القرآن الكريم هو آخر وأهم الكتب السماوية المقدسة التي أنزلها الله تبارك وتعالى لهداية عباده. وقد جرت المشيئة الالهية أن تهتم بالقرآن اهتماما كبيرا وصل الى حد قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)؛ بمعنى أنه تبارك وتعالى حَفِظَه من التحريف ومن الدس، على عكس الكتب السماوية الأخرى مثل التوراة والانجيل والتي تعرضت للتحريف، قال تعالى في ذلك (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا). وقال أيضا (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). لكنه في القرآن الكريم شدد أن لا مجال لتحريفه؛ وقد تجسد هذه الآية الكريمة استحالة هذا الأمر حيث يقول (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا). بل أنه تعالى رفع سقف هذا التحدي الى سورة من مثله كما في قوله (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ). وربما يشير هذا الأمر الى سبب اختيار اللغة العربية لتكون لغة القرآن؛ كونها تشتمل على جذور ومفردات ومعاني وبيان وبديع وبلاغة وصور جعلها بمستوى الدقة والتصوير وتنوع المفردات والمعاني تتواءم مع القرآن وتلبّي حاجاته. وفي ذلك يصف الله تعالى كتابه بأنه عربي مبين كما في قوله (حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ.إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). وقال ايضا (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). فهو مبين وليس فيه اعوجاج؛ فاختيار العربية يؤكد تكامليتها في الفحوى والقصد والفهم. من أجل ذلك كانت اللغة العربية هي الأداة الأولى في عملية تفسير القرآن الكريم. إلا ان السؤال الذي يطرح هل أن اللغة كافية لوحدها لتفسير القرآن؟ والجواب البديهي عن هكذا تساؤل هو بالطبع لا. لأن هناك أدوات كثيرة تدخل في علم التفسير وأهمها معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول. وهما قضيتان مهمتان في العملية التفسيرية كونهما يدخلان في صلبها؛ إذ لا يمكن لأي أحد أن يتخطى التفسير من دون أن يتعرض لهما. فمثلاً إذا أردنا تفسير قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ). فهل هذا يعني اننا لا يجب علينا أن نتوجه في الصلاة الى جهة بعينها كون الآية لا تشير الى جهة بعينها وان كل الجهات تؤدي الى الله تبارك وتعالى؟ واننا لو تتبعنا سبب النزول لعرفنا ان المقصود غير ذلك؛ فقد جاء في كتب أسباب النزول عن النبي صلى الله عليه وآله ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يصلي حيث توجهت به راحلته. وأنه كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية (أينما تولوا فثم وجه الله). ونقل أيضاً عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله في ليلة سوداء مظلمة، فنـزلنا منـزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة. فأنـزل الله عز وجل: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم). علما أن الله تعالى قد أمرنا بأن نتوجه في الصلاة الى المسجد الحرام في آية ثابتة واضحة، قال تعالى (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). وقد يدخل هذا من باب التوسعة وربما يدخل من باب التبيين بعد الإجمال كون الاجمال هو (اينما تولوا فثم وجه الله)، أما التبيين فهو (التولية شطر المسجد الحرام). بل انّ من المفسرين والعلماء من قال ان الثانية نسخت الأولى وساقوا أدلة على ذلك. والآية لا تتعدى كونها تبين حكما مستوجبا في ضرورة تولية الوجه في الصلاة شطر المسجد الحرام أما اذا تعذر ذلك كأن يكون الانسان يجهل الجهة أو القبلة أو كان يصلى من على ظهر راحلة أو طائرة أو سفينة أو وسيلة نقل متحركة ومنعطفة فلله المشرق والمغرب.
وهذا يشير الى ان العملية التفسيرية بحاجة ماسة الى أسباب النزول مثلا والى الأحاديث النبوية الشريفة ثانيا التي بيّنت الآيات ومقاصدها ومعانيها. ونحن نعلم أن علم الحديث علم صعب ومتشعب يهتم بالرجال والرواية والسند وعلى من أراد أن يأخذ منه أن يكون ذا دراية به درايةً تامة ليفرّق ما بين الحديث الضعيف والحسن والمكذوب والصحيح والمنقول والموضوع كما أنّ عليه أيضا أن يتبين الرواي والسند وغير ذلك من الضوابط والشروط وهي بعيدة كل البعد عن غير المتخصص. فكيف إذن تسنّى لبعض هذه الثلة المسكينة التي لا علم لها بكل هذا أن تخوض في القرآن بغير علم. حتى أمسينا نسمع تفسيرات غريبة وأحكاما وفتاوى أغرب.
وهكذا يتبين لنا أن قضية تفسير القرآن لا تكتفي باللغة وحدها بل تحتاج الى أدوات وهذه الأدوات كما قال العلماء والمفسرون كثيرة ومنهم من أجملها في إتقان سبعةَ عشرَ علما كلها يدخل في تفسير القرآن وعلى رأسها اللغة.
ولذا لا يجوز على غير المتخصص أن يقحم نفسه في هذه المعمعة وهذا المعترك الخطير الذي حذّر منه رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال (مَن قال في القرآنِ برأيِّه فليتَبوَّأْ مَقعدَهُ مِن النَّار)ِ. ناهيك عن الإحداث في الأمة؛ فلو انه كان متبوعا لدى جمهرة من الناس وأصدر حكما أو رأيا أو تفسيرا بغير علم فقد جنى على الكثير من عامة الناس وبسطائهم إذ اتبعوه.
من أجل ذلك نقول ان عملية تفسير القرآن الكريم عملية تخصصية مهمة ودقيقة ولا ينبغي لأي أحد لا تنطبق عليه معايير وضوابط التفسير أن يقحم نفسه فيها. إلا أننا ابتلينا في عصرنا هذا مع شيوع وسائل التواصل الاجتماعي فيما يعرف بعصر الديجتال والانترنت ببروز مجموعة كبيرة ممن ادعوا معرفة التفسير مع أنهم لا يملكون أبسط ضوابط التفسير (اللغة). بل ان المضحك المبكي أن تخصصاتهم لا تمت بصلة لعملية التفسير؛ فمنهم المهندس والتقني والفيزيائي والطبيب (مع احترامنا لكل هذه التخصصات) وممن لا حظ له في التخصص؛ أضحى كلٌّ منهم يدلو بدلوه ويقول بما يشاء في القرآن الكريم. حتى أمست هذه القضية مشكلة في عملية الفهم الجمعي للقرآن مما أدى الى حرف بوصلتها وتشتيت العقل المسلم أكثر مما هو مشتت. وفي الحقيقة فإن هذه المسألة لسيت طارئة بل هي قديمة وأن علماء النقل والتفسير حذروا منها منذ زمن طويل وأطلقوا عليها مصطلح (التفسير بالرأي المذموم)؛ ولدينا في التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة عليه؛ ألم يستدل بعض المتصوِّفة على جواز الرَّقص بقوله تعالى: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) مع ان الآية لا تشير إليه إطلاقا لا من قريب ولا من بعيد. ومنه أيضا ما استدل بعضهم على أن الحسنة والسيئة منه تعالى الله عن ذلك في قوله تعالى (وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)، علما أن المراد بالحسنة النعمة، وبالسيئة المصيبة. ومنها وهو الأخطر ما يمس عقيدة الإنسان في الله وفي ذاته المقدسة؛ فقد فهم بعض العلماء والمفسرين إمكانية رؤية الله تعالى في الآخرة في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ). رغم أنه سبحانه نفى عنه المادية والجسمانية في قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). ولو انهم قرأوا قوله تعالى (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)؛ أي منتظرة؛ لفهموا أن قوله (الى ربها ناظرة) أي منتظرة؛ وهي لا تنتظر من ربها إلا الرحمة والشفاعة والدخول في رضاه وتجنب غضبه وعذابه. والأمثلة كثيرة في هذا الباب.
وإنني أتساءل بصدق عن سبب لجوء البعض الى التفسير بالرأي المذموم والخوض في القرآن من غير علم! فهل هي الأنا أم هي عوامل كثيرة متنوعة مثل الجهل وعدم التوعية والابتعاد عن طريق الله تعالى والانشغال بالدنيا وابتغاء الشهرة وغير ذلك من الأسباب؟
لكن من المهم أن نعلم أن إفساح المجال لهذه الثلة المسكينة لبث تحريفاتها وتخريفاتها بين المسلمين والناس من خلال استضافتهم في القنوات الإعلامية والحية إنما يزيد هذه المشكلة ويفاقمها. ومن الضروري أن تكون هناك رقابة صارمة لضبط هذا الأمر. فلقد وصل الأمر ببعضهم انه خفف من الزنى وقال انه لا يتحقق إلا إذا كان علنيا وبوجود شهود وان كل من يمارسه من دون شهود أو في الخفاء فليس بزنى؟ بل ان بعضهم حوَّل مفاهيم القرآن الكريم التي جاءت لهداية الناس أجمعين الى معادلات رياضية وفيزياوية ونووية وأخذ يفصل فيها كيفما يشاء من دون رادع أو رقيب. وغير ذلك كثير.
نعم لقد وصلنا الى هذه النتيجة منذ أن نزعنا عن أنفسنا صفة العلم وانشغلنا بجهلنا وخلافاتنا وشهواتنا وابتعدنا عن شخصيتنا التي كانت ذات يوم تقود هذا العالم.
وعليه ينبغي علينا أولا أن نهتم بعملية تفسير القرآن الكريم وأن نأخذها من مصادرها الأصيلة وأن لا نسمح لغير المتخصصين أن يتدخلوا فيها. كيف لا وان تفسير القرآن في الأصل كان منوطا بالله سبحانه وتعالى الذي أنزل القرآن. فقد كان النبي ينتظر من الباري عز وجل التفسير ليبلغه للمسلمين قال تعالى في ذلك (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فالرسول كانت وظيفته الاساسية الهداية وتبيين مقاصد الشريعة التي هي القرآن. والقرآن يخبرنا أن الله تعالى ألهم نبيه وعلّمه التفسير قال تعالى (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)؛ وبيانه يشمل مراحل التفسير الظاهري التي نحتاجها، فضلا عن بيان أسرار ومعاني وحقائق وإشارات ولطائف وكرائم القرآن الظاهرة والباطنة؛ وهذا يعني ان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله كان ينتظر التفسير من الله ليبلغه للناس. فكيف بغيره إذن؟!!
وهكذا سار مفسرو القرآن في تفاسيرهم له؛ حيث جعلوا القرآن أول أداة في التفسير لأنهم قالوا ان القرآن بيّن كلَّ شيء كما في قوله تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)؛ ولما كان القرآن يبيّن كل شيءً فإنّ الأولى أن يبيّن نفسه ولذلك أصبح تفسير القرآن بالقرآن من أصح مصاديق التفسير؛ ثم تفسيره بالسنّة النبوية الصحيحة الثابتة المتفق عليها ثم بعد ذلك يأتي دور اللغة والبلاغة والبيان وأجزاء الكلام وأنواع الحروف ومعانيها والناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمكي والمدني والمجمل والمبين والمطلق والمقيد وغير ذلك من الأدوات والضوابط التي لا يجوز أبدا الاستهانة بها على الاطلاق أو تخطّيها.
فالقرآن كما يقول الإمام علي عليه السلام ورضي الله عنه (شافع مُشفَّع، وقائلٌ مُصَدَّقٌ وأَنه من شَفَع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه، ومن مَحَل به القرآنُ يوم القيامة صُدّقَ عليه، فإِنه ينادي مناد يوم القيامة: أَلا إِنَّ كلَّ حادث مُبتلى في حرثه وعاقِبَةُ عمله، غير حَرَثَةِ القرآن. فكونوا من حَرَثَته وأَتْباعه واستدلَّوه على ربكم، واستنصحوه على أَنفسكم واتهمُوا عليه آراءَكم، واستغِشوا فيه أَهواءَكم).
وفي الختام علينا أن نتعامل مع القرآن تعاملا عادلا فلا نقول فيه ما لا نعلم ولا ندّعي ما لا نفهم ولا نجادل فيه من غير دراية. وأن ندع ذلك للمتخصصين قولا وعملا.