الروائي والشاعر عبدالحليم حمود لـ”الحصاد”:
من الأحاديث الجذابة بالنسبة لنا نحن الصحافيين هي تلك التي تكون مع كتّاب وأدباء ومبدعين يفكرون خارج الصندوق ويحملون على عاتقهم رسالة إنسانيّة وجوديّة توسّع مدارك التفكير وتتجاوز حدود الحرية. ومن هذه الأحاديث كان حديثنا مع الروائي والكاتب والصحافي عبدالحليم حمود حيث جمعتني به الفرصة للتعرّف على طريقته الأدبيّة وسلاسة

نصوصه الشعريّة عن قرب، إذ يعدّ من الأصوات الأدبية والفنية المميزة في المشهد الثقافي العربي المعاصر، فجمع بين الكتابة الإبداعيّة في مجالات الرواية والشعر من جهة، وبين الفنّ التشكيلي من جهة أخرى، ليصوغ عالماً متكاملاً يلتقي فيه النصّ مع اللوحة، والفكرة مع الصورة. يتميّز مشروعه الإبداعيّ بتوغّله العميق في عوالم النفس البشريّة، حيث يفتش في خبايا الوعي واللاوعي، ويستحضر الأسئلة الوجودية الكبرى عبر نصوص تتكئ على الفلسفة وعلم النفس.
في كتاباته، لا يكتفي حمود بسرد الحكايات أو رسم المشاهد، بل يسعى لتفكيك التجربة الإنسانية في أبعادها المعقدة: الحب، الوحدة، الصراع الداخليّ، والرغبة في الخلاص. نصوص رواياته تحمل بعداً تأملياً يقترب من الفلسفة الوجودية بينما يظلّ الشعر عنده مساحة للبوح الرمزيّ والدهشة.
إن تجربة الروائي عبدالحليم تمثل محاولة جريئة لإعادة تعريف دور الكاتب والفنان في زمن سريع التحوّلات فهو لا يبحث عن المتعة الجماليّة للنصّ أو العمل الفني بل يضع المتلقي في مواجهة ذاته وأسئلته الداخلية ليصبح الفنّ عنده مرآة للذات ونافذة على المجهول.
-
“الحصاد”: الانخراط في كافّة أشكال الأدب واللغة من الأمور الجذابة والصعبة في آنٍ. كيف بدأ هذا الانخراط؟
– الإنخراط لم يبدأ كقرار واعٍ، بل كتيّار داخلي يشبه قوة غامضة تحرك الجسد من الداخل. الجينات والتربية والأسئلة الأولى في الطفولة كانت كلّها مسارب تُعيد تشكيل وعيي، كأنها برمجة لم أخترها. لذلك، أن أكون رساماً وكاتباً وإعلامياً في آن واحد لم يكن خيارًا بل قدر يتشظّى عبر قنوات مختلفة.
كلّ لوحة أو نصّ هي انفجار لطاقة نارية كامنة، محاولة لفتح ممرات للبركان الداخليّ كي يتسرّب. الانخراط هنا ليس ممارسة بل مراقبة للذات وهي تتحوّل، تجربة في تفكيكها وإعادة تركيبها عبر اللغة والصورة والصوت.
-
“الحصاد”: يقال إن النصوص هي انعكاسات كاتبها، كم توافق ذلك؟ وهل نصوصك تعكس هويتك وشخصيتك؟
– النصّ لا يعكس الكاتب كمرآة، بل يعيد إنتاجه كآلة. داخلي ماكينة تنتج بلا توقف، ولكن هذه الماكينة تفرز صورًا لا أعرفها عن نفسي إلا حين أقرأها بعد أن أكتبها.
النصوص تقدّمني في صورة أكثر ترتيبًا وصقلًا مما أكونه في حياتي اليومية. أحيانًا أشعر أنني أتعرف إلى نفسي للمرة الأولى داخل النص.
لذلك أقول: نصوصي لا تعكسني بقدر ما تصنعني، هي التي تعيد هندسة هويتي، وتحوّل الفوضى إلى جسد قابل للقراءة.
-
“الحصاد”: على ماذا تعتمد في رواياتك، على عمق الفكرة أم الإيقاع المتوازن للحبكة أم الأسلوب الجذاب، أو أنك تمزج بين العناصر الأدبية؟
– الرواية كيان مركّب لا يستقيم بعنصر واحد. الفكرة، الحبكة، الإيقاع، الأسلوب، جميعها تعمل معًا، لكن ما يمنح رواياتي خصوصيتها هو بعدها الفلسفي.
أكتب الرواية كمن يفتح حوارًا عدائيًا مع القارئ، أجعله شريكًا مضطرًا في التجربة. أستفزّه كي يواجه ما يتجنّب التفكير

فيه، كأنني أرش الملح على جرح قديم. الرواية عندي ليست حكاية بل مسرح مواجهة، نص يطالب القارئ بأن يُعيد التفكير في ذاته وهو يقرأ.
-
“الحصاد”: مَن يقرأ رواياتك يعود إلى عمقه الإنسانيّ حيث يطرح تساؤلات عن قضايا الوجود، الإيمان، الخير والشر وتصلح هذه الروايات لكافة الأزمان، كيف ترى هذا التوصيف؟
– لكلّ رواية قارئها. محفوظ ربط السرد بالمكان والزمان، موراكامي تجاوزهما بالغرائبيّة، آخرون جعلوا الرواية وثيقة حرب أو سيرة. أما أنا فأبني رواياتي كحقول فلسفية وسيكولوجية، حيث يدخل البوهيمي ليواجه الحياة بصفته نصف سكير ونصف فيلسوف. الشخصيّات عندي، مثل يوري أو أسمر أو هيلدا، لا تتعامل مع الوجود بجدّية مطلقة بل كرقصة عبثية.
هذا ما يجعل النص صالحًا لأي زمن: لأنه يشتبك مع البنية العميقة للإنسان، لا مع ظرفه الخارجيّ فقط.
-
“الحصاد”: بالانتقال للشعر، كيف توازن بين لغة الشعر المكثّفة والسرد الروائيّ الممتدّ؟
– كل جملة نثريّة تحمل في داخلها أثرًا شعريًا. الشعرية ليست زينة بل كثافة تجعل العبارة قابلة للاحتراق. الرواية تحتاج إلى الامتداد الزمنيّ لبناء العوالم، بينما الشعر يحتاج لحظة واحدة ليختصر العالم في صورة. أحيانًا أكتب فقرة كاملة كأنها مشهد سينمائي، ثم تنبثق جملة شعريّة صغيرة تحوّلها إلى رمز. التوازن هنا ليس تقنية بل لعبة بين الزمن المكثف والزمن الممتدّ، بين الانفجار اللحظيّ والتدفق السرديّ.
-
“الحصاد”: ما السبب وراء كتابتك، هل للتعبير والتغيير أم لترك الأثر؟ وكم برأيك اليوم وإلى أي مدى الكاتب قادر على ترك الأثر؟
– أكتب لأن الكتابة هي وسيلتي لترجمة الفكر إلى جسد والداخل إلى لغة. لست معنيًا بالخلود أو الأثر، فذلك وهم زرعته الجينات كي نواصل التكاثر والإنتاج. الكاتب خادم لهذا الوهم أكثر مما هو سيّد أثره. ما يبقى ليس قرار الكاتب بل ما تقرّره النصوص أن تعيد إنتاجه في الآخرين. لذلك لا أسعى إلى أثر، بل إلى كتابة لا أستطيع أن أعيش من دونها. الأثر إن حدث فهو عرض جانبيّ، لا الهدف.
-
“الحصاد”: الرواية أو القصيدة التي تراها الأقرب إلى قلبك؟
– “أسمر” الأقرب إلى قلبي لأنها تنبض بوجداني، “وهم الأنا” الأقرب إلى عقلي لأنها تُجسّد شغفي الفلسفي، و”يوري إله السمكة السوداء” هي صوتي الأول، بياني الداخلي، النص الذي شعرت أنه ولادتي الأدبية الحقيقية.
-
“الحصاد”: إذا طلبت منك أن تلخص روايتك الأخيرة بجملة شعريّة، ماذا تقول؟
– “حكاية الخلق” ألخصها بجملة شعرية واحدة: “آن لنا أن نسمع الحكايات على لسان من قُدِّموا كأشرار.”
هي دعوة لإعادة توزيع الأدوار، لأن التاريخ لم يُكتب يومًا بلسان المهزومين.
-
“الحصاد”: لو لم تكن ما أنت عليه اليوم، كاتباً وناقداً وشاعراً، ماذا كنت لتكون؟
– ربما كل شيء في آن. فكرة التشرّد تحت الجسور تطاردني كظل يونغي، كصوت داخلي يذكّرني أنني اخترت أن أكون ما أنا عليه الآن. المتشرّد جسد بلا أقنعة اجتماعيّة، ذات عارية عادت إلى حالتها البدائيّة، إلى العراء حيث الحرية المطلقة والخطاب المتفجر. في داخلي رغبة أن أكون جسدًا يحتجّ بصمته، ينطق بوجوده كعلامة اعتراض على ماكينة العالم التي تطالب بالإنجاز والإنتاج.
حين أتخيّل نفسي أجوب الأرصفة أبحث عن عودة إلى فضاء أولي، حيث الأرصفة تتحوّل إلى صفحات والواجهات إلى

نصوص صامتة تكتبها المدينة بخرابها وإعلاناتها وألوانها المتقشّرة. الأسواق برائحتها الفوّاحة من البهارات والهال مسرح للذاكرة الحسية: رائحة تعيدني إلى طبقات اللاوعي، إلى طفولة دفينة، إلى حنين غامض للانغماس في الحشد البشريّ حيث الأنا تذوب.
هذا أدب جسديّ يُكتب بالحركة والخطوات، على جدران المدينة وأرصفتها. التشرّد احتمال آخر للحرية: حرية تنبع من وضع الجسد كعلامة عابرة في مسرح الحياة. في منطق يونغ، هو مواجهة مباشرة مع “الظل”، ذلك الجزء المكبوت الذي يختبئ في حياتنا اليومية ويظل أكثر صدقًا. المتشرّد كاتب بلا نصوص، شاعر بلا ورق، حضور جسديّ يتحرّك وسط الناس ككلمة حيّة نابضة.
-
“الحصاد”: في الفنّ التشكيلي، كيف تستلهم أفكار لوحاتك؟
– اللوحة تبدأ بالفوضى، بالفعل الخام الذي يتجاوز كل تخطيط مسبق. أقف أمام القماشة وأعطّل وعيي، وأترك الباب مفتوحًا أمام الطفل القديم الكامن في داخلي. ذلك الطفل يخرج من عمق اللاوعي، من ذاكرة الروائح والألوان الأولى، ويعبث بالخطوط كأنه يرسم العالم من جديد. في كل ضربة فرشاة يهمس: الحياة لعبة، لعبة تفيض بالعبث، لعبة تكشف أن الجدّية مجرد قناع هش.
الرسم يتحوّل إلى لحظة تحرّر، حيث الجسد يشارك الروح في الرقص فوق السطح الأبيض. اللوحة ليست مشروعًا بصريًا محدّد الأهداف، إنما هي استدعاء للطاقة الطفوليّة التي تبقى متخفّية فينا، والتي تبحث عن فرصة لتعيدنا إلى البراءة الأولى. البراءة هنا ليست نقيض الخبرة، بل قوتها العميقة التي تظل حيّة تحت الركام.
كل لوحة أُنجزها هي مواجهة مع “الظل” الذي وصفه يونغ: ذلك الجزء المنفيّ في أعماقنا، الذي يطلب أن يظهر بلغة الألوان. الفوضى على القماش ليست عبثًا، بل انبثاق من لاوعي يختزن تاريخًا شخصيًا وجمعيًا معًا. في كل لوحة أشعر أنني أعود إلى نقطة البدء، حيث العالم يولد من جديد بضربة فرشاة، وحيث الفن يتحوّل إلى طقس بدائي، ممارسة شبيهة بالعودة إلى الرحم الأول للأشياء.
-
“الحصاد”: أخيراً، هل من أعمال مستقبليّة؟
نعم، روايتي المقبلة بعنوان “رحم أزرق”.