قراءة في ديوان مسيرة الشموع للشاعرة التونسية آمنة الوزير
“الشعر يسفر عن أحسن ما فينا”، و”الكتابة هي أن تقبل بأن تكون حيث يكمن الخطر، في عين الإعصار.”
هكذا تقدّم الشاعرة آمنة الوزير فعل الكتابة بوصفه انكشافًا داخليًا ووجودًا في منطقة الخطر، حيث لا مفرّ من مواجهة الذات. ولعلّ الصمت في بعض اللحظات يصبح أبلغ تعبير عن هذا الشعر الذي يُعلن عن نفسه في حضرة اللغة، وفي حضرة الكتابة.
تشاركنا الشاعرة التونسية آمنة الوزير تجربة شعرية تنطلق من عمق الحياة، حيث تتقاطع العزلة التي تتفرغ فيها الذات للحزن مع انكشاف الذاكرة في لحظة الكتابة. في ديوانها “مسيرة الشموع”، الصادر عن دار POP Libris التونسية 2025 يجد اقارئ نفسه أمام نصوص تأخذ شكل الاعترافات واليوميات، وتمثّل مسيرة شعرية ووجدانية من الماضي إلى

الحاضر، في فضاءين يتقاطع فيهما الزمان والمكان.
تبدو الذاكرة هنا أداة تصوير عميقة للحزن والوحدة اللذين يتجسدا من خلال رمزين شديدي الدلالة: البيت المهجور والكرسي الفارغ، مقارنة بالواقع الحاضر المليء بالغياب الذي بات يحاصره، حيث يصبح من الصعب المقارنة بين حياتين منفصلتين بزمنين، بل متنازعتين على الوجود في حدّ ذاته.
إلا أن الشعر، بالنسبة إلى آمنة الوزير، لا يُختزل في الحزن والتعبير عن المشاعر من خلال البوح والاعتراف فقط، بل هو وحيٌ داخلي يمنح الطمأنينة للشاعر، ليخلق من أعماق الطبقة السفلى الحزينة جمالية عليا، هي الشعر نفسه. فالذات الشاعرة، وهي تتشظّى في التعبير عن الألم، تنقل هذا الألم من حقيقته الفيزيائية إلى دلالة مجازية، كما في استخدام المطر والماء ورموز أخرى في الديوان.
فالمطر دلالة الحياة والذي يظهر في بداية المجموعة كرمزٍ للحزن، يتحول تدريجيًا إلى خطر وخوف بل إلى وسيلة غرق وامحاء لتعود الحياة بعد ذلك، بما يوحي أن الشعر ليس إلا كشفًا متدرّجًا ومتعمّقًا في الذات.
في هذا السياق، يعيش الشاعر في عين العاصفة، حيث تتلاشى الحدود بين الممكن والمستحيل. وهنا تفقد الشاعرة أملها بولادة حياة جديدة، بل عمرٍ قصير كعمر الفراشات، عمر مؤقت يولد من رماد الذاكرة. تنبع من هذا التحوّل أسئلة وجودية متكررة حول جدوى الكتابة وضرورتها، وتظهر عبر مستويات متعددة من البوح والاعترافات، وتتداخل مع ثيمات: الموت، جدوى الحياة، الإعلان بوساطة الدهشة.
تتخذ الشاعرة آمنة الوزير في مسيرة الشموع، مسيرة المراة التي تعيش في منطقة الاحتمال، امرأة فقدت ابتسامتها بسبب ما تراه من معاناة الإنسان في الحرب واللجوء والموت، تشعر في ذاتها بصراعٍ داخليّ مرير، تطارد الأمل في العبور نحو حياة أكثر حرية وفرحًا، في زمنٍ بات يحاصرها.
في قصيدة “على قيد وهم” تكتب:
“سحب غاضبة/ تهدد أحلامنا/ نحن على قيد وهم/ تنازلنا عن الحياة/ منذ أمد.”
في هذه الأسطر، تنقل الشاعرة القارئ من عالم الواقع إلى عالم الوهم، حيث تُكشف لحظة التوهّم بالواقع، الواقع الذي بدا حقيقيًّا قبل أن تنكشف حقيقته.
إنها رحلة نحو الخذلان العميق، ربما في لحظة منتظرة، أو في وجودٍ ظنّته شبيهًا بالحقيقة.

لكن الحقيقة، تظل موجودة في عرف الأطفال فقط. الأطفال لا يكذبون، يرون الحقيقة بصفائها قبل أن يكبروا، ويصبح وجودها مهددًا بالنسبة إليهم. هكذا تنتقل الشاعرة من الحياة الواقعية إلى الوهم الكاذب، الذي صوّر الحياة جميلة، قبل أن يُغيب الأمل، ويحضر الموت الرمزي، موت الكينونة في حد ذاتها ذاتها.
في قصيدة “مسيرة الشموع”:
“هنا/ نغرق كل يوم ألف مرة/ ونبحث عن خشبة نعبر بها إلى أرض السلام/ ينزل المطر غزيرًا/ على مدينتنا/ مدينة الحزن/ هنا نغرق، حين تمطر السماء (…)
نمشي في جنازاتنا/ ونعيش في عين العاصفة/ ألغيت فصولنا/ وكأننا ولدنا/ ولم نولد./ تاهت الشمس/ في طريقها إلينا.”
هنا يتجلّى الشعر كملاذٍ نهائي، كـخشبة نجاة أخيرة. لا سبيل للعيش سوى عبر الكتابة، التي تفصل بين الموت والحياة. الكتابة تحضر هنا كفعل إنقاذ، كمنطقة أمان فقدت فيها الشاعرة كل شيء، ما عدا هذا الفضاء الحميم.
يتحول المطر إلى رمز متناقض: وما يُفترض أنه ماء الحياة، يصبح نذير شؤم، يرمز للحزن والغرق في المعاناة.
في وسط هذا الدمار اليومي، يتوقف الزمن، وتطول المعاناة، ويصبح وجود الإنسان نفسه مهددًا، يبحث عن شظايا من ذاته ليكمل إنسانيته، بعد أن خسر فصولًا من الحب والشمس والدفء. لكن السؤال يظل مطروحًا: لماذا نكتب؟ وما جدوى الكتابة؟
في نص “فرار”، تكتب آمنة الوزير:
“تركت خيمتي/ على هذا الشاطئ/ قصائد لم تكتب/ أحلامي المنسية/ شيئًا من ذاتي (…)
تركت خيمتي/ على كتيب الرمل/ وآويت فيها ذاكرتي.”
وفي قصيدة “ميناء”تضيف:
“يبقى القارب وحيدًا/ لا يأبه للريح/ ولا يردّ على عويلها./ أحيانًا يحزن المطر/ فيبكي/ وكلّ صباح/ يفكر في الرحيل/ أو في الغرق.”
بهذه الصور، تكتب الشاعرة وسط طبقتين من الواقع والخيال، بنبرة حزينة منخفضة، تتماهى مع الحزن المقترن بالمراحل العمرية والفضاءات التي تعبرها عبر الذاكرة. ثم تأتي اللغة في الديوان كـمظلة شعورية، تُعبر بأمانة عن تجربة داخلية مركّبة، وتغدو الكتابة نفسها خلاصًا من الألم.