احتلال كل غزة

                               بعد مصادقة كابينيت الحرب الإسرائيلي الذي انعقد لأكثر من ثماني ساعات وقراره بإستكمال احتلال ما تبقى من قطاع غزة يتضح أن ما كانت ترمي له اسرائيل منذ بداية الحرب هو السيطرة على تلك المنطقة الصغيرة التي لم تكف عن قتال اسرائيل حتى في أسوأ لحظاتها وحصارها كانت بوصلتها الوطنية فاعلة باستمرار لتجد الدولة المحتلة في أحداث السابع من أكتوبر فرصتها التاريخية لتغيير الواقع الديمغرافي ومن ثم الأمني في القطاع مرة وللأبد .

             تكشف النوايا والقرارات التي تصدر عن شهوة التوسع الإحتلالي تحت حجة الأمن سواء في سوريا أو لبنان أو الضفة الغربية أو حتى غزة تلك التي لم تكن محل أطماع احتلالية بسبب التشاؤم الذي تسببه تاريخياً بدء من أسطورة  شمشون ودليلة الفلسطينية التي جردته من قوته التي كانت تتركز في خصلات شعره والراسخة في الذاكرة العبرية أو لهزيمة جيش بنيامين الذي كان على رأس جيش دولة يهودا وفقاً للأسطورة في القدس وصولاً لرابين وحلمه بابتلاع البحر لها ونهاية بشارون الذي انسحب منها قبل أن يدينه الرئيس دونالد ترامب مطلع أغسطس عندما قال ” هناك رئيس وزراء في اسرائيل ارتكب خطأ حين انسحب من غزة وعلى اسرائيل تصحيح هذا الخطأ ” وهو ما اعتبر الضوء الأخضر من قبل البيت الأبيض للحكومة الإسرائيلية المتطرفة بإعادة احتلال القطاع من جديد .

                  تحتل اسرائيل ثلاثة أرباع قطاع غزة وتلك الأرباع الثلاثة للقطاع  تم تدميرها بالكامل ولم تعد صالحة فهي تحتل كل مناطق شرق شارع صلاح الدين الذي يقسم القطاع طولياً من معبر ايرز شمالاً حتى معبر رفح جنوباً ، وقد احتلت المناطق الشمالية والجنوبية للقطاع ففي الشمال قامت بطرد السكان من محافظة الشمال بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا المخيم ومناطق شرقه وغربه وأجزاء من جباليا البلد تحاذي مدينة غزة من أطرافها الشمالية ، وقد قامت بمسح كل الأماكن في تلك المناطق أما من جنوب القطاع فقد احتلت محافظتي رفح وخانيونس … كل محافظة رفح التي دمرت كل مبانيها وحولتها إلى ركام وكذلك الأجزاء الأكبر من محافظة خانيونس كل مناطقها الشرقية عبسان وبني سهيلا والقرارة تم اخلائها تماماً من السكان وتدميرها وكذلك المناطق الغربية التي تشمل وسط المدينة وأجزاء من المخيم ولم يبق سوى منطقة المواصي وهي المنطقة التي يتكدس بها النازحون وخيامهم .

                  ما تبقى في قطاع غزة ذو المحافظات الخمس فقط محافظتين الأولى محافظة غزة والتي تضم مدينة غزة وضواحيها والتي تمتد من حي الشيخ رضوان شمالاً حتى حي الزيتون جنوباً ومن الشجاعية شرقاً حتى الميناء ومخيم الشاطئ غرباً وتلك تم قضم الجزء الشرقي منها والذي يضم حي الشجاعية الكبير بجزئيه ومنطقة الشعف والتفاح وشرق الزيتون فقط تبقى مركز المدينة في منطقة الساحة الرئيسية والبلدية وغربها أما المحافظة الوسطى التي تضم مدينة دير البلح والمخيمات الثلاث مخيم النصيرات ومخيم البريج ومخيم دير البلح فتلك ناورت واجتاحت ودمرت اسرائيل في مناطقها الشرقية مخيم البريج الوحيد الذي يقع شرق صلاح الدين ومنطقة كيسوفيم لكنها لم تقتحم محافظة الوسطى بالكامل وتحديداً المناطق الغربية التي تعرضت منذ بداية الحرب للقصف الحوي المركز والتدمير من بعيد لكن لم تجتاحها القوات البرية كما فعلت في كل المناطق ولم ترحل ساكنيها .

               بررت اسرائيل في قرارها أن ما تبقى من الأسرى الإسرائيليين الذين أسرتهم حركة حماس يوم السابع من أكتوبر يتواجدون في تلك المحافظتين لكن الحقيقة ليست كذلك فالموضوع أبعد بكثير وكشفته تصريحات رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو في الأسبوع الأول من الحرب عندما كان يتحدث عن تغيير الواقع الامني وضمان أمن اسرائيل لخمسين عاماً قادمة ساخراً من كل مقترحات وقف الحرب والخطط التي كان يقدمها الوسطاء وكذلك جيش اسرائيل والتي تحاول أن توقف الحرب لأن حكومة نتنياهو أرادتها حرباً مفتوحة حتى تحقيق مشاريع استراتيجية وليس شعارات وأهداف رفعت في بداية الحرب كالأسرى واسقاط حكم حماس بل أبعد .

                  في النقاش الذي امتد في اسرائيل والجدل بين المستويين العسكري والسياسي ما يفضح الخطط السياسية حيث اجتمع كابينيت الحرب مطلع أغسطس ليشهد صداماً بين رئيس أركان المؤسسة العسكرية مع أعضاء حكومة اليمين ومع رئيسها شخصياً والذي تلقى اهانات شخصية من أسرة بنيامين نتنياهو زوجته وابنه لأن الأسرة تعتقد أن زامير بما كان يقدمه من خطط لا تتلاءم مع المستقبل السياسي لنتنياهو الذي لا يستطيع حتى اللحظة أن يذهب للإنتخابات مفتقداً  لنصراً واضحاً كما وعد المواطنين في اسرائيل وهنا بينما كان يتحدث زامير عن خطط محاصرة المدينة والضغط على حماس دون اعتبار للوقت كان نتنياهو الذي أصبح مضغوطاً بالوقت يتحدث مثل الثور الهائج عن قلب كل حجر في المدينة وتدميرها وكذلك المنظقة الوسطى أي التفتيش في كل زاوية في القطاع عن الأسرى وعن عناصر حركة حماس ومسلحيها .

                  الجيش الذي يتحدث بتقديرات مهنية بات يشعر أن الامر أكثر خطورة من تقديرات الهواة فهو يعرف تماماً لماذا خرج من غزة منذ اثنان وعشرون عاماً ويعرف أن التواجد الدائم في غزة يعني الغرق في مستنقع يشبه فيتنام ويكلف أرواح الجنود لأنه سيشهدون حالة استنزاف لا تتوقف عدا عن الكلفة المالية لدولة مثقلة اقتصادياً بفعل الحرب فمنذ العام الماضي كان الجيش قد وضع كلفة مالية تقدر بخمسة مليارات دولار سنويا لكن تقديرات الخبير المالي الإسرائيلي الدكتور استيبان كلور استاذ الإقتصاد بالجامعة العبرية بالقدس كما نقلت صحيفة وول ستريت جورنال فستبلغ عشرة مليارات وهي تساوي 2% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي وهو رقم أكبر من تتحمله اسرائيل لكن بين أهداف نتنياهو الإنتخابية والمصالح الامنية للدولة المحتلة وبين الممكن مسألة بحاجة إلى نقاش أوسع .

                إذا ما جرت الإنتخابات في موعدها أي إذا ما تمكنت هذه الحكومة من استكمال ولايتها هذا يعني أن الإنتخابات بعد أربعة عشر شهراً في اسرائيل يحلم رئيس وزرائها أن يكون قد حسم الامر مع جبهة قطاع غزة بذلك الوضوح الذي يحلم لأن الإسرائيليين يسمعون منذ أكثر من عام ونصف بأن النصر في متناول اليد لكن النتائج غير ذلك وهو ما يجعل نتنياهو شديد الغضب يطلق العنان لزوجته وابنه يهاجمون رئيس أركانهم الذي اختاروه من بين المرشحين كيميني قريب لأفكارهم ومقرب للعائلة .

                قرار اسرائيل بإنجاز تفريغ غزة خلال شهرين من اتخاذه أي حتى السابع من أكتوبر والذي يحمل دلالة رمزية لإسرائيل كأنها تحاول استدعاء الرموز للإنتصار على الذاكرة السوداء واللافت في القرار هو الطلب من الجيش بتهجير سكان غزة إلى الجنوب وهو ما يفسر الأمر وفقاً للإستراتيجات الكبرى ومشروع التهجير الذي لم تظهر اسرائيل أي علامات تراجع عن هذا المخطط العنصري الإحلالي فمناطق شمال غزة سواء جباليا أو بيت لاهيا أو بيت حانون فارغة تماماً بل أن جيش اسرائيل أعلن أن لواء غفعاتي قد أنهى مسح بيت حانون تماماً والتغلب على الكتائب المسلحة فيها فما الذي يمنع دفع الناس شمال مدينة غزة إذا كان هدف اسرائيل التفتيش في المدينة كما تقول ؟ لكن الامر غير ذلك بل يرتبط تماماً بما يقوله رئيس وزراء اسرائيل عن مفاوضات مع خمسة دول وافقت على استقبال عدد كبير من سكان قطاع غزة .

                لم يختلف كابينيت الحرب على الإستيلاء على أراضي الغير ولا طرد سكانها في تكرار لتجربة النكبة قبل أكثر قليلاً من ثلاثة أرباع القرن عندما استولت العصابات الصهيونية المسلحة على أراضي فلسطين بالقوة العسكرية وطردت سكانها بل اختلف الكابينيت على تسميتها لتتداخل المأساة بالملهاة فعندما أدلت المستشارة القانونية لحكومة اسرائيل برأيها القانوني حول ضرورة أن يتحمل الإحتلال مسؤوليته القانونية رد عليها بنيامين نتياهو قائلاً ” من قال أننا سنحتل غزة ؟ بل قلنا سنسيطر عليها ” في أسوأ ما يمكن أن يسمعه من أكثر احتلال عرفه التاريخ بشاعة ” فكل من احتل الشعوب وسيطر عليها تحمل مسؤولياته القانونية ، وعندما سال زامير رئيس أركان جيش اسرائيل من سيدير الناس ” عاجله نتنياهو بسؤال ومن يديرهم في المواصي ؟ يقصد النطقة المحاذية للبحر التي طلب من الناس الرحيل لها وهم منذ أكثر من عام ونصف يتكدسون بخيامهم هناك رد زامير” لا أحد ” فقال له نتنياهو: ” أرأيت لا أحد “…. وهكذا تسير الأمور .

                  في تاريخ الصراع لم تمر شخصية اسرائيلية بهذا القدر من المكر والدهاء مثل بنيامين نتنياهو فقد تجاوز بن غوريون في فترة قيادته لأسرائيل ويوصف بأنه أعاد هندسة دولته وقضى على عملية التسوية وعلى اليسار في اسرائيل من خلال تغيير ثقافة المجتمع هناك وفي موضوع غزة لأكثر من عام لم يفصح عن مشروعه فيها تاركاً للجيش أن يضع تصورات وسيناريوهات فاشلة وتاركاً للعرب أيضاً أن يضعوا تصورهم ويعرضونه في قمة عربية كانت في مارس الماضي دون أن يتعاظى بجدية مع كل ما يتم طرحه وظل محتفظاً بالصمت ولم يتم الإعلان عن نواياه إلا مطلع أبريل الماضي على لسان ما يمكن تسميته ببغاء نتنياهو كما جاء في إحدى رسومات الكاريكاتير دونالد ترامب الذي اعتاد أن يردد ما يقوله نتنياهو بإعلان الرئيس الأميركي نيته ترحيل سكان القطاع والإستثمار في تلك المنطقة .

               طرد سكان مليون فلسطيني من سكان محافظتي غزة والشمال يتكدسون الآن في مدينة غزة نحو الجنوب ووفق الخطة أيضاً يتم طرد سكان المحافظة الوسطى نحو الجنوب فالمواصي الممتلئة بالبشر لم تعد تكفي للمزيد  وبالتالي الرحيل نحو رفح المدينة التي تقع على الحدود المصرية وهذا سيناريو تم تطبيقه العام الماضي حين تم الدفع بالناس نحو رفح قبل أن يحتلها الجيش الإسرائيلي والآن يمكن تفسير ذلك وهو ما تم تحليله حينها على صفحات مجلة الحصاد قبل أكثر من عام لكن السيناريو يعود الآن بظروف مختلفة الفلسطيني أكثر انهاكاً ورئيس أميركي على المقاس الإسرائيلي والمحيط تم تحطيمه والبيئة الإقليمية أكثر ضعفاً في مواجهة اسرائيل فقد خرج حزب الله وايران من المعركة وتركت حماس في غزة لوحدها والعرب بقوا على ضعفهم وربما أكثر ومصر والأردن يتم إضعافهما أكثر واسرائيل تتبجح بهندسة الإقليم كسر لبنان وتغيير النظام في سوريا أما غزة فتلك رواية أخرى يأمل في اقتلاعها من جذورها .

                 هذا هو بيت قصيد شكل الإبادة ونهاياتها السياسية بتغيير الديمغرافيا وأبعد من ذلك يريد تغيير الجغرافيا فبنيامين نتنياهو يتكئ على قدمين في هذه الحكومة الأولى ايتمار بن غفير رئيس حزب القوة اليهودية وريث كهانا بمشروع تهجير الفلسطينيين والثانية بتسلئيل سموتريتش صاحب مشروع الضم والذي تنفتح شهية اسرائيل لضم الجزء الشمالي من القطاع هذا ما تريد اسرائيل فعله وسط إفاقة دولية لم تصل حد القدرة على منعه لكنها تتصاعد فهل يمكنها أن تصل لتلك المرحلة ؟ التجربة مع أوروبا والعالم ليست مدعاة للتفاؤل .