المهرجان الدولي للنساء المخرجات “جسد” والحلم المشترك
عرفت الدورة الثالثة من المهرجان الدولي للنساء المخرجات “جسد” احتفاء كبيرا بالنساء المخرجات في مجال المسرح، نساء كرسن حياتهن لأبي الفنون ككاتبات ومخرجات وممثلات، وقضين خمسين سنة من عمرهن فوق الركح في مقاومة كبيرة للتهميش والتمييز، وسعي حثيث من أجل إعادة الاعتبار لعملهن المسرحي وللفن بشكل عام، وتحقيق الحلم المشترك بتحرير الأجساد والأرواح والتطلع للحرية والسلام والإسهام في تغيير المجتمعات.
فعلى مدى خمسة أيام ) من 17 إلى 21 أكتوبر/ تشرين الأول (، عاش جمهور العاصمة المغربية الرباط، على وقع الدورة الثالثة من هذا المهرجان المسرحي النسائي المتميز المنظم من طرف فرقة “مسرح الأكواريوم”، الذي تمكن رغم قلة الإمكانيات والظروف العامة الصعبة في مختلف البلدان العربية من مواصلة العمل ورفع شعار “الجسد والتحدي”، وذلك لأن رئيسة المهرجان والمسؤولة عن الفرقة المخرجة المغربية نعيمة زيطان وفريق عملها، لا يؤمنون بالاستسلام، ويعملون باستمرار على رفع كل التحديات والمقاومة عبر الفن المسرحي، حيث تمكنوا من تقديم 12 عرضا مسرحيا من عشر دول هي: إسبانيا، الأردن، رومانيا، تونس، العراق، فرنسا، إيطاليا، لبنان، فلسطين، والمغرب، وتحصيص لقاء مفتوح مع النساء المخرجات المشاركات في المهرجان، وندوة فكرية حول “الكتابة المسرحية النسائية”، وماستر كلاس من تأطير المخرجة اللبنانية لينا أبيض لفائدة طلبة المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي بالرباط حول المسرح والقضايا المجتمعية، وتكريم مجموعة من المخرجات المسرحيات اللواتي تمكن من حفر أسمائهن في مجال الإخراج المسرحي في العالم العربي والغربي، وتقديم تجارب مسرحية متفردة تنتصر للحب والحياة ولقيم الحرية والإنسانية، وذلك في مبادرة اعتراف من المهرجان الدولي للنساء المخرجات “جسد” بجيل كامل من النساء، كما تقول نعيمة زيطان، جيل من “النساء المبدعات اللواتي فتحن أبوابا ونوافذ جديدة في الفن والفكر، وهو دعوة للاستمرار في الحلم بمسرح حر يعطي الكلمة للنساء والرجال معا، يضمد الجروح ويصوغ المعاناة جمالا قادرا على تغيير المجتمعات”.
تكريم المخرجات

عرف افتتاح مهرجان “جسد” في دورته الثالثة تكريم المخرجة المسرحية اللبنانية لينا أبيض، التي واكبت هذا المهرجان منذ بدايته، باعتبارها سيدة المسرح بامتياز، جعلت من الخشبة بيتا للحقيقة، ومن الجسد جسرا بين الفن والحياة، وكانت مسيرتها عنوانا للالتزام والمسؤولية في التعبير عن آلام الناس وأحلامهم، مادام الفن بالنسبة إليها ضرورة وليس ترفا. أخرجت لينا أبيض أكثر من ثلاثين عملا مسرحيا من ضمنها “صار وقت الحكي”، و”هيدا مش فيلم مصري”، و”ألاقي زيك فين يا علي”، و”شاي مع باسكوت على باب السجن” الحائزة على جائزة “ميلون” من قبل الجامعة الأميركية في بيروت عام 2011، و”الديكتاتور”، التي حازت من خلالها على جائزة الدكتور سلطان بن محمد القاسمي كأفضل عمل مسرحي للعام 2013.
وإلى جانب لينا أبيض تم تكريم المخرجة المسرحية والأكاديمية الأردنية مجد القصص في ختام المهرجان إلى جانب المخرجة والكاتبة الرومانية ومحركة الدمى أديلا مولدوفان، وذلك لكونهما وهبتا خمسين سنة من عمرهما لخشبة المسرح، وقدمتا الكثير من الأعمال المسرحية وضحيتا من أجل فرض أنفسهما كل في بلدها.
فالمخرجة الأردنية ذات الأصول الفلسطينية والأستاذة الجامعية الحاصلة على الدكتوراه في الفن وعلوم الفن من الجامعة اللبنانية عام 2014، علامة فارقة ورائدة في المسرح الأردني فهي أول امرأة مخرجة في مجال المسرح في هذا البلد، شكلت على مدى خمسة عقود نموذجا فريدا للمرأة الأردنية الطليعية والممثلة الاستثنائية والمخرجة الصلبة والملتزمة، التي جعلت من المسرح بوابة للتعبير عن القضايا المجتمعية التي تؤرقها، وتوجيه رسالة فنية راقية، لأنها بكل بساطة تؤمن ومن زمان بأن المسرح هو المتنفس الحقيقي، حيث قالت في لجزة تكريمها بالمغرب : “لن أتوب عن المسرح وسأظل أشتغل وأتنفس مسرحا”.
لم تكن بداياتها سهلة ولا طريقها معبدا، فقد كابدت المخرجة مجمد القصص من أجل تحقيق ما تصبو إليه كممثلة ومخرجة وكأستاذة جامعية، حيث يعود لها الفضل في تربية العديد من الأجيال المسرحية بالأردن. لديها خبرة فنية طويلة في مجالات متعددة، منها 75 عملا مسرحيا و37 عملا تلفزيونيا وأربعة أفلام سينمائية، بدأت كممثلة مع الأخوين عاصي ومنصور الرحباني في مسرحياتهما قبل أن تنتقل إلى الإخراج المسرحي. من بين أعمالها المسرحية: “ماكبث”، و”قلادة الدم”، و”النافذة”، و”بوابة 5″ التي حصلت على جائزة الدولة للإبداع وأفضل عمل متكامل في مهرجان المسرح الحر، و”الحب في زمن الحرب”، و”أوركسترا”، و”قالب كيك” التي توجت من خلالها بجائزة أفضل مخرجة، ناهيك عن العديد من الجوائز التي حازتها والتي تقدر بأكثر من 46 جائزة وتكريم ما بين ممثلة ومخرجة.
والفنانة الرومانية أديلا مولدوفان مخرجة متميزة في مسرح العرائس، تلقت تدريبا مكثفا في تحريك الدمى ما بين 1976 و1980، واشتغلت كمحركة دمى في مسرح “أراد” للدمى. أسست فرقتها الخاصة عام 1991، وشاركت في مهرجان مسرح الدمى العالمي في شارلفيل – ميزيير. كما أخرجت عرض “أخوات أليس” من تأليف جاكلين سارازين، بالتعاون مع دار الثقافة في سانت إتيان والمركز الثقافي “لاريكاماري” بفرنسا. ومن بين أعمالها: “دو ري مي”، و”أجمل رقصة” و”الفزاعة”.
حصلت المخرجة أديلا مولدوفان على جوائز عديدة في رومانيا وفي بلدان أخرى، وشاركت في مجموعة من المهرجانات العالمية للمسرح ومسرح الدمى.
الكتابة النسائية

بعد تخصيص مهرجان “جسد” في دورتيه السابقتين ندوتين لموضوعي الإخراج والسينوغرافيا، أفرد ندوة الدورة الثالثة لموضوع الكتابة المسرحية المقدمة بأقلام نسائية وعلاقتها بالمجتمع والجمهور، وهي أحد العناصر المهمة في العملية المسرحية شأنها شأن الإخراج، تأخذ فيها المرأة الكلمة لتقدم مقاربات لقضايا مجتمعية تسكنها بخصوصيات معينة.
وقد شكلت الندوة فرصة للوقوف على حضور المرأة في الكتابة المسرحية في العالم العربي، حيث رأت الدكتورة نوال بنبراهيم الباحثة المغربية المتخصصة في المسرح أن حضور المرأة في الكتابة المسرحية بالمغرب محدود جدا، ولكن هناك أسماء أكدت وجودها بتناولها لقضايا المرأة والمجتمع، وساهمت بأسلوبها الخاص في إغناء الخزانة المسرحية المغربية، من مثل: ليلى الهواري، فاطمة شبشوب، الزهرة إبراهيم، فاطمة هوري، ورفقة أمزدي، خديجة زروال، وفاطمة الزهراء لهويتر، نعيمة زيطان، أسماء هوري، نزهة حيكون وأخريات.
ومن جهتها وقفت الدكتورة فوزية لبيض، الأستاذة الجامعية والناقدة الفنية المغربية، على الكتابة النسائية للمسرح عالميا، ووقفت عند بعض التجارب، وخلصت إلى أن المخرجات في المسرح أكثر من الكاتبات، وأن كتاباتهن تركز على البعد الجنسوي أكثر من البعد الفلسفي والفكري. فيما ركزت الباحثة سندس بنحلام، الإطار بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان، على الدور الفعال للمسرح في التعبير عن القضايا الإنسانية والحقوقية، والنهوض بالمجتمعات وبحقوق الأفراد، وسلطت الضوء على الأهمية التي يوليها المجلس الوطني للحقوق الإنسان للمسرح والفنون بشكل عام، لأنه يؤمن بالدور الأساسي للثقافة والفنون في تحقيق الديمقراطية، ويرى في المسرح، حسب تعبير المسرحي المغربي الطيب الصديقي، ضرورة مجتمعية وليس ترفا. وأشارت إلى أن المسرح أداة مثلى للتعريف بحقوق الإنسان وتقريبها إلى المواطن العادي.
وانطلاقا من تجارب شخصية مع الكتابة المسرحية، ذكرت المخرجة والكتابة الرومانية أديلا مولدوفان التي تمنح روحا للعرائس والدمة على خشبة المسرح، أنها تسعى دائما في كتابتها للمسرح إلى مخاطبة الروح حتى يظل العرض عالقا في ذهن المتفرج، ومن جهتها تجدثت المخرجة المغربية نعيمة زيطان عن علاقتها بالنص المسرحي، الذي تعيد الاشتغال عليه وتختبره على خشبة المسرح، وتهتم باللغة التي يقد بها العمل بشكل كبير. وأشارت زيطان إلى أنه هناك فرقا بين كتابة الرجل للمسرح وكتابة المرأة، ولكن الكتابة بشكل عام تحتاج إلى الكثير من الصبر والحرية.
أما المخرجة اللبنانية لينا أبيض فذكرت أن الأهم هو أن تحكي المرأة قصتها وأن تكتب، لأن هذا الصوت يجب أن يسمع، و”صوت المرأة حين يكتب يحدث الأثر ويغير النظرة”.
عروض استثنائية
على مدى خمسة أيام شاهد جمهور العاصمة المغربية الرباط 12 عرضا مسرحيا عربيا وأجنبيا، حيث افتتح المهرجان بالعرض المسرحي المغربي الجديد “تخرشيش” للمخرجة مريم الزعيمي في ثاني تجربة إخراجية لها مع فرقة “المسرحيين المتحدين للثقافة والفنون” بعد مسرحية “فوضى” التي توجت العام الماضي بالجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للمسرح الاحترافي بتطوان، وهو عرض يسلط الضوء على موضوع حساس يتمثل في العنف الجنسي وزنا المحارم، المسكوت عنه. ليتلوه في الغد العرض المسرحي الأردني “نون” للمخرجة مجد القصص، وهو دراما موسيقية راقصة، وثمرة تعاون بين المخرجة والكاتبة الأردنية سميحة خريس، حيث تعيد المسرحية تخيل مسرحيتين يونانيتين قديمتين: “برلمان النساء” و”ليسستراتا”، لمعالجة صراعات المرأة العربية المعاصرة مع الحرب والحب والوطن والموت، وذلك من خلال كوميديا سوداء تقتحم فيها مجموعة من النساء البرلمان الذي يهيمن عليه الرجال احتجاجا على الحرب والفساد وتهميش المرأة وحقوقها.

ومن إسبانيا قدمت المخرجة الشابة كلارا رامو مسرحية “بنات وليام” التي تجمع ثلاث بطلات شهيرات من مسرحيات شكسبير: أوفيليا، جولييت، والسيدة ماكبيث، وتجعلهن يلتقين في الحياة الآخرة، ولا شيء حولهن يشير إلى ما إذا كن في الجنة أم في النار، حيث يقررن تقاسم الظروف المصيرية التي دفعتهن إلى الانتحار. وبين الفكاهة والوجع، والصدق والتحدي، يرسم العرض مشهدا مسرحيا قويا حول حرية المرأة، وحقها في إعادة كتابة مصيرها بطريقتها الخاصة. ومن تونس، قدمت المخرجة دليلة المفتاحي عرض المسرحي “البوابة 52″، الذي تكرم فيه النساء التونسيات المقاومات في وجه الاستعمار، اللواتي ناضلن من أجل نيل حريتهن وحقوقهن، حيث تسلط المسرحية الضوء على جزء من تاريخ تونس المرتبط بمشاركة النساء في حركات التحرير عام 1952. ومن فرنسا قدمت المخرجة المسرحية والكاتبة ألكسندرا باديا مسرحيتها “التي تنتظر العالم”، التي تسلط الضوء على مشكل الهجرة ومعاناة المهاجرين غير النظاميين، من خلال قصة مراهقة تعيش في شمال فرنسا، ويتقاطع مسارها مع مهاجر آخر قاصر، منعزل، ويعيش في وضعية إدارية صعبة، فتتطور الأحداث بينهما في سياق مجتمعي معقد. تميز العرض برؤيته الشاعرية التي تجمع بين الجسد والكلمة، حيث تتحول نظرة المرأة فيه إلى فعل مقاومة وتأمل في هذا العالم عير المنصف.
وإلى جانب هذه العروض، قدمت المخرجة والكاتبة الرومانية أديلا مولدوفان مسرحية “استراحة”، وهي عرض حالم تستبدل فيه المخرجة الممثلين بالدمى لتروي قصة لقاء غير متوقع بين مهرج عجوز وفتاة شابة. إنه عرض يلامس الصمت والجمال، صاخب بالعواطف، يرسم مشاهد من الوحدة، الحنين، والدهشة الإنسانية، وذلك بأسلوب بصري بديع، وبتقنيات دقيقة في تحريك الدمى، استطاعت المخرجة أن تحول الصمت فيه إلى لغة شعرية نابضة.
ومن المغرب قدمت المخرجة نعيمة زيطان مسرحيتها “الدالية”، وهو عرض يسائل معنى الحب والصداقة والأسرة والفن من خلال حكايات متفرقة تتصل بشخصياتها وفضاءاتها، ويستكشف بعض الروابط التي تجمعها والمعضلات التي تعترضها. وقدمت المخرجة الشابة حنان العلام، خريجة المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي، عمل تخرجها “غرق”، الذي يغوص في أعماق الذاكرة الفردية والجماعية، وتستحضر فيه المخرجة الجراح القديمة وتعيد طرح أسئلة الهوية، الصدمة، والنجاة، عبر لغة مسرحية تمزج بين الصورة، الجسد، والموسيقى. ومن جهتها قدمت خريجة المعهد نفسه، المخرجة الشابة آية جبران عرضها المسرحي “الخادمتان”، وهو عمل مكثف يلامس ثنائية الخوف والرغبة، وينبش في صراعات السلطة والغيرة والهوية، عبر أداء تمثيلي قوي وإخراج يتسم بالجرأة والدقة.
وفي عمل مسرحي مشترك بين المغرب وفرنسا، قدمت المخرجتان فاطم العياشي وكليمونص لاباتو عملهما “عند التقاطعات”، تطرحان فيه سؤال العائلة كفضاء مزدوج: جذور ننتمي إليها، ومصدر انطلاق نحو القطيعة والتحرر. وهو عرض يمزج بين الجسد والكلمة والذاكرة بالعاطفة، عبر حس جمالي وصدق إنساني، ومقاربة فنية جريئة تحاور العلاقات العائلية وتعيد التفكير في معنى الانتماء والحرية.
وكان ختام المهرجان مع العرض المسرحي الإيطالي “سيمبوزيو” أو “الندوة”، للمخرجة ليا كلوديا لا تيني، وهو عمل كوريغرافي مدهش جمع بين الرقص والمسرح والموسيقى، أعطت فيه المخرجة للجسد مكانة أساسية في التعبير عما يخالج الإنسان والعالم من تحولات، وبحث عن الكمال.
ولأن المهرجان الدولي للنساء المخرجات “جسد” يرفع شعار التقاسم وليس التنافس، فقد أبعد منظموه الجوائز عنه، وأفسحوا المجال للنقاش وتبدل الخبرات والتجارب بين المخرجات من مشارب ومدارس وأجيال مختلفة، وجعلوا منه موعدا قارا في كل دورة، حيث تقاسمت فيه المخرجات المسرحيات في هذه الدورة الثالثة تجاربهن في الإخراج المسرحي والكتابة، والتحديات التي واجهتهن في مسارهن المسرحي وأحلامهن وطموحاتهن، وناقشن سبل التعاون وإطلاق مشاريع مشتركة بعد المهرجان، وهو ما ثمنته المخرجة نعيمة زيطان رئيسة المهرجان، التي عبرت عن أملها في أن يتحقق هذا الحلم ويتم تجاوز الصعاب المادية التي تكاد تعصف بمقر جمعية “الأكواريوم” منظمة هذا المهرجان ومحتضن هذا النقاش، وتخصيص الجهات المعنية بالمسرح في المغرب الدعم اللازم لهذا المهرجان الذي يسعى إلى “النهوض بالمفعل الدرامي وجعل الخشبة مكانا للوعي والتضامن الإنساني”.
