إلى قراء آخرين في العالم العربي.  وربما في هذه المرحلة صرت زاهدا حتى في هذا كل ما في الأمر أنني أكتب لأني لا أجيد شيئا غير الكتابة.

 الحصاد: حدثنا عن كتابك “فرانكشتاين تونس”. ما الذي أردت إيصاله عبر هذا الكتاب؟

كمال الرياحي: كتاب فرنكنشتاين تونس هو كتاب سياسي كتب بلسان مثقف وجدت نفسي من واجبي أن أرجئ أعمالا تخييلية لأدفع بكاتب مقال الرأي والمثقف ليقول كلمته في فترة عصيبة يمر بها وطنته ويرى منسوب الحريات يتراجع والديمقراطية الفتية تقبر عبر انقلاب.   دافعت عن الحرية والديمقراطية والمواطنة والمهجرين وتصديت للتميز العنصري والشعبوية والظلم السياسي وللانتهازية وللمثقف البلاط وللسياسة الممنهجة لتدمير مؤسسات الدولة ولدفاع عن المعارضين حتى الذين اختلف معها في تصوراتهم الأيديولوجية والسياسة.  كتاب كان جرس انذار لما سيحدث وللأسف تحقق كل ما حذر منه الكتاب.

 الحصاد: كيف كان شعورك عند حصولك على جائزة “الكومار الذهبي”، وجائزة “ابن بطوطة” لأدب الرحلة؟

كمال الرياحي: شعور أي كاتب فاز بجائزة، لكن سرعان ما أتجاوزها للعمل، الجوائز شيء عرضي في حياة الكاتب الذي عليه أن يستمر في الكتابة ويواصل مشروعه الإبداعية أو الفكري الذي أهله للفوز بتلك الجوائز. الجوائز تقدير لعمل لكاتب ان أتت مرحبا وان لم تأت فليكن لأن التقدير قد يأتي متأخرا حتى بعد رحيل الكاتب.

الحصاد: ماذا يعني لك تعليم الكتابة الإبداعية في جامعات كندية مثل كارلتون وتورنتو، وكيف تقيم استجابة الطلاب لهذه التجربة؟

كمال الرياحي: تجربتي في تدريس الكتابة الإبداعية كان ممتعا خاصة أني كنت أدرس مادة جديدة اهتم بها وهي فن اليوميات، يعتبر الطلبة أن الحصة معي حصة ورشة للكاتب أو صالون ثقافي تتسرب لهم المعرفة عبر متعة الاكتشاف والعمل الجماعي.  أفرزت التجربة كتابا عن فن اليوميات سيصدر خلال هذا العام باذن الله.

الحصاد: أنت من الأصوات النقدية والإبداعية النادرة التي أولت فن اليوميات اهتماماً خاصاً، وقد أنجزت كتابين في هذا المجال، واحد صفر للقتيل ولا ترفعوا هذه الجثامين، إلى جانب عشرات المقالات والدراسات، وتدرّسه أيضاً في ورشاتك وفي جامعة تورنتو. ما الذي دفعك لهذا الاهتمام بفن اليوميات تحديداً؟

كمال الرياحي: جاء اهتمامي بفن اليوميات من شغفي بالكتابة عن الذات تحديداً. فقد انشغلت لسنوات بالسيرة الذاتية في كل من السياق العربي والغربي، ثم تخصصت في اليوميات تحديداً، نظراً لندرتها عربياً، وقيمتها الكبيرة في آداب العالم وفنونه. بدأت اهتمامي بهذا الفن من الجانب النقدي، وأنجزت كتاباً مشتركاً مع رائد دراسات السيرة الذاتية واليوميات في العالم، الفرنسي فيليب لوجون، صدر بعنوان هكذا تحدث فيليب لوجون. كان حواراً نقدياً وسيرياً عميقاً، خصصت جزءاً كبيراً منه لفن اليوميات.

لاحقاً، توسّع بحثي في هذا الفن على المستويين العربي والغربي، وبدأت بتنظيم ورشات في الكتابة الإبداعية للتعريف به وتشجيع الكتّاب على خوض تجربته. كانت أول ورشة عربية في هذا المجال نظّمتها في دبي سنة 2014 بعنوان من الذات إلى التخييل، ثم أصبحت هذه الورشات تُنظَّم دورياً كل ثلاثة أشهر، بعضها حضورياً وبعضها الآخر عبر الإنترنت.

أنجزت في هذا السياق عدداً من المخطوطات، نُشر منها اثنان، وما زلت أواصل الكتابة فيه كإبداع، حيث أن كل تجربة جديدة تنطلق من فكرة خاصة وليست مجرد يوميات تقليدية، بل تحمل في طياتها أهدافاً جمالية بالأساس.

كما أصبحت مقالاتي ودراساتي في هذا الفن مراجع مهمة للباحثين والقرّاء، وقريباً سيصدر كتابي النقدي، والذي سيكون أول عمل نقدي شامل عن فن اليوميات على المستويين العربي والعالمي.

أنا أرى أن فن اليوميات هو الفن القادم عربياً وعالمياً، وسيتصدر المشهد مستقبلاً، إذ أنه يقتبس أدوات السرد والتشكيل والحبكة من الرواية، لكنه في الوقت ذاته متحرر من قيودها، ما يمنحه مرونة وانفتاحاً أكبر.

فالمبدع الجيد ليس بحاجة إلى حبكة تقليدية، لأن تشظي اليوميات يسمح له بالرهان على عمق الفكرة المنبثقة من اليومي العادي. واليوميات باتت حاضرة بقوة كمصدر إلهام للرواية، والسينما، والفن التشكيلي، والعمل الفكري، والتأريخ، والصحافة، مما يجعلها فناً موسوعياً، أو كما أحب أن أصفها: كائناً أخطبوطياً قادراً على اختراق كل الفنون والأجناس الأدبية ومنحها جماليات جديدة ونبضاً خاصاً.

وقد نظّمت ورشة لكتابة السيناريو انطلاقاً من اليوميات ضمن فعاليات مهرجان تورنتو للفيلم العربي سنة 2022، بعنوان أفلام اليوميات. وأنا حالياً أستعد لإطلاق ملتقى تورنتو الدولي لفن اليوميات، والذي سيكون أول ملتقى من نوعه على المستوى العالمي، وستُقام فعالياته في أكتوبر 2025.

الحصاد: هل يمكننا أن نتوقع مشروعًا جديدًا قريبًا؟

كمال الرياحي: أعمل على ثلاث أعمال: رواية وعمل نقدي ويوميات، وقد صدر لي منذ أيام كتاب في اليوميات بعنوان لا ترفعوا هذه الجثامين عن منشورات مرفأ ببيروت وإسطنبول ويصدر لي قريبا الطبعة الثالثة من فن الرواية عن دار النهضة.