التخطيط الاستراتيجي وتطويع المستقبل وصناعته  

لتحديد مفهوم التخطيط عموما، ذهبت الآراء باتجاهات متعددة. وبغض النظر عن تلك التي أدركته بدالة مجردة كالقول مثلا أنه: ” أسلوب للتفكير المنظم”, تلتقي العديد من الآراء الأخرى على بعده المستقبلي. فمثلا قيل أنه:” ما يجب عمله اليوم لتحقيق ثمة شيء منشود في المستقبل”, أو هو” التفكير في المستقبل والاستعداد له.”, أو هو” التدبر الذي يرمي إلى مواجهة المستقبل بخطط منظمة سلفا لتحقيق أهداف محددة منشودة. وعلى الرغم من هذه التعددية في هذه الرؤى، إلا ان التخطيط يتميز بخصائص ينفرد بها، ومثالها الآتي، فهو: 

أولا، يقترن بعملية محددة قوامها التدبر الرامي إلى مواجهة المستقبل عبر خطة (أو خطط) محددة سلفا لتحقيق هدف مرغوب فيه أومجموعة أهداف مرغوب فيها. لذا يُعد وسيلة وليس غاية بحد ذاته. 

 ثانيا، ارتباطه بعملية اتخاذ القرار ارتباطا وثيقا. ففي الوقت الذي تنحصر وظيفة التخطيط في بلورة سياسات مناسبة تحقيقا لأهداف محددة، تنصب مهمة اتخاذ القرار على المفاضلة الدقيقة بين عدد من البدائل التي تتمتع بقيمة واحدة او متقاربة سبيلا لاختيار ذلك البديل (بمعنى تلك السياسة) الأكثر قدرة على تحقيق الهدف المنشود بأقل الخسائر المقبولة. وعلى الرغم من أن التخطيط يقترن بأنواع متعددة تنبع من فكرة واحدة قوامها التدبر المسبق، إلا أن التخطيط الإستراتيجي يتماهى وهذه الانواع، ويختلف عنها في أن. 

فهو يتماهى واياها من حيث المفهوم. فالتخطيط الاستراتيجي يقترن بذلك النمط من التفكير العقلاني والابداعي الذي يرمي إلى تطويع المستقبل من خلال الاستعداد المسبق خدمة لهدف منشود، أو اهداف منشودة، عبر أدوات تنفيذية مؤثرة. وبهذا المعنى هو يقدم اجابة لسؤال مركب: ماذا نريد ان يتحقق في أحد أزمنة المستقبل، وما السبل الموضوعية لذلك؟ 

وهو يختلف عنها في بعده الزماني. إذ يمتد أمده أما إلى زمان المستقبل المتوسط : عقدان من زمان محدد، و/أو إلى زمان المستقبل البعيد الممتد إلى خمسين عام، و/أو إلى زمان المستقبل غير المنظور الممتد إلى ما بعد خمسة عقود. ومرد هذا الامتداد الزماني يكمن في اقتران التخطيط الاستراتيجي بالسعي إلى أحداث تغيير جوهري في الواقع الذي يتعامل معه. وغني عن البيان أن تحقيق مثل هذا التغيير يحتاج إلى زمان أطول في العموم من زمان المستقبل المباشر: عامان، وكذلك من زمان المستقبل القريب: خمسة أعوام. بيد أن هذا القول لا يلغي أهمية التخطيط لمستقبلات هذه الازمنة ولاسيما القريب منها. فمخرجاته، في حاله نجاحها ، تؤسس الأرضية الملائمة لتحقيق اهداف التخطيط للمستقبل متوسط الزمان. والشيء ذاته بالنسبة للعلاقة بين هذا التخطيط والتخطيط للأزمنة اللاحقة . ولنتذكر أن بناء المستقبل المنشود لا يتحقق دفعة واحدة، وإنما على وفق مراحل زمانية متعاقبة ونجاحات متراكمة. 

والتخطيط الاستراتيجي، كأداة لتطويع المستقبل ابتداء من الحاضر، ينبني على ركيزتين أساسيتين ومتفاعلتين: هما الاستشراف العلمي، توافر شروط التخطيط الفاعل. 

فأما عن الاستشراف العلمي، فهو يقترن بذلك الجهد العلمي الرامي إلى الكشف عن المشاهد الممكنة و/أو المحتملة للمستقبل انطلاقا من معطيات الواقع. وغني عن البيان أن دقة الاستشراف تعد شرطا مهما لنجاح عملية التخطيط بأنواعه. ولا يلغي هذا الشرط احتمال اقتران الاستشراف بقدر من الخطأ. ولنتذكر أن استشراف مستقبلات الظواهر الاجتماعية يختلف عن استشراف مستقبلات الظواهر الطبيعية. هذا لآن الثانية أقل تأثرا بعملية التغيير من الأولى. ومع ذلك، نرى أن يتوافر المرء على صورة للمستقبل، حتى وأن كانت ناقصة مرحليا، أفضل من ألا يتوافر على أية صورة أصلا. فالصورة غير المتكاملة تتكامل تدريجيا مع مرور الزمان. 

وأما عن توافر شروط التخطيط الفاعل، فهو يفيد أن توافر المخطط الإستراتيجي على قدرة صياغة الأهداف المنشودة واختيار أدوات التنفيذ، وعلى نحو موضوعي، لا يعد، مع أهميته، كافيا بحد ذاته. فهذه القدرة لكي تضحى فاعلة ومؤثرة، فلابد أن تدعمها ثمة متطلبات/ شروط/ ساندة. وفي ادناه سنتناول ثلاث منها ، وكالاتي: 

أولا، دقة التبصر في المتغيرات المؤثرة في مخرجات التخطيط الاستراتيجي 

لا ينكر المستقبليون تأثير حقائق الماضي ومعطيات الحاضر في تشكيل مشاهد المستقبل. بيد أن جلهم يرى أن المستقبل لا يتشكل على وفق مجموعة محددة من المتغيرات ولاسيما التي تفضي مخرجاتها إلى بلورة تلك الاتجاهات الممتدة من الماضي إلى الحاضر فقط، وإنما أيضا تلك المتغيرات التي تفضي حصيلتها إلى انفتاح المستقبل على مشاهد متعددة ومتنوعة. ومن بينها تلك المتغيرات غير المرئية، في زمان الحاضر ، والتي يفضي تبلورها لاحقا إلى إحداث تأثير مهم في تشكيل مشاهد المستقبل. 

ولعل من بين أبرز المتطلبات المهمة لإنجاز تخطيط استراتيجي ناجح ضرورة توافر القدرة المكتسبة على التبصر بهذه المتغيرات ومخرجاتها، ومن ثم المشاهد المتعددة الناجمة عنها. 

 وخلافا للماضي والحاضر، اللذان تتوافر عنهما معلومات كافية تسهل دقة دراسة ما كان وما هو كائن، تنتفي مثل هذه الخاصية عن المستقبل. صحيح أن تأثير نقص المعرفة ذات العلاقة بالمستقبل لم يعد بتلك الحدة السابقة. بيد أن ذلك لا يلغي أن استشراف دقيق للمستقبل ، يبقى على قدر من الصعوبة الكامنة. لذا لم يؤد تقليد الاستعانة بمقاربات منهجية متعددة واليات متنوعة لأغراض جمع البيانات، وتوليد الافكار، وربط الجزئيات في كل متكامل، فضلا عن ضمان الاتساق الداخلي لمجمل عملية الاستشراف، دون أن يتكرر القول: أن الجهد الرامي إلى استشراف مشاهد المستقبل” … يمكن أن يكون قليل الدقة أو خاطئا…” أي فاشلا.  

 ولا نرى غرابة في تكرار مثل هذا القول. فمخرجات نقص المعلومات، و/ أو سوء التوظيف للمقاربة المنهجية المستخدمة، و/أو عدم أخذ متغيرات مهمة بالحسبان كلها وغيرها ايضا تحول دون استشراف يتميز بالدقة شبه المطلقة. وهنا يستوي مثلا الإنسان المستقبلي والطبيب. فعلى وفق نوعية معرفتهما وكفاءتهما، يتحدد نجاحهما أو فشلهما. فكما أن الحاجة للطبيب تبقى مستمرة، والتي لا يلغيها عدم كفاءة تشخيص بعض الاطباء، كذلك ينسحب الشيء ذاته على الانسان المستقبلي ودراساته. فعدم دقة بعضها، بل وحتى فشلها، لا يلغي الحاجة اليها. فمعطيات عالمنا الراهن، بفرصه وكوابحه، تفرض ديمومة هذه الحاجة. 

ومع ذلك، ينطوي عدم الدقة و/أو حتى الفشل، على فائدة، هذا لدوره في إنارة الطريق باتجاه الافضل بشرط التعلم من أسباب الفشل والاستفادة منها. وبهذا الصدد، قال مثلا المستقبلي الأمريكي الرائد، ألفين توفلر: “… في معالجة أمور المستقبل…لا تحتاج الرؤى إلى أن تكون في غاية الدقة لتكون مفيدة …(فحتى) الاخطاء لها فوائدها. إن الخرائط التي تم رسمها للعالم في العصور الوسطى كانت أبعد ما تكون عن الدقة، وكانت مليئة بالأخطاء …ولكن من دونها لم يكن من الممكن لعظماء المكتشفين أن يكتشفوا الدنيا، بل لم يكن من الممكن أن تُرسم الخرائط الحديثة والاكثر دقة.”  

ثانيا: قدرة التوظيف المتوازن بين الموضوعية والذاتية 

علميا، تقوم بين أنماط السلوك الإنساني ونوعية رؤية الإنسان للواقع الداخلي و/أو الخارجي السائد، علاقة طردية قد تكون إيجابية أو سلبية. ويرى أستاذ السياسة الدولية، كي. جي. هولستيK.J.Holsti) ) ، أن هذه الرؤية تُعد حصيلة “…لنوعية إدراك الإنسان لشيء ما يفرزه الواقع السائد، فضلا عن التقييم المعطى له، والمعنى المستخلص منه.” وتبعا لذلك قد تكون هذه الرؤية أما موضوعية، أو ذاتية. 

فالرؤية تضحى موضوعية، عندما يعمد الإنسان إلى إدراك معطيات الواقع كما هي عليه دون أن يشوب هذا الإدراك أهواء أو مصالح أو تحيزات. وهي تصير ذاتية، عندما يتجرد الإنسان من تأثير العقل، رائدا وضابطا وحاكما، ويسحب، بالتالي، ما يتمناه و/أو يتخيله و/أو يتأثر به ذاتيا على المعطيات السائدة في الواقع، ومن ثم يعمد إلى إدراكها على نحوٍ لا يستوي ومعطياتها الموضوعية. وبهذا الصدد يؤكد المستقبلي العربي الرائد، قسطنطين زريق، أن الإسراف في الذاتية يلغي “…العقلية الضرورية لإعداد المستقبل (وأيضا) لبقائه وازدهاره…”  

والافتراض أن الإنسان يكون أما موضوعيا أو ذاتيا على نحوٍ مطلق، هو افتراض تبسيطي في الاقل. فالموضوعية والذاتية أمران نسبيان بالضرورة. فبالإضافة إلى أن الإنسان يتأثر، في العموم، بمتغيرات موضوعية ، إلا أنه، يتأثر ايضا بمتغيرات ذاتية و/أو نفسية مهمة، ومثالها سمات شخصيته، و/أو المكونات الفلسفية والأدائية لنظامه العقيدي، و/أو تجاربه الشخصية السابقة. بيد أن نوعية تأثير كل من الموضوعية والذاتية يتباين من حالة إلى أخرى. فتبعا لتأثير نوعية إدراك الإنسان في تحديد أنماط سلوكه ، قد يضحى الإنسان الموضوعي في أحيان، إنسانا ذاتيا. وبالمقابل قد يتحول الإنسان الذاتي في أحيان أخرى إلى إنسان موضوعي.  

واتساقا مع ما تقدم، تتباين الرؤى في شأن مدى موضوعية أو ذاتية استشراف المستقبلات. فمن ناحية يرى مستقبليون أن الاخذ بالموضوعية يُعد شرطا لازما. إذ بدونها يتعذر الاستقراء الدقيق لتأثير تلك المتغيرات التي تشكل المستقبل، ومن ثم توليد المعرفة العلمية، التي تُساعد على استشراف مشاهده البديلة. ولهذا يتم التأكيد على ضرورة استخدام المقاربات الكمية، هذا لان إجراءاتها التقنية تحول دون أن يكون تأثير المتغيرات الذاتية في مخرجات عملية الاستشراف فاعلا. 

وبالمقابل، تؤكد أراء أخرى أن الموضوعية المطلقة عسيرة التطبيق، وهو الامر الذي ينسحب أيضا على استشراف المستقبلات. فإضافة إلى أن هذه الاستشراف يتأثر بمتغيرات نفسية مؤثرة ذات علاقة بشخصية القائم أو القائمون بها، هي ايضا دراسات معيارية/استهدافية تتخذ من المقاربات الكيفية سبيلا لاستشراف مشاهد المستقبل بأنواعها. 

وإدراكا منهم لتأثير إشكالية الموضوعية /الذاتية في استشراف المستقبلات ، يذهب مستقبليون إلى الاخذ في دراساتهم بحل وسط يتمثل في حصر مشاهد المستقبل بين أقصى ما يتعارض مع تفضيلاتهم، وبين أدنى ما يتوافق واياها. ونحن نرى أن هذا الحل التوفيقي يُعد مجديا أيضا بالنسبة لتوظيف التخطيط الاستراتيجي سبيلا لتطويع المستقبل ، سيما وإن هذا الحل يؤكد الحاجة إلى الاخذ بالموضوعية، ولا ينكر، في الوقت ذاته، تأثير المتغيرات الذاتية والتفضيلات القيمية في مدركات، من ثم في انماط سلوك صانع/ صناع/ القرار. 

ثالثا، توافر قاعدة بيانات ومعلومات رصينة 

على خلاف الماضي والحاضر الذين تتوافر عنهما معرفة يقينيّة كافية تتيح دراستهما بكفاءة، يتفق الرأي على أن المستقبل كزمان لم يحل بعد، يفتقر في حاضر الزمان لمثل هذه المعرفة. ومع ذلك، لم يحل هذا الواقع دون استمرار استشراف مشاهد المستقبل وعلى شتى الصعد. ومما ساعد على ذلك توظيف أليات مهمة: ولعل من بين أبرزها، توظيف مخرجات التطور المتسارع في تكنولوجيا المعلومات.  

لقد أفضت هذه المخرجات إلى أن تتميز العديد من المجتمعات، ولاسيما مجتمعات المعرفة، بسهولة الوصول إلى المعلومات، وتخزينها، ومعالجتها، واسترجاعها. كما أن استخدامها، لأغراض البحث العلمي سواء أكان أساسيا أم تطبيقيا، صار أكثر سهولة. فإضافة إلى أن المعرفة صارت تتضاعف كل 18 شهرا، أضحت الشبكة العالمية للمعلومات (الانترنت) تتيح مجموعة فرص غير مسبوقة لم تؤد إلى جعل القيود المفروضة على تداول المعلومات، في عدد من الدول، لا قيمة لها عمليا، وإنما ايضا إلى أن تتأسس قواعد معلومات متعددة ومتنوعة جعلت فجوة المعلومات أضيق نطاقا الان مما كانت عليه في سابق الزمان. ناهيك عن أن عملية توليد المعرفة صارت اليوم غير مسبوقة في سرعتها. وربما من هنا قال، الفين توفلر، أن توافر المعرفة صارت”… أكثر مصادر السلطة ديمقراطية على الإطلاق (سيما وإنها) …يمكن أن تكون متوفرة للضعفاء والفقراء كذلك. وهذه حقا ميزة ثورية من مزاياها.”  

وعلى الرغم من هذه الإيجابية المهمة، إلا أن تعدد وتنوع المتغيرات التي تفرزها عملية تغيير العالم أضحت تتطلب بناء قاعدة رصينة من المعلومات والبيانات تتميز بخصائص نوعية، والانطلاق منها سبيلا لتحديد مجموعة المتغيرات الاكثر تأثيرا في موضوع الاهتمام، وبضمنه التخطيط الاستراتيجي. ولهذا الغرض تعد أداة اجراء مسح ميداني شامل لحاضر موضوع الاهتمام، فضلا عن اداة تعدين البيانات (Data Mining) ,أبرز الادوات التي يمكن استخدامها لهذا الغرض. وبهذه الاداة يُقصد “… البحث عن تلك المتغيرات ذات العلاقة ببعض، والتي تجمعها خصائص وسمات مشتركة، ويربطها وحدة الموضوع أو التخصص من بين كم كبير جدا من المعلومات التي لا تربطها علاقة أو وحدة موضوعية…” 

وعلى الرغم من الاهمية التي تكتسبها كمية ونوعية المعرفة على صعد الحياة ، إلا أن تفاعلها مع قدر من الخيال يجعل فائدتها أعم وأشمل. ولنتذكر أن العلم والخيال عندما يتفاعلان إيجابا، فأن محصلتهما تفضي، على الارجح، إلى تصور مشاهد المستقبل تصورا ابداعيا ومبتكرا وشاملا. والى ذلك يقول المستقبلي الامريكي بيتر بيشوب  :” إن تفاعل العلم والخيال يجعل من هذه المشاهد مختلفة نوعيا عن تلك التي تتأسس على إحداهما فقط “. 

غني عن البيان أن تطويع المستقبل وصناعته هو مطلب لا ينال بالتمني وإنما بالاستعداد المسبق، الذي يعد التخطيط الإستراتيجي أحد أهم اركانه الأساسية. ومن هنا تنبع العلاقة الوطيدة بين التخطيط الإستراتيجي وصناعة المستقبل. وعندنا تُعبر هذه العلاقة عن اتجاهين اساسين : فهي، أولا، قد تكون طردية موجبة، بمعنى أن التخطيط الاستراتيجي عندما يكون أساسه علميا، فأنه يؤدي إلى دعم القدرة على صناعة المستقبل بمدخل مهم مضا ف. بيد أن هذه العلاقة قد تكون، ثانيا، عكسية سالبة، وبدالة أن انتفاء التخطيط الدقيق يفضي إلى أن يصير التفاعل مع معطيات الحياة عشوائيا، وعلى نحو يتماهى مع صيغة غير مجدية، هي الإدارة عبر إطفاء الحرائق. لذا لنجعل من التخطيط الإستراتيجي العلمي، المدعوم برؤية ثاقبة وإرادة صلبة واعية، بمثابة الاساس لأنماط سلوكنا الهادفة .