أقفل القرن العشرون الأبواب خلفه، على مئة وسبع حروب في العالم حصلت بعظمها بين مجموعات إثنية ودينية. كان الغريب حضور المسلمين فيها عبر أدوار وصراعات وقتال فيما بينهم ومع غيرهم من البوسنة والشيشان وكوسوفو ومقدونيا وأذربيجان وطاجكستان وكشمير والهند والفيليبين وإندونيسيا وفلسطين ولبنان والسودان ونيجيريا وغيرها. استقبل العالم الألفية الثالثة وكان العالم مشغولاً ب 32 نزاعاً مسلّحاً يُظهرون المسلمين في 23 منها بأدوار ملحوظة ومشغولة جيّداً.
ولّد ويولّد هذا الحضور في الحروب قلقاً معقّداً عند العرب جعلهم يفترقون عن الشعوب الأخرى عند لصقهم بالإرهاب. بقي السؤال: ما خلفيات هذا العنف كلّه ودوافعه وأشكاله ونتائجه الدينية المصنوعة، وخصوصاً ما تتابعه البشرية في غزّة التي فقأت إسرائيل عين الدنيا بفظائعها في الإعلام، لكأنّنا في العصر الحجري يستبدلون الحجر بالقذيفة.
يسوقنا التفكير، نحو ما يتردّد في التفريق بين الدين والتديّن، انطلاقا من لجوء الشعوب حيال الأزمات والتحدّيات المستوردة، الى التديّن العفوي فتختلط مسائل الدين بالدنيا توفيراً للحماية الاجتماعية أعني التجذّر في الطوائف والمذاهب. تصبح الأديان ذي النبعٍ الإلهي الواحد خلاصاً للإنسان من أسئلة الفلسفة منذ الهند واليونان إذ صار بالإمكان إيجاد الأجوبة على الأسئلة الكبرى الشديدة التعقيد في الدين والدنيا عندما يعجز العقل في الإجابات فيحيلها إلى الخالق. وتورث المفارقات بين الأديان التوحيدية أسئلة صعبة ترتبط برؤية الناس لهذا الدين أو ذاك، أو بمدى حريّة البشر في ما يرون ويعتقدون. هكذا يبلغ الشطط مداه بين حضارتي السماء والإنسان ليبقى الدين للخالق والتديّن ولرجال الدين والفكر والفلاسفة وحتى الملحدين.
كثيرة هي الهزائم والجروح المتراكمة لدى العرب تجاه أنظمتهم وتجاه الترويج لنسخ من الحكم الإسلامي المتعدّد الذي احتلّ عقل الغرب وشغله من عصرٍ لآخر، كما تجاه الغرب وأميركا تحديداً في ثقافات التحقير المعاصرة لحضارتهم وبرامجها عبر استغلالهم أو سحب ثرواتهم وكنوزهم وربطهم بالحروب المعاصرة من حولهم بما جعلهم يسقطون وقوداً قبل التفكير بإسقاط الإتحاد السوفياتي ومنظومة الإلحاد، الأمر الذي أسّس للتفكير بمحاربة الأديان عبر تفجير النزاعات الداخلية وتعميقها.
اصطفت للعرب الأرض والسماء، لكنّ الجشع الدولي كان يفضي الى مدّ الأيدي الى أنظمتهم ومجتمعاتهم. تستمرّ هذه السياسات الغريبة والمحيّرة عبر استراتيجيات الدول الكبرى التي لم تشبع من تحيزها التاريخي ل “إسرائيل”. برز معظم العالم العربي والإسلامي جاهزاً لفصول الحوار الدموية خصوصاً بعدما انفجرت مشاعر الإحباط المعلنة والمكتومة أحياناً كثيرة إذ قويت حدود الكراهية والاستعداء وحتى العداء لأميركا والغرب. لا يمكننا إذن، الخروج من السياسات والعزف على دفن صراعات الحضارات الكلامية والقول بحوارات السلام بين الدول الكبرى في زمن نغرق فيه في مشاهد الدم، وهنا يتقدّس هنا السؤال باعتبار أنّ السؤال هو الحياة لكن الجواب يعني لنا الموت:
كيف بدت بل كيف تبدو صورة الولايات المتحدة الأميركية اليوم عبر مشاهد غزّة ولبنان؟ ولماذا يطمحون إليها مسكونين برفض سياساتها؟
1- لأنها ارتاحت أولاً من الخط أو الخطر الأحمر الشيوعي ساعدها في ذلك المسلمون. سيبقى الغاز والبترول ماء العولمة وكلأ شعوبها المتناثرة في العالم الذي يضبط خطى أميركا وأحلامها وسياساتها وشفاه رؤسائها وأكثرهم متابعةً اليوم للرئيس دونالد ترامب في ولايته الثانية حيال غزة وفلسطين بحثاً عن الصورة الجديدة للعالم الجديد. كان يعني سقوط الاشتراكية لها إزالة العدو المشترك للغرب والمسلمين وترك كلاًّ منهما ليصبح الخطر المتصور أو المضمر للآخر. وللتذكير فقط: أسّس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في العام 1988 كمكتب خدمات كان يعنى بتجنيد المقاتلين وتدريبهم ودفعهم الى القتال ضدّ السوفيات في أفغانستان. تمّ تمويّل القاعدة جزئياً من قبل الولايات المتّحدة وبعض الدول الإسلاميّة. وكانت النتيجة رسم اشارة الدفن فوق قبر “هيجل” الجدلي مع كل ما رشح عنه من ثورات متنقّلة يستمرّ وقعها الدامي في التاريخ المعاصر. وعاد الصليب الأرثوذكسي يمسح معظم ما أنجزته الماركسية، مُثبتاً ما سبق وتفوّه به لينين، بعد عودته من منفاه بأن” أياماً لا عقوداً تصنع التاريخ البشري”. هكذا راح ارتياح موسكو الشكلي يخفي حاضرها الروسي الجديد قلقاً عارماً حيال المستقبل، فحجم الولايات المتحدة في الشرق يفوق المتغيرات التي حصلت في أفغانستان والعراق والدول المسكونة بالهلع والديمقراطيات المستوردة غير الواضحة، بما أذبل ويُذبل زهور الوحدة السياسية الأوروبية في القارة الموصومة أميركياً بشيخوختها وبالصوت الأميركي العالي، ولو أنّها سبق لها وأنجزت وحدتها الاقتصادية بشكل غير مكتمل أو الدائم التهديد بالانفراط.
2- تعتمد أميركا سياسة المهادنة مع الخط الأصفر الصيني، وتشحن الغرب بالانتباه للصين التي بقيت مسيطرة في آسيا ألفي سنة لتظهر وكأنّها الدولة القادمة عالمياً. صحيح أن العولمة تعني الأمركة والدول تحلم بتعليم أجيالها الإنكليزية ويصنعون مستقبلهم في الأسواق العالميّة، لكنّ العديد من الأميركيين ينجذبون اليوم نحو تعلم اللغة الصينية لملاقاة التنين الأصفر. لن يمطّ الزمن صبره الذي فيه سنجد تلك اللغة القادمة تحتل المساحات الأوسع على الشاشات والسياسات والصناعات والتقنيات تحديداً حيث التحدّيات الدولية وأعباء المستقبل.
3- كان يمكن اعتبار الصين قلعة الأقصى من الشرق تغري الغرب المعاصر اللاهث ” نحو عشّ الشمس” في الشرق كما يسميه طلابنا في جامعات الغرب بحثاً عن الحقائق وإيقاظاً لطاقاتهم الداخلية عبر فلسفات “اليوغا” والمعالجات النفسية تبهر الغرب بحثاً عن البرء من الضمور والأمراض وعنف الحضارات الصناعية ورعبهم من الأمراض البيئية والسيدا والسارس وجنون البقر وأنفلونزا الطيور والكورونا وغيرها. تزاحم الصين أخيراً دول العالم بصمت وتُغرق الأسواق، وتخلق الدهشة العالميّة في الوقت الذي تبقى تتماهى بأميركا التي سبق لها وأن تماهت ببريطانيا العظمى البلاد التي تجعلني أبحث عن الإمبراطورية الجديدة التي لن تغرب عنها الشمس.