هُنا يُلقي درويش قصيدته الأخيرة
السعودية/ لطيفة حسيب القاضي
في مكان واحد، يتجسد تاريخٌ، يظل حيًا في الوجدان، حين ينظر إليه الزائر، يتراءى له أنه ينظر إلى فلسطين ذاتها.
يعد متحف الشاعر الفلسطيني الكبير” محمود درويش” الذي افتتح عام( 2012م) في رام الله في الذكرى الرابعة لوفاته، من أبرز المعالم الثقافية في فلسطين، وقد تأسس تخليدًا لذكراه، وتوثيق حياته، وأعماله الأدبية، وإرثه الإنساني.
جاءت فكرة بناء المتحف، تجسيدًا وإعلاءً للقيم التي آمن بها درويش، وتقديرًا للمكانة التي احتلها في حركة الشعر والنثر الفلسطيني والعربي والعالمي، كما تهدف إلى تعميم منجزه إلى نطاق واسع، وتسليط الضوء على كل ما يزخر به تراثه، من قيم نبيلة، تتمحور في حب الوطن، وتمجيد الحياة، والنضال من أجل الحرية، والاستقلال، والديمقراطية.
كما يأتي تأسيس متحف درويش، استجابة لتكريس فكره وإبداعه، الذي امتد لأكثر من خمسة عقود. لقد حَمَلَ درويش القضيّةَ الفلسطينية إلى شعوب العالم قاطبة، وكان تفرده الإبداعي، محل تقديرٍ واحترامٍ عالمي.
تصميم المتحف:
شُيّدَ متحف محمود درويش فوق ربوة عالية تطل، على مدينة القدس، في منطقة المصيون بمساحة تبلغ 9000 متر مربع. من تصميم المهندس (جعفر طوقان) ابن الشاعر (إبراهيم طوقان).
صُمِّم المتحف بشكل إبداعي فريد، على هيأة كتاب مفتوح بدفَّتين عنوانه “محمود درويش”. يضمُّ ضريح محمود درويش، متحفًا تذكاريًا، وقاعة متعددة الاستخدامات، ومسرحًا خارجيًا، وحديقة عامة، ومسطحات مائية. يعرض المتحف مقتنيات درويش، ويحتوي على صالة عرض فيديو، ومكتبة تضمُّ دواوينَه الشعرية وكتبًا أخرى.
في الجزء الأعلى، تُعرَضُ أبرز أعماله في شاشة فيديو، ويُسمع صوت الراحل، عبر شاشاتِ عرضٍ كبيرةٍ تُتِيح للزُّوار الاستماع والمشاهدة. وكأنَّ درويش لايزال شامخًا بين جدران ضريحِهِ، يُلقي أشعاره الخالدة بصوته العذب. نقش على جدار المتحف كلماته الخالدة:” نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا “.
يُعدّ المتحف لوحة معماريَّة فريدة ، تربط بين الثقافة والتّاريخ، وتُجسِّد جغرافيا المكان كجزء من رسالته المتفرّدة، التي تَمزُج بين التّراث والحداثة، وتعكس جمال المكان الفلسطيني وخصوصيته، ما يجعله مصدرَ إلهام للأدباء والمثقفين.
محتوى المتحف وأهدافه :
متحف محمود درويش الأول من نوعه في فلسطين، ويضم مرافق متعدّدة تهدف إلى حرية التعبير، وتعزيز الإرث الثقافي الفلسطيني، من بين هذه المرافق، زاوية “المنبر الحر” ومسرح مفتوح على الطراز اليوناني القديم يتَّسع لحوالي 500 شخص، قاعة الجليل التي سميت بذلك تيمُّنا بمسقط رأس محمود درويش؛ لاستضافة الأمسيات، والفعاليات الفنيّة والثقافية، ومكتبة إلكترونية تضمُّ مؤلفاته، كما يضم المتحف مجموعة، من مقتنيات درويش الخاصة مثل: كتبه، مخطوطاته، وفنجان قهوته وطاولته، وصوره الشخصية، والراديو وجواز السفر الفلسطيني، وأوامر الإقامة الجبرية وغيرها من الوثائق، والنسخة الأصلية من وثيقة الاستقلال الوطني التي كتبها بيده.
كما نجد أعماله المترجمة إلى لغات عدّة وجوائزه، وأوسمته المعلقة على الجدران.
علاوة على حديقة عامة للتنزه، تحتوي على نباتات مزروعة، مأخوذة من مختلف المدن فلسطين، ومسطحات مائية، وتعرض فيها كذلك أعداد من مجلة “الكرمل”التي أسّسها.
الأنشطة التي يقوم بها المتحف:
يعد المتحف قِبلَةَ المثقّفين من داخل فلسطين وخارجها، وينظّم أنشطة متعدّدة منها، استضافة كتّاب وأدباء ومفكرين، في ندوات وأمسيات شعرية، وندوات أدبية، تسلط الضوء على أعمال درويش وإرثه الإبداعي؛ ممَّا يعزِّز الحوار الثقافي. كما ينظم المعرض عروضًا موسيقيةً وفنيةً، تُقدِّمها فِرقٌ محليّة وعربية وأجنبية، إضافة إلى عروض سينمائية، تتناول أفلام وثائقية، و مواضيع تاريخية وثقافية، الأمر الذي يثري تجربة الزوار، ويعمق فهمهم للثقافة بكل فروعها.
كذلك نظّمت “جائزة محمود درويش السنوية للإبداع” والتي تمنح للمثقفين من فلسطين وخارجها، بإشراف لجنة مستقلة من الأدباء والنقاد العرب. كما يشهد المتحف تعاونًا مثمرًا، مع مؤسسات فنية وثقافية، بما يعزز حضوره في المشهد الثقافي الفلسطيني.
إدارة المتحف:
يتبع المتحف لمؤسّسة محمود درويش التي أنشئت (2008م) بموجب مرسوم، من قبل الرئيس محمود عباس، وهي مؤسسة وطنية غير ربحية، تهدف إلى الحفاظ على إرث الشاعر وتخليد ذكراه، ترأس مجلس أمنائها، بدايةً (ياسر عبد ربه)، ثم( زياد أبو عمرو)، نائب رئيس الوزراء الفلسطيني الذي يشغل المنصب حتى اليوم.
أما الإدارة التنفيذية، فقد تولاها (سامح خضر) في البداية، كان له دور أساس، في بناء رؤية المتحف الثقافية وتطويرها، كما أشرف على تنظيم أنشطة متنوعة، تناولت الإصدارات القديمة، من خلال مناقشتها، وتسليط الضوء على الإصدارات الجديدة، أطلق برنامجًا استضافة، لأهم الكتاب والأدباء والمفكرين، لزيارة فلسطين؛ لتكون فرصة لالتقاء الفلسطينيين بكتابهم المفضلين، كما نظّم ورشات كتابة، تستهدف الجيل الجديد من المواهب.
إلى أن تولى الإدارة (فارس سباعنة) ثم (فتحي البس) الذي تولى إدارة المؤسسة عام 2021م.
تأثير المتحف على المشهد الثقافي في فلسطين:
سعت مؤسسة محمود درويش إلى جعل المتحف منصة، لدعم الإبداع الفلسطيني، لتكون بذلك حلقة وصل حيوية، بين عدد كبير من الروائيين والكتاب والفنانين والشعراء من جهة، وبين المجتمع والجمهور، والقراء من جهة أخرى، وأحدثت حراكًا ثقافيًا واسعًا، في وقت تشهد فيه بعض المؤسسات تراجعًا ملحوظاً.
تحوّل المتحف إلى مزار ثقافي حيٍّ، يوظف معاناة درويش، وتجربته الإنسانية في سياق النضال الفلسطيني، ليصبح شاهدًا على الكفاح الوطني، ووجهة للعشاق ومحبي شعره، ذلك من خلال تسليط الضوء على المواهب الفلسطينية، وتشجيع الفنانين والشعراء الشباب، على التوجه للمتحف، لإقامة الأمسيات والمعارض في فضائه؛ مما ساهم في إعادة فلسطين إلى الصدارة، في المشهد الثقافي العربي، من خلال التغطية الإعلامية واللقاءات المفتوحة، مع كبار الأدباء والمفكرين العرب.
كما تمثلت رسالة المتحف، في تسليط الضوء على معاناة الشعب الفلسطيني، وتقديمه كهيئة ثقافية، لكل صاحب فكرة، وكل مبدع يجد فيه نافذة، يطل بها على المجتمع، ويقدِّم من خلالها أفكاره إلى الجمهور، وهذا يشكّل الركيزة الأساس، في عمل متحف محمود درويش؛ ليصبح المتحف شاهدًا حيًا على مسيرة الكفاح.