المصرف المركزي يواجه أصعب قراراته بين مطرقة التضخم وسندان الرئيس
*ترامب يستخدم “سلاحاً” لفظياً حاداً ضد باول
*الرسوم الجمركية تهدد بارتفاع الأسعار وبالتالي ترفع التضخم
في قلب النظام المالي العالمي، يقف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي كلاعب أساسي لا يمكن تجاهله. هو ليس مجرد مصرف مركزي للولايات المتحدة، بل هو صانع قرار تتجاوز تأثيراته الحدود الجغرافية، لتلامس كل ركن من أركان الاقتصاد العالمي. إن مهمته المزدوجة المتمثلة في الحفاظ على استقرار الأسعار وتحقيق أقصى قدر من التوظيف، تضعه باستمرار في مواجهة تحديات معقدة وتوقعات متباينة. في هذا السياق، ليست قراراته مجرد إعلانات روتينية، بل هي محط ترقب شديد من قبل المستثمرين وصناع السياسات والمحللين على حد سواء. ومع كل اجتماع جديد للجنة

الفيدرالية للسوق المفتوحة، تتجدد الأسئلة حول المسار المستقبلي لأسعار الفائدة، وتتزايد التكهنات حول إمكانية تغير السياسة النقدية.
في خضم هذا الترقب، تبرز الخلافات الحادة حول استقلالية المصرف المركزي الأميركي، والتي تتمحور اليوم بين الرئيس دونالد ترامب ورئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول. يقود هذا الخلاف إلى التهديد بإقالة الأخير من منصبه لأنه “لا يلبي” رغبات ومطالب ترامب في خفض أسعار الفائدة —أحد الوعود الرئيسية في حملته الانتخابية— وهو ما يبقي تكاليف الاقتراض مرتفعة.
اجتماع يوليو (تموز) للجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة، التي يرأسها باول والتي قررت الإبقاء على أسعار الفائدة ثابتة عند نطاق 4.25 في المائة – 4.50 في المائة، انعقد تحت وطأة “سلاح” لفظي حاد مارسه ترامب على باول. إذ استخدم عبارات نارية تمس مباشرة شخص باول وليس أداءه فقط، مثل “الغبي جداً” و”الفاشل جداً”… وغيرها من التوصيفات اللاذعة التي لم تدفع رئيس الاحتياطي الفيدرالي إلى الإذعان لمطلب ترامب خفض الفائدة، مع إقرار الأخير بأن تعيينه كان “خطأ”. فترامب هو من اختار باول لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي في العام 2017 خلال ولايته الأولى، والتي بدأ خلالها معركته اللفظية ضد باول.
تصريحات باول بعد قرار الاحتياطي الفيدرالي الإبقاء على أسعار الفائدة من دون تغيير في يوليو (تموز)، تسببت في إضعاف احتمالات بدء خفض تكاليف الاقتراض في سبتمبر (أيلول)، مما أثار غضب ترامب الذي طالب بتخفيف فوري
وكبير لأسعار الفائدة. إذ قال باول إن المصرف المركزي يركز على السيطرة على التضخم وليس على الاقتراض الحكومي أو تكاليف الرهن العقاري (التي يريد ترامب خفضها)، مضيفاً أن مخاطر ارتفاع ضغوط الأسعار جراء سياسات التجارة وغيرها من سياسات الإدارة لا تزال مرتفعة للغاية بدرجة يتعذر معها تخفيف السياسة النقدية.
معارضة غير مسبوقة واستقلالية مهددة
ولابد من الإشارة هنا إلى أن قرار يوليو (تموز) قد شهد معارضة اثنين من محافظي الاحتياطي الفيدرالي (نائبة رئيس المجلس للإشراف ميشيل بومان والمحافظ كريستوفر والر)، وكلاهما من تعيين ترامب، واللذين يتفقان معه على أن السياسة النقدية مُشددة للغاية. وهو أمر لم يُسجل منذ العام 1993. ففي ذلك العام، شهد مجلس الاحتياطي الفيدرالي بعض المعارضة الداخلية للسياسات النقدية المقترحة، حيث كان آلان غرينسبان يشغل منصب رئيس الاحتياطي الفيدرالي. وكان من المعروف عن غرينسبان اتباعه لسياسات نقدية تهدف إلى السيطرة على التضخم مع دعم نمو الاقتصاد. وفي تلك الفترة، كانت هناك تحولات في الأسواق المالية وتغيرات في ديناميات الاقتصاد الأميركي، مما جعل البعض داخل المجلس يشعرون بالقلق إزاء القرارات المحتملة المتعلقة بأسعار الفائدة والسياسات النقدية العامة. ومن بين المعارضين في عام 1993، كانت هناك اعتراضات على قرارات رفع أسعار الفائدة أو على النهج العام الذي يتبعه غرينسبان، والمتمثل في تبني سياسات نقدية أكثر تحفيزية للحفاظ على مستويات التضخم تحت السيطرة، وفي الوقت نفسه دعم النمو الاقتصادي.
سياسة “الانتظار والترقب”
يمارس الاحتياطي الفيدرالي سياسة “الانتظار والترقب، والتي تُستخدم عادة في ظروف عدم اليقين الاقتصادي. كما أنها أسلوب مؤقت يتبعه أي مصرف مركزي في التعامل مع الظروف الاقتصادية السائدة.
فبدلاً من اتخاذ قرارات فورية مثل زيادة أو خفض أسعار الفائدة، يفضل الاحتياطي الفيدرالي في بعض الأحيان الانتظار وجمع المزيد من البيانات والمعلومات الاقتصادية قبل اتخاذ إجراءات حاسمة.
وهو حال الاحتياطي الفيدرالي الذي أقدم مرات عدة العام الماضي على خفض الفائدة (الخفض الأخير كان في ديسمبر/ كانون الأول 2024) قبل أن يطلق ترامب حرباً تجارية تمثلت بفرض رسوم جمركية على معظم دول العالم، والتي لها بلا شك آثار سلبية على الأسعار وبالتالي على معدلات التضخم التي يحاربها المصرف المركزي منذ العام 2022. فالرسوم الجمركية هي أداة ذات تأثير تضخمي، حيث أنها تزيد من تكلفة السلع المستوردة والمحلية، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار الإجمالي في الاقتصاد. هذا الارتفاع هو بالضبط ما يحاول الاحتياطي الفيدرالي مكافحته عبر رفع أسعار الفائدة. لهذا السبب، يراقب الفيدرالي عن كثب تأثير هذه السياسات التجارية، لأنها يمكن أن تعقد جهوده للسيطرة على التضخم، وقد تجعل مهمته في الحفاظ على معدل تضخم منخفض ومستقر، أصعب.
اجتماع سبتمبر… بين توقعات السوق وتحديات الواقع
قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي في اجتماعه السابق في يوليو (تموز) تجنب الإشارة إلى تخفيضات وشيكة في أسعار الفائدة، رغم الضغوط السياسية المتواصلة، يؤكد حذره السائد، وقد أجبر المستثمرين على تقليص توقعاتهم بتخفيف السياسة النقدية في اجتماع السياسة النقدية المقبل في سبتمبر (أيلول). حتى أنهم لم يعودوا يُقدّرون خفضين كاملين بمقدار 25 نقطة أساس بحلول نهاية العام كما كانوا في الأيام الأخيرة.
قال باول في المؤتمر الصحافي في يوليو (تموز) “هناك بيانات كثيرة ستصدر قبل الاجتماع المقبل . هل ستكون حاسمة؟ … من الصعب حقاً الجزم بذلك”. كما حرص على إبقاء خياراته مفتوحة بشأن السياسة النقدية، وقال: “لم نتخذ أي قرارات بشأن سبتمبر”. وهي تصريحات أثارت حفيظة ترامب كثيراً بعدما كان قال إنه “تبلغ” أن أسعار الفائدة ستخفّض في سبتمبر (أيلول).
لا يريد الاحتياطي الفيدرالي ارتكاب خطأ في أي من الاتجاهين – إما خفض أسعار الفائدة مبكراً جداً والمخاطرة بارتفاع التضخم باستمرار، أو بالانتظار طويلاً والتسبب في أضرار لا داعي لها لسوق العمل.
الواضح أن التضخم لا يزال يتجاوز هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 في المائة، وأنه على وشك التسارع مجدداً في ظل الرسوم. في وقت يسجل النمو الاقتصادي تباطؤاً مع تنامي المخاطر السلبية على سوق العمل، وذلك رغم وصف باول بأن الاقتصاد “متين”. وهذا يعني أنه في هذه الظروف، لا توجد حاجة لخفض أسعار الفائدة بشكل كبير واتباع سياسة تيسيرية إلا إذا كانت النتائج الاقتصادية سيئة للغاية.
الفائدة المحايدة: المقياس الحاسم في القرار
يرى محللون أن خفض أسعار الفائدة بشكل مفرط وسريع جداً قد يُخاطر بتحرك التضخم في الاتجاه الخاطئ وزيادة التوقعات بشأن ضغوط الأسعار المستقبلية بشكل حاد.
والاختبار الحاسم بالنسبة إلى الاحتياطي الفيدرالي هي البطالة. فإذا ظل معدل البطالة ثابتاً في النصف الثاني من العام، فمن المرجح أن يكون المصرف المركزي الأميركي قريباً من الحياد، مما يُغني عن الحاجة إلى مزيد من تعديلات أسعار الفائدة. أما إذا بدأ معدل البطالة بالتسارع، فمن المرجح أن نشهد قيام الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة بشكل حاد لتعويض خطر الركود.
وسعر الفائدة المحايد بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي هو معدل الفائدة الذي لا يؤدي إلى تحفيز الاقتصاد أو تباطؤه بشكل كبير، وعنده يتحقق استقرار الأسعار، ويصل الاقتصاد إلى مستوى التوظيف الكامل.
على مدى فترة زمنية طويلة، حدد معظم المسؤولين في الاحتياطي الفيدرالي هذا المعدل عند 3 في المائة، وفقاً للتوقعات الصادرة في يونيو (حزيران). لكن العديد من الاقتصاديين يجادلون بأنه في ظل الظروف الحالية، قد يكون أعلى من ذلك. ويُقدّر “جي بي مورغان” أن يبلغ معدل الفائدة المحايد قصير الأجل حوالي 3.5 في المائة، فيما يرى “دويتشه بنك” أن المعدل قريب من المستوى نفسه، ويتفقون على أن الظروف الاقتصادية لن تسمح للاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة حتى نهاية العام.
وبالتالي، فإن ما قد يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى تجاوز معدل الفائدة المحايد بكثير، والانتقال إلى مستوى 1 في المائة التي دعا إليها ترامب، هو انهيار سوق العمل. وهذا يشير هذا إلى أن التوترات بين اثنين من أقوى الشخصيات في واشنطن ستستمر على الأرجح لفترة أطول.
فحتى لو قام الاحتياطي الفيدرالي بخفض الفائدة قريباً، فإن هذا الأمر لن يرضي ترامب المصرّ على التخلص من “غريمه” الذي يعوق خططه… ونتيجةً لذلك، من المرجح أن يظل الاحتياطي الفيدرالي في مرمى نيران ترامب.