شاعر وُلِد من رحم المفارقة
كأغلب شعراء قصيدة النثر في مرحلة السبعينات، بدأ الشاعر رياض الصالح الحسين ابن بلدة مارع التابعة لمحافظة حلب (شمال سوريا)، المولود بتاريخ (10 مارس/1954) في درعا (جنوب سوريا)، بكتابة القصيدة الموزونة المُقفّاة، ونُشرت أوّل قصيدة له عام 1976 في مجلة «جيل الثورة»، والتي كانت مجلة دوريّة شهريّة تصدر عن الاتّحاد الوطني لطلبة سوريا، وبعد عام تمامًا تحوّل نهائيًا لكتابة قصيدة النثر.
من خلال قراءة الأسطر التعريفيّة البسيطة السابقة، نلاحظ مباشرةً كميّة المفارقات الهائلة التي حكمت حياته، وكأنّه شاعرٌ وُلِدَ من رحم المفارقة!
فهو ابن الشمال السوري، ووُلِدَ في أقصى جنوبه، وكأنّه ومنذ لحظة ولادته، حَمَل البلاد بأكملها في قلبه وعلى ظهره،

بلادٌ ظهرت لاحقًا بكثافة في قصائده، بلغة مليئة بتناقضات تعكس سلسلة مفارقات حكمت حياته بكلّ ما فيها من قسوة وخيبات، كما تعكس النقيض الذي منحته إيّاه هذه البلاد لكلّ ما تمناه وأراده، الذي تلخّص في ثلاثية: الحبّ، والعدالة، والحرية. ففي قصيدة «سورية» الواردة في مجموعته الثالثة، على سبيل المثال، تعلو لغة التناقض في سلسلة صور شعريّة متتالية، تصوّر سوريا على أنّها جميلة لكن تعيسة، تُطعم أبناءها من خيرها وظلمها، يُقابل أبناؤها خيرها بالخير، وفي الوقت نفسه يقابلون قسوتها بالتمسّك بها، كي لا تضيع ويفقدوها:
«يا سورية الجميلة السعيدة كمدفأة في كانون
يا سورية التعيسة كعظمة بين أسنان كلب
يا سورية القاسية كمشرط في يد جرّاح
نحن أبناؤك الطيبون
الذين أكلْنا من خبزك وزيتونك وسياطك
أبدًا سنقودك إلى الينابيع
أبدًا سنجفّف دمَك بأصابعنا الخضراء
ودموعَك بشفاهنا اليابسة
أبدًا سنشقُّ أمامَك الدروب
ولن نتركَك تضيعين يا سورية
كأغنية في صحراء»
من ناحية ثانية، نجد أنّه ابتدأ رحلته الشعريّة بكتابة القصيدة الموزونة المُقفّاة، لكن لم يرد أيّ منها ضمن أيّة مجموعة شعريّة من مجموعاته الأربع، التي حملت على التوالي العناوين: «خراب الدورة الدموية/1979»، «أساطير يومية/1980»، «بسيط كالماء واضح كالطلقة/1982»، وأخيرًا «وعل في الغابة/1083»، المجموعة التي صدرت بعد رحيله المُبكّر الصادم في 20 نوفمبر/1982.
من ناحية ثالثة، نُشرت قصائده الأولى في مجلة صادرة عن الاتّحاد الوطني لطلبة سوريا، بينما حُرِم من استكمال تعليمه بسبب خطأ طبيّ، رسم له رحلة حياة قلقة غزيرة بطاقة الحبّ، وفقيرة بالحظ. فبعدما درس ثلاثة أشهر من الصف السابع الإعدادي، أُصيب بالتهاب في المجاري البولية، تطوّر ليُصبح قصورًا كلويًّا حادًّا، ما تطلّب إجراء عملٍ جراحيّ، كانت من آثاره الجانبيّة أنّه فقَدَ حاسة السمع، والقدرة الطبيعيّة على النطق، لتتوقّف بذلك رحلته الدراسيّة، وليُتابع حياته بكثير من الحرص على إخفائه، تجنّبًا لظهوره بمظهر هَشّ. لكنّ فطرته الشعريّة وحساسيته العالية، غلبتا السواد الذي خيّم على حياته، بسبب مرضٍ وفقرٍ دفعاه للانطواء عن التعامل إلّا مع قلّة من الأصدقاء المُقرّبين، وخلقا بداخله شيئًا من قلّة الثقة بالنفس، على الرغم من محبّته للدنيا وللناس. هاتان المفردتان المُرهفتان اللَّتان اختار أن يبدأ بهما مجموعته الشعريّة الأولى، فجاء إهداؤها، الذي أراه واحدًا من أجمل الإهداءات الواردة في مقدّمة الكتب الشعريّة، وأبسطها، وأكثرها عمقًا: «إلى الدنيا والناس». ثمّ ابتدأ أوّل سطر من أوّل قصيدة، التي حملت اسم «دخان» بقوله: «كئيبًا ومُنفتحًا كالبحر/ أقف لأحدّثكم عن البحر».
وبذلك قدّم نفسه من خلال عنوان وإهداء وسطر كشاعر، لستَ بحاجة لأن تقرأ له أكثر، لتعرف أو تُقرّر حسب ذائقتك إن كان شاعرًا أم لا. لكنّ بساطته ورهافته الشعريّتين ستدفعانك حتمًا لقراءة المزيد، لشاعر وُصِفَ بأنّه: «آخر وَرَثة القصيدة اليوميّة.. وأوّل مُجدّديها». إذ تنأى قصيدته عن الترف البلاغي، وتنتمي بمفرداتها البسيطة، وتفاصيلها الكثيفة، ولغتها الواقعيّة إلى الحياة اليوميّة، لا كما هي عليه فحسب، بل كما يريد لها أن تكون: حياة يسودها الحبّ والعدالة والحريّة. ما يضعنا أمام مفارقة رابعة، فرياض المُرهف، الذي كان الحبّ هاجسه الأوّل والأخير، لم يحظَ بالحبّ على النحو الذي تمنّاه، ومن ناحية ثانية لم تمنحه الحياة العدالة التي أرادها وتحدّث عنها في قصائده، ابتداءً من مرضه، إلى فقدانه السمع، إلى خسارته مرحلة مهمة من طفولته وهي «المدرسة»، إلى الفقر الذي عانى منه طوال حياته القصيرة، إذ غادر عن عمر ثمانية وعشرين عامًا، قبل أن يذوق طعم الحريّة التي تغنّى بها في قصائده. ولتتجلّى في رحيله المفارقة الأشدّ في حياته، إذ كان الخلل الفادح في حياته العاطفيّة، وحاجته المُلّحة إلى الحبّ، هما السبب المباشر الذي عجّل في تضاعف مرضه وسوء حاله، لتكون النتيجة الموت.
بناءً على مجريات حياته التعيسة، غلب شعور الحزن على عوالمه النفسيّة الداخليّة، الأمر الذي انعكس لغةً على قصائده، فكان الموت من أكثر المفردات الحاضرة في قصائده، لكن ليس بوصفه جلَلًا عظيمًا، بل باعتباره أمرًا اعتياديًّا، وروتينًا يوميًّا يخصّه شخصيًّا، وسط بلدان عربية تُعاني القمع والاستبداد والاحتلال بمختلف أشكاله. لذلك كان بطل قصائده غالبًا عاشقًا أو ثائرًا أو مُحاربًا، ما يجمعهم أنّهم لا يعرفون الهزيمة، وخيارهم الموت أو النصر. ففي قصيدة «غرفة محارب» الواردة في مجموعته الأخيرة، رسم مشاهدًا، ما زالت تصلح حتّى يومنا هذا، لتعكس جزءًا من واقع دموي، شهدته بلدان عربية عديدة (فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن والسودان)، وطال مدنًا بأكملها، وجرّدها من كامل تفاصيلها اليوميّة (البيوت، الأشجار، كرّاسات الأطفال، ألعابهم وأحلامهم،… إلخ):
«يتوسّد خندقه الرملي وحيدًا
ويداه تحيطان برشّاش مملوء بالموت
سيأتي الزوار مساءً
زائرة تحمل للأرض قنابل ضوئيّة
أخرى ستُمشّط بالنار سهولًا تمتدّ
سيأتي الأعداء مساءً، كقطيع ذئاب كاسرة
يلتهمون بيوت الطين، وأشجار التفاح
وكرّاسات الأطفال ورأس الجندي
الجندي الذي يُرتّب غرفته الرملية
الماء هنا.. والطلقات هناك
وها هي صورة نرجسية تبتسم لجندي
يحمل رشّاشًا وخضارًا
الزوار يجيئون.. فأهلًا
يُطلق طلقته الأولى
سيظل يُقاتل حتّى آخر حبّة رمل من هذا الخندق»
ولأنّ لرياض نزعة إنسانيّة عارمة تجاوزت أحوال سوريا البائسة، وتعقّبت مظاهر القهر والاستلاب وتراجع منسوب العدالة في العالم المعاصر ككلّ، فكان من الطبيعي أن تظهر فلسطين المُحتلّة في قصائده. ففي قصيدة «أيّام» الواردة في مجموعته الشعريّة الثالثة، صوّر القضيّة الفلسطينيّة كجزئيّة يوميّة جوهريّة ضمن تفاصيلنا اليوميّة، نشربها صباحًا إلى جانب فنجان القهوة، ونصحبها معنا إلى المدرسة وأماكن العمل، وتبقى مُلازمة لنا في كافة انفعالاتنا النفسيّة، وتكبر معنا ومع وعينا، لتنتقل من فكرة عدالة نؤمن بها، إلى مشروع مقاومة ميداني نخوضه. لذلك سأل رياض والدته في القصيدة عن سلاح جدّه، وفي ذلك رمزيّة عالية إلى أنّ القضيّة الفلسطينيّة تورّث عبر الأجيال. ثُمّ وعدها في نهاية القصيدة، بأنّه سيكون مشروع مقاوم ومحارب على أرض فلسطين:
«ماما…
أما زلتِ تحتفظين ببارودة جدّي القديمة
بين بيت المؤونة وزريبة الحيوانات؟
أما زلتِ تُسرّحين شعرَك بأصابعك النحيلة
وتخبزين لإخوتي فطائر الحكمة؟
* * *
أنا هُنا يا أمّي
أحتسي فلسطين صباحًا مع فنجان القهوة
وأطرد عن جسدها البعوض والأكاذيب
أذهبُ معها إلى المدرسة
ونقرأُ معًا الصُّحف في المقهى
وحينما أكون حزينًا
تجلسُ بجانبي وتعدني بأشجار البرتقال
* * *
ماما…
امسحي دموعَك بمنديل الجبل
ونظّفي بارودة جدّي بخرقة الأيّام
فبعد فترةٍ سأعود إليكِ
وفي حقيبتي زجاجةُ عطرٍ وقليلٌ من الرصاص»
ولأنّ رياض مولود بالفعل من رحم المفارقات، بحث وسط عالم ممتلئ بالمجازر والحروب ورائحة البارود والطغاة والقَتَلة، عن مكانٍ أكثر أمانًا وأكثر هدوءًا، فوجد هذا العالم الشفيف الرهيف في القُبلة، التي كانت أيضًا من ضمن مفردات معجمه البسيط الخاص المُتكرّر في عوالمه الشعريّة، وكأنّ فيها رمزيّةً للاحتجاج السلمي ضد السياسات القمعيّة للسلطة، والاعتقالات الواسعة، والركود الاقتصادي، وسيطرة الرأسماليّة في السبعينيات، إذ يُشير رياض في قصيدته «بعد ثلاثة أيّام» الواردة في مجموعته الشعريّة الثانية، إلى القطب الرأسمالي العالمي المتمثّل برأس الشر أمريكا، التي استفحلت بأطماعها على حساب دم البشر، ويتنقّل بين سطورها بسلسلة من المفارقات، مستخدمًا مفردات تشير لثنائيّتين: الحُبّ والموت، الثورة والقُبلة. وكأنّه يرى بكامل رهافته، أنّ خلاص البشريّة الوحيد من كلّ الشرور، والحروب، والقتل، والرصاص، والموت، يتجسّد في الحُبّ والقُبلة:
«ما الذي سيحدث في هذا الخنجر الواسع
إذا توقَّفت أمريكا عن أكل لحوم البشر
لمدَّة ثلاثة أيّام؟
وما الذي سيحدث، في قلبي الواسع،
إذا لم أحبّك
بعد ثلاثة أيّام؟
* * *
منذ القبلة الأولى على رقبتك الطويلة،
وحتَّى الحرب العالميَّة الثالثة التي لم تأتِ بعد،
كنت أوزِّع الحبّ على النازحين،
وهم يوزِّعون بطاقات الإعاشة!
كنت أوزِّع الحبّ على السجناء،
وهم يوزِّعون الصدمات الكهربائيَّة!
كنت أوزِّع المصانع في الصحاري،
وهم يرصدون سجنًا لكلّ مصنع!
منذ انبثاق النار من احتكاك حجرين
وحتَّى اختراع القنابل العنقوديَّة،
كنت أوزِّع الحبّ في القلوب
كما يوزِّعون الرصاص!»
المرجع: رياض الصالح الحسين – الأعمال الكاملة