مونودراما ساخرة تنفس عن أوجاع الطفولة وفجائع لبنان
يقف الفنان والمخرج السينمائي اللبناني الفرنسي فيليب عرقتنجي على المسرح لأول مرة في العرض المسرحي المونودرامي “صار وقت الحكي”، الذي ألفه وأخرجته المخرجة اللبنانية لينا أبيض، ويروي فيه أجزاء من سيرة حياته التي طبعتها ندوب الحرب الأهلية اللبنانية وسنوات البحث عن الذات بين لغتين وثقافتين في لبنان وفرنسا، حيث يستعرض في قالب من السخرية قصته مع اللغة التي فقدها، واللغة التي اخترعها، حيث كانت طفولته معلقة بين لغتين: الفرنسية لغة والدته، والعربية لغة المربية “سعدى”.
وبقدر ما يستحضر عرقتنجي في هذا العمل المسرحي، الذي عرض حديثا في اللقاء المسرحي العربي الخامس بمدينة هانوفر الألمانية، المنظم من طرف مركز الثقافة والتواصل “البافليون” والمركز الثقافي لمدينة هانوفر من 9 إلى 13 أبريل/ نيسان الماضي تحت شعار “ماغما/ Magma “، آلامه وآماله الشخصية، ويسرد رحلته مع اكتشاف الذات عبر الفن: من البيانو الذي فشل في تعلمه، إلى أول كاميرا تلقاها هدية من والده، إلى فن التصوير الفوتوغرافي والسعي إلى

التقاط الزمن الهارب، ثم إلى الصحافة المصورة التي حملته مسؤولية الشهادة على عنف الموت في زمن الحرب وابتكار سينماه الخاصة، يستحضر أيضا أسئلة الهوية والثقافة بلبنان، والحرب الأهلية وآثارها النفسية الوخيمة عليه وعلى أبناء جيله، وفقد الأب يوم عرض فيلم “بوسطة” أول عمل سينمائي له، لتكون المسرحية بذلك بمثابة تنفيس له عن أوجاع الطفولة ولبنان التي رافقته أينما حل وارتحل.
ذكريات الطفولة
وفي تناغم كبير بين السرد ومقاطع الفيديو والصور والتسجيلات والأغاني والأصوات، استطاع فيليب عرقتنجي بأدائه الرائع واعتماده على الرقص والغناء، ولينا أبيض برؤيتها الإخراجية المستنبطة من النص القوي والغني بالدلالات، تقديم تجربة مسرحية فردية، ورسم عالم مسرحي تتناغم فيه مقاطع الفيديو والصور والأغاني والأصوات والتسجيلات، في سينوغرافيا وظيفية تضم أغراض حميمية وديكور مكون من صناديق وملفات وأثاث منزلي، من أجل تقديم قصة الفنان فيليب عرقتنجي، الذي سمح لنفسه بمشاركتها مع الجمهور الواسع، وجعلها قصة كل واحد، حيث يقول: “لأن قصتي هي قصتك، سمحت لنفسي بمشاركتها”، كما قام بتحويل الذاكرة والحنين والخسارة والفشل إلى صور تحاكي المشترك الإنساني وتدعو إلى التأمل في الذات والعالم.
وعلى مدى 75 دقيقة، يستعرض فيليب عرقتنجي في مسرحيته “صار وقت الحكي” بلغة فرنسية مطعمة بالعامية اللبنانية، ذكريات الطفولة الصعبة وجوانب حساسة من طفولته، وعلاقته بمربيته “سعدى” وفقده النطق عند مغادرتها لبيت والديه، والتي سيتضح بعد توالي الحكي أنها عادت بعد ولادتها لطفل ناتج عن تعرضها للاغتصاب في قريتها من طرف عمها. ولكنها ستغادر من جديد وسيظل الصبي فيليب متعلقا بذكراها ورائحتها وصوتها الذي لقنه العربية، هو

الذي نشأ في محيط فرانكفوني، وخضع لتربية يسوعية صارمة، ستتأرجح طفولته بين لغتين وثقافتين: الفرنسية والعربية، وبين استخدام يديه اليمنى واليسرى، وبين صعوبته المبكرة في القراءة والكتابة، وبين هوايتين: العزف على البيانو الآلة التي فرضت عليه، والتصوير بالكاميرا التي تستهويه، والتي سيجعل منها مهنته فيما بعد بدراسته للإخراج السينمائي والاهتمام بالسينما التوثيقية، وتسجيل آلام الناس وأوجاعهم وأحلامهم بوطن يسع الجميع وينعمون فيه بالسلم والسلام.
فقد الأب وأول نجاح سينمائي
ولعل أقوى مشاهد هذه المسرحية المونودرامية الموزعة على سبعة معابر، والتي تسرد قصصا جريئة ومؤثرة حول التعددية اللغوية والهوية والطائفية، هو المعبر السادس الذي يقف فيه الممثل فيليب عرقتنجي على اختياره للفن السابع وتحديدا السينما الوثائقية، ويتحدث فيه بحرقة كبيرة عن أول عمل سينمائي له من إنتاجه وإخراجه عام 2005، وهو الفيلم الكوميدي الموسيقي “بوسطة”، الذي كتبه منذ 27 سنة ولم يستطع إنتاجه إلا وهو في سن الأربعين، بسبب غياب أموال الدعم للفن فيما أموال الحرب متوفرة وبشكل غير معقول. ويتناول الفيلم قصة فنانين لبنانيين شباب يلتقون بعد أحداث الحرب الأهلية اللبنانية العنيفة، يبحثون عن موسيقاهم الخاصة، حيث يهتدون إلى تطوير رقصة الدبكة، ويؤدون نسخة فنية حديثة منها تصدم المحافظين، ولكنهم ينجحون في تحقيق النجاح والتجول بها في مدن مختلفة في لبنان في حافلة قديمة.
لكن عرض هذا العمل السينمائي سيتزامن ووفاة والده، حيث كان المخرج الابن يتمنى لو أمهل القدر والده ليشاهد نجاحه، ويبوح له بأن كل ما قام ويقوم به هو فقط لكي يثبت له أنه، رغم إعاقاته المدرسية وعدم مواصلته دروس البيانو كما كان يريد له أن يفعل، قد نجح كمخرج سينمائي رغم كل العراقيل والمثبطات. كما أن المشهد أو المعبر السابع الختامي لا يقل أهمية عن سابقه، حيث يكشف فيليب عرقتنجي، الذي كان يسير في أحد الغابات، في اتصال هاتفي مصور مع المخرجة لينا أبيض، عن حقائق مؤلمة وأشياء تخنقه، مثل حكاية ذلك المقاتل الشرس الذي لم تسلم حتى الحيوانات من بطشه، حيث مازالت نظرة تلك البقرة التي وضع المسدس بين عينيها عالقة في ذهنه، لا لشيء إلا لأنها من طائفة الأعداء. وهو ما لم يستطع فيليب التخلص منه إلا بعد الكتابة عن هذه الحادثة المفجعة ودفنها أسفل جذع شجرة، كما أوصاه صديقه.
السخرية أداة مقاومة
ولأن الموضوع حميمي ويتعلق بأجزاء من حياة الفنان والمخرج السينمائي فيليب عرقتنجي، فقد استوحت المخرجة لينا أبيض سينوغرافيا العرض والرؤية الإخراجية له، كما صرحت لمجلة “الحصاد”، من لقاءات تواصلية مطولة عن بعد جمعتها بالكاتب في وقت كورونا، وقالت: “اشتغلنا على النص معا طويلا وطورناه، على مستوى السينوغرافيا، وبما أن العمل كان من البيت في كورونا، ففي كل مرة كان فيليب يخرج شيئا من الأثاث أو الديكور ويتحدث عنه ويسرد ذكرياته معه، كانت السينوغرافيا تتأسس، وهكذا جاء فضاء البيت عفويا انطلاقا من النص”.
وأضافت المخرجة لينا الأبيض أن النص القوي لفيليب عرقتنجي، الذي يغوص في سراديب الذاكرة، ويكشف عن الكثير من الأوجاع الذاتية والجمعية والهم المشترك الذي عانى منه العديد من اللبنانيين ومازالوا ومن ضمنهم المخرجة، جعلها تحرص على أن “يكون العرض واقعيا ودقيقا، وهو ما تطلب منا سنتين من الاشتغال، وستة أشهر من العمل المتواصل ليظهر العمل المسرحي بالصورة التي قدم بها في هانوفر بألمانيا وقبلها في لبنان وتونس في مهرجان “أيام قرطاج المسرحية”، وفي باريس في عروض متتالية بالنسخة الفرنسية لهذه المسرحية التي حملت عنوان “Parlons, il est temps” قبل أن ينتقل إلى كندا”.
وعن اعتماد السخرية في هذا العمل القائم على سردية فيليب وعلى قصصه، توضح لينا أبيض أنه كان من الضروري إضافة أشياء أخرى وقصص موازية لتحقيق توازن بين السرد والفعل، وأن طابع السخرية كان مقصودا، وتقول: “من طبعنا نحن اللبنانيين أننا نسخر ونحن نقصف، فالسخرية هي أداة مقاومة بالنسبة إلينا من أجل العيش. فحتى ونحن نحكي عن الموت فنحن نسخر منه، وهذا ما يعطي بعدا إنسانيا وخفة للعمل الذي يحكي عن أشياء قاسية”.
المسرح واكتشاف الذات
ومن جهته اعتبر الممثل فيليب عرقتنجي أن هذا العمل المسرحي، الذي أنتجته شركته “فانتا سكوب/ Fantascope” بتعاون مع “إم إف جي كونسلتينغ”، فيه “مواجهة بين الرجل الذي هو عليه اليوم والطفل الذي كان عليه، والذي حاول طوال السنين التي عاشها التخلص من ترسبات الماضي ومن الآلام والأوجاع التي أثقلت عليه”، لدرجة أنه شعر بعد عرض العمل وتحقيقه للنجاح بنوع من التنفيس عما كان يخنقه، معتبرا أن المسرح هو أحسن طريقة لاكتشاف الذات والتصالح معها، وأنجع وسيلة للحداد، حيث حكا أنه في كل مرة كان يتدرب فيها على مشهد موت الأب كان يبكي بحرقة، لكنه عند تقديم العرض الأول توقف عن البكاء، وهو ما يعني أنه استطاع التأقلم مع فكرة الموت.
وأشار فيليب عرقتنجي، الذي لا يخلو عمله المسرحي من بصمته السينمائية المتمثلة في الأشرطة الوثائقية القصيرة المعروضة فيه والصور الفوتوغرافية، إلى أن هذا العمل حقيقي وصادق لم يستطع فيه كبت المخرج بداخله، وهو ما جعله ينتقل فوق الركح المستثمر بدقة وعناية ليخلق مشاهد ومواقف متعددة، ويتمكن في كل مشهد من التعبير بشكل مختلف، ولكن بشكل ممتع ينبيء أن الفنان والمخرج السينمائي فيليب عرقتنجي لن يقف عند هذا العمل المسرحي الأول في حياته، بل سيستثمر طاقاته مخزونه المعرفي في أعمال مسرحية أخرى.
وفيليب عرقتنجي كاتب سيناريو ومخرج ومنتج ومصور وممثل ولد في بيروت عام 1964، يحمل الجنسيتين اللبنانية والفرنسية. انتقل عام 1989 للعيش في باريس. أخرج أكثر من 50 فيلما وثائقيا وأربعة أفلام طويلة توجت في مختلف المهرجانات العالمية.
أخرج وأنتج عام 2005 أول أفلامه السينمائية “بوسطة”، أول كوميديا موسيقية لبنانية بعد الحرب، حققت نجاحا تجاريا مهما، وصالحت اللبنانيين مع سينماهم، وفتحت المجال لجيل جديد من المخرجين، ومثل لبنان في جوائز الأوسكار لعام 2006. وفي عام 2006 أخرج وأنتج فيلم “تحت القصف”، الذي صور في جنوب لبنان أثناء الحرب. شارك الفيلم في مهرجان البندقية السينمائي 64-سيندانس، ومهرجان دبي للأفلام، وحاز على أكثر من 23 جائزة، منها جائزة حقوق الإنسان في البندقية، والمهر الذهبي لأفضل فيلم وأفضل ممثلة في مهرجان دبي للأفلام، كما مثل لبنان في جوائز الأوسكار لعام 2009
كما أخرج فيلمين سينمائيين آخرين هما الوثائقي “ميراث” عام 2014، الذي يتناول فيه ـأربعة أجيال من عائلته وتنقلاتهم، والروائي “اسمعي” عام 2018، يتناول فيه قصة حب لبنانية عصرية.
وإضافة إلى هذه الأعمال، فقد قدم فيليب خدمات ثقافية وفنية وخبرته في المجال السينمائي للعديد من الجهات والقنوات التلفزيونية، كما أعد أفلاما موسيقية وسياحية للعديد من المؤسسات عبر العالم، وهو عضو مؤسس لمنظمة “سينما لبنان”، وهي مؤسسة غير ربحية تسعى لدعم السينما اللبنانية والترويج لها، ونائب رئيس سابق لـ “معهد الشاشة ببيروت”، تم توشيحه عام 2018 بوسام الفنون والآداب من قبل الحكومة الفرنسية برتبة فارس.
*إعلامية وكاتبة من المغرب