هل الأمر يتعلق بإعادة هيكلة أم غياب لسياسة ثقافية واضحة؟
في الوقت الذي تتناسل في السنوات الأخيرة بالمغرب العديد من التظاهرات الفنية والثقافية، يتم السعي إلى وأد مجموعة من المهرجانات العريقة السينمائية منها والثقافية، من مثل “مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط”، الذي تم تأجيل دورته الأخيرة )30 ( بسبب قلة الإمكانيات المادية المرصودة له، وهو تأجيل بطعم الإلغاء، شأنه شأن “مهرجان مسرح البدوي” بإفران الذي تم إلغاء دورته )45(، وغيرها من التظاهرات الفنية والثقافية في مختلف ربوع المملكة، وذلك رغم إعلان منظميها عن تواريخها وعن برامجها وضيوفها.
هذا التوجه لم تسلم منه حتى التظاهرات الفتية التي تم إحداثها في السنوات الأخيرة من مثل “مهرجان المسرح الإفريقي

” الذي نظمت دورته الأولى في نهاية شهر أبريل من عام 2023 بمناسبة الاحتفال بالرباط عاصمة للثقافة الإفريقية، ولكن للأسف بقيت تلك الدورة يتيمة ولم يتواصل ذلك المهرجان، مثلما حدث مع “مهرجان الرباط الدولي للمسرح الجامعي”، الي نظمت دورته الأولى السنة الماضية، وهذه السنة يتم إلغاء دورته الثانية على الرغم من إعلان منظميها عن تاريخ شهر أكتوبر لها وقيامهم بجميع الترتيبات من أجل إنجاح الدورة الثانية.
فما الذي يحدث في تظاهرات المغرب الثقافية والفنية؟ وما أسباب إقدام وزارة الثقافة الوصية على القطاع على انتهاج هذا الأسلوب في التعامل مع للتظاهرات العريقة والفتية والتي أحدثت هي نفسها البعض منها؟ وهل ستعمل وزارة الثقافة مستقبلا على إعادة النظر في جميع التظاهرات الفنية والثقافية وهيكلتها من جديد، أم هو ترشيد للنفقات ولو على حساب العراقة والجودة؟
توجهت مجلة “الحصاد” بهذه الأسئلة إلى المسؤولين في وزارة الثقافة على التظاهرات الثقافية والفنية، ولكن للأسف لم يكن هناك رد على هذه التساؤلات المشروعة، اللهم ما توصلنا إليه بفضل مجهوداتنا الخاصة من أن وزارة الثقافة بالمغرب مقبلة على تنظيم يوم دراسي لإعادة النظر في التظاهرات الثقافية وهيكلتها من جديد، وعلى رأسها التظاهرات المسرحية، بهدف الإبقاء على المهم منها وإلغاء ما لا تراه مهما، وهو ما يتم في سرية تامة، ولا يحفز المشتغلين في القطاع على الإسهام بما يرونه مناسبا وفي الوقت المطلوب، ومع ذلك يظل إيمان الفنانين المسرحيين والسينمائيين

والمثقفين بشكل عام قوي جدا بضرورة التغيير، وإعادة الاعتبار للثقافة والفنون بالمغرب لتكونا فعلا رافعتين للنمر والتطور، وتسهما إلى جانب الرياضة في الرقي بالمغرب، خاصة أن البلد مقبل على تنظيم تظاهرتين رياضيتين كبيرتين هما كأس إفريقيا لكرة القدم وكأس العالم.
تأجيل بطعم الإلغاء
على الرغم من إعلان أحمد الحسني، رئيس مؤسسة “مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط” عن تأجيل الدورة 30 من هذه التظاهرة العريقة التي كانت مبرمجة في الفترة ما بين 26 أبريل/ نيسان و3 مايو/ أيار 2025، إلى موعد جديد هو ما بين 25 أكتوبر/ تشرين الأول وفاتح نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، بسبب “عدم كفاية الغلاف المالي المحصل عليه لتنظيم هذه الدورة في ظروف تليق بمكانة المهرجان وتاريخه. هذا المبلغ لم يعد يستجيب لمتطلبات تنظيم تظاهرة ثقافية وفنية بهذا الحجم، خاصة في ظل الارتفاع الملحوظ في التكاليف على مختلف المستويات: من خدمات الإقامة والتغذية، إلى النقل الدولي والداخلي، والتجهيزات التقنية، والتكاليف المرتبطة بالتحول الرقمي الذي مسّ كافة القطاعات”. فإن متتبعي الشأن الثقافي في المغرب رأوا أن هذا التأجيل يأتي بطعم الإلغاء، لأن الظروف نفسها ستستمر وسيظل المشكل قائما في ظل الغياب شبه التام لدعم القطاع الخاص، الذي اقتصر على مساهمة ضعيفة، وهو من أبرز التحديات التي تواجه المهرجان، كما جاء في إعلان رئيس مؤسسة هذا المهرجان.
وحتى لو حاول منظمو هذه التظاهرة التأكيد أن التأجيل لهذه التظاهرة لا يعني إلغاءها، بل هو “فرصة إضافية لتأمين ما تبقى من الموارد المالية الضرورية، واستكمال الترتيبات الكفيلة لضمان تنظيم دورة ناجحة، تحافظ على المكانة الرمزية والثقافية والفنية التي راكمها مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط على مدى العقود الماضية”، فإن واقع الحال يفند كل ذلك، ما دام ما رصد لهذه التظاهرة ضمن ميزانية المهرجانات السينمائية بالمغرب، لا يكفي لتنظيمه بالشروط الفنية والجودة المطلوبة، ولم يأخذ بالاعتبار تاريخ هذه التظاهرة السينمائية المهمة بشمال المغرب التي قدمت ثلاثين دورة فيها الكثير من الوفاء للفن السابع وللإبداع السينمائي المتجدد.
مضت الآن أربعون سنة على تاريخ تأسيس هذا المهرجان) 1985(، ورغم مجموعة من العثرات والتوقفات فقد استطاع الصمود والانحياز لقيم سينيفيلية تلتزم بالدفاع عن سينما مغايرة حاملة لقيم كونية ومرتبط بانشغالات وأحلام المواطن في مختلف البلدان المتوسطية، وذلك بفضل تضحيات ومجهودات شباب المدينة الحالمين بمهرجان سينمائي رائد في مجاله، تمكنوا فيما بعد من خلق مؤسسة خاصة به لضمان إشعاع هذه التظاهرة واستمرارها، حيث حقق المهرجان نجاحا مهما واستضاف أسماء وازنة في مجال السينما المتوسطية، وعرضت ضمن فقراته أفلام متنوعة وذات جودة عالية، كما ساهم في بناء شبكة واسعة من العلاقات الإنسانية أساسها الصداقة والثقة المتبادلة وعشق السينما وربط أواصر

وطيدة مع مجموعة من المهرجانات المغربية والمتوسطية، ونجح في إرساء علاقات تعاون مثمرة معها، عادت بالخير على السينما المغربية وعلى الجهة الشمالية على المستوى الثقافي والسياحي والاقتصادي. ولكن ما يحدث مع هذا المهرجان في السنوات الأخيرة من تقليص الدعم يطرح أكثر من سؤال على الوزارة الوصية على القطاع وعلى مؤسسات القطاع الخاص والعام التي لم تعد تقدم دعما منتظما لهذا المهرجان.
إرث تاريخي مسرحي إلى زوال
شكل إلغاء الدورة 45 من “مهرجان مسرح البدوي” بإفران، التي كان من المزمع تنظيمها ما بين 13 و17 أغسطس/ آب الماضي بمدينة إفران، صدمة لمتتبعي الشأن المسرحي بالمغرب، خاصة أن هذه التظاهرة العريقة التي أسسها المسرحي المغربي الراحل عبد القادر البدوي منذ عام 1972 بمدينة إفران الأطلسية بهدف فك العزلة عن هذه المنطقة، هي التظاهرة المسرحية الوحيدة التي تشهدها هذه المنطقة الأمازيغية، والتي كان يأمل منظموها من أبناء هذا المسرحي المغربي الراحل عام 2022، في تطويرها لتأخذ بعدا إقليميا أو دوليا، ولكن ميزانيتها الضعيفة جدا ستحول دون استمرار هذه التظاهرة بالقوة والجودة المطلوبتين.
الفنانة حسناء البدوي ابنة المسرحي الراحل عبد القادر البدوي، والمشرفة على “مهرجان مسرح البدوي بإفران”، ذكرت في تصريح لمجلة “الحصاد” أن هذه التظاهرة المسرحية العريقة التي يبلغ عمرها 53 سنة عرفت بعض التعثرات، ولكنها لم تتوقف لإيمان مؤسسها المسرحي عبد القادر البدوي بدور المسرح في تنمية المجتمعات وتغذية العقول، وتضحياته الكبيرة من أجل النهوض ببعض المناطق البعدية عن المركز، وعلى رأسها مدينة إفران وضواحيها، التي تفتقر إلى تظاهرة مسرحية.
وأضافت الفنانة حسناء البدوي “ليس دورنا نحن أبناء المسرحي الراحل عبد القادر البدوي تسيير هذا المهرجان، فهو تركة وإرث تاريخي مغربي على الوزارة الوصية على القطاع أن تهتم به، لأنه من غير المعقول أن تدخل الوزارة في شراكات مع مهرجانات مستحدثة فيما مهرجان عريق نحت اسمه في منطقة الأطلس المتوسط مثل مهرجان البدوي، مقصي من كل هذا، بل أكثر من هذا فإن حتى فرقة “مسرح البدوي” لا تستفيد من دعم الإنتاج ولا دعم الجولات على الرغم من

الخدمة الفنية التي تقدمها للجمهور المتعطش للمسرح الدي أسسه البدوي، بل أكثر من ذلاك فإن مسرح البدوي لا يستدعى للاحتفال باليوم الوطني للمسرح الذي ينظم كل 14 مايو/أيار من كل سنة، على الرغم من أن ذلك اليوم كان وراء تحقيقه المسرحي عبد القادر البدوي”.
وتساءلت البدوي عن أسباب هذا الإقصاء، وتقليص ميزانية مهرجان مسرح البدوي إلى النصف، وطالبت الوزارة الوصية بتقديم التوضيحات اللازمة لهذا الموضوع، الذي يأمل منظموه تحويله إلى مهرجان دولي يليق بسمعة وتجربة المسرح المغربي، وتجربة مسرح البدوي الرائدة التي كان وراء تأسيسها عبد القادر البدوي عام 1952، لتكون وسيلة لإيصال صوت المقهورين والبسطاء والدفاع عن حقوقهم في مواجهة المستعمر الفرنسي في فترة الحماية، حيث كان يقدم مسرحا عماليا نضاليا توعويا يلهب المشاعر ويدعو إلى الدفاع عن استقلال البلاد. وقد شكل إلى جانب أخيه عبد الرزاق البدوي قبل أن ينفصلا عام 1995 وينشئ هذا الأخير فرقة “مسرح البدوي 65” عام 1997، تجربة مسرحية فريدة ورائدة أعطت الكثير للمسرح والتلفزيون المغربي، جابت مختلف ربوع المملكة المغربية بعروضها المسرحية المقتبسة من الريبيرتوار المسرحي العالمي أو المؤلفة من قبلهما، والتي اشتغلا فيها على المسرح الاجتماعي وكانا يطرحان فيها قضايا الطبقة المتوسطة والمشاكل العائلية، حيث دخلت مناهج التعليم الأكاديمي في العديد من الجامعات المغربية والعربية والدولية، وأضحت محطة مهمة في تاريخ المسرح المغربي لا يمكن القفز عليها.
وأد تظاهرات فتية
مثلما تم التخلي عن “مهرجان المسرح الإفريقي” بالمغرب الحدث الثقافي الجديد الذي أقيم لأول مرة في العاصمة الرباط ما بين 24 و30 أبريل/ نيسان من عام 2023، وذلك بمبادرة من وزارة الشباب والثقافة والتواصل المغربية بالشراكة مع جمعية “شعاع القمر”، وضمن احتفالات الرباط بعاصمة الثقافة الإفريقية، وتسليط المهرجان الضوء على المسرح الإفريقي المعاصر الغني والمتنوع، لم تظهر دورته الثانية وتم التخلي عنه لأنه كان مجرد حدث مناسباتي على ما يبدو. الشيء نفسه يتكرر هذه المرة مع مهرجان مسرحي دولي وهو “مهرجان الرباط الدولي للمسرح الجامعي” الذي نظمت دورته الأولى التي حملت اسم الفنانة الراحلة نعيمة المشرقي ما بين 26 و28 ديسمبر/ كانون الأول من السنة الماضية، ولقيت اهتماما من طرف المهتمين بالمسرح بالعاصمة الرباط وضواحيها، فيما دورته الثانية التي تم الإعلان عنها، وحملت اسم المسرحي الفنان الراحل محمد حسن الجندي وكانت ستنظم هذه السنة ما بين 6 و12 أكتوبر الجاري، تحت شعار “المسرح والسياحة الثقافية”، يتم التراجع عن تنظيمها وإلغائها بالمرة، بعدما وضعت كل الترتيبات لتحقيق ذلك وتم التواصل مع كل المشاركين، حيث عمم منظموها بيانا للصحاف جاء فيه أنه ” بسبب ظروف تنظيمية وموضوعية خارجة عن إرادتنا، تقرر إلغاء تنظيم الدورة الثانية للمهرجان هذه السنة. لقد كان هذا القرار صعبا للغاية، خصوصا أمام حجم الحماس الذي لمسناه من الفرق والضيوف، لكننا نعتبره خطوة ضرورية لضمان استمرارية المهرجان مستقبلا بنفس الجودة التي نطمح إليها”.
وعن إلغاء هذه الدورة قال مصطفى أشكالو رئيس ومؤسس “مهرجان الرباط الدولي للمسرح الجامعي” في تصريح لمجلة “الحصاد” إنه جاء بسبب “غياب أي دعم له لا من وزارة الثقافة ولا من وزارة التعليم العالي، باستثناء قاعة أبا حنيني وقاعة مسرح المنصور التي منحتها لنا وزارة الثقافة معتذرة عن دعمه بالشكل المطلوب لافتقارها إلى الميزانية المطلوبة”.
وأشار أشكالو إلى أن غياب سياسة ثقافية واضحة ومخاطب حقيقي في كلتا الوزارتين إشكال حقيقي، ولن يجعل أي تظاهرة ثقافية تستمر، كما أنه “من غير المعقول أن تحرم العاصمة من مهرجان دولي للمسرح الجامعي تكبدنا العناء وصرفنا عليه من مالنا الخاص لإنجاح دورته الأولى، والتي كانت ستنم منذ عام 2022، ولكنها بسبب التسويفات والوعود تأخرت إلى غاية عام 2024. وها هي الآن تقبر، ولا أحد يهتم للأمر”.
قائمة المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية التي تم التخلي عنها أو إلغاء دوراتها بالمرة كثيرة، كما أن التظاهرات التي تنظم في مختلف ربوع المملكة كثيرة ومتنوعة أيضا، ولهذا وجب التفكير في إعادة النظر في كم هذه المهرجانات والتركيز على الكيف والجيد منها والنوعي، مع الحفاظ على التظاهرات العريقة لأنها تشكل إرثا تاريخيا وثقافيا للمغرب.