السفينة تغرق والمرفأ يحترق

 جاد الحاج

كثر المحللون، وتكاثر العارفون بالغيب، ونشط مسممو وسائل التواصل الاجتماعي اصحاب المخيلات الخالية من كل أثر للأخلاق، ناهيك بالضمير، حياً او محتضراً، فالتطور الالكتروني قد فتح ابواب الجحيم على مصراعيها، ولم يعد للحقيقة معنى أو وزن، ما دام بمقدور احدهم اسقاط صورة عصفور على الفضاء، تعديلها، ووصفها بالصاروخ الموجه الى مرفأ بيروت!

 متى بدأت طبخة البحص الدموية التي اودت بحياة مئة وخمسين بريئاً وما لا يقل عن خمسة آلاف جريح، وتركت خلفها تسونامي من الخراب والدمار؟

سنة 2013 ابحرت سفينة تحمل اسم  »روسوس« من ميناء باتومي على البحر الاسود رافعة بيرق مولدوفا، متجهة الى موزمبيق لتفريغ شحنة من نيترات الاومونيوم حجمها اكثر من طنّين. اكترى السفينة روسي يدعى غريشوشكين وعهد بقيادتها الى مواطنه القبطان بوريس بركوفيتش. منذ محاولتها عبور قناة السويس تعرضت روسوس الى مشاحنات داخلية بين البحارة بسبب التقصيرفي دفع الرواتب مما اجبر القبطان على الاتصال بالمالك طلباً للمال، لكن الأخير اوعز بالتوجه الى بيروت وتحميل أدوات آلية محددة وبيعها في موزمبيق لتمويل الرحلة.

لدى بلوغه ميناء العاصمة اللبنانية اكتشف القبطان ان الشحنة الآلية العتيدة مهترئة ولا تصلح لشيء يذكر، الا انه لم يفلح بتبليغ الوضع المستجد الى مشغله، واذا به عالق في مرفأ بيروت غير قادر على دفع رسوم الرسوّ ولا اجور بحارته. وضعت ادارة المرفأ روسوس قيد الحجز ريثما يسدد القبطان ما عليه. حاول بعض البحارة الفرار جواً لكن ادارة المطار منعت الرحلة من السفر. جاع البحارة المحجوزون في الطائرة والسفينة، فتلقوا مساعدة مجانية من موظفي المرفأ والمطار. واخيرا تدخل القضاء، فقام بركوفيتش بتفريغ وقود روسوس وبيعه، وبثمنه أوكل الى مكتب محاماة لبناني الدفاع عن قضية سفينته. بعدئذ اصدر قاضي الامور المستعجلة امراَ يسمح لبركوفيتش بالسفر، فترك روسوس المنكوبة، تغرق على مهل في ميناء بيروت.

الواقع ان السلطات القضائية اللبنانية طالبت مراراً بنقل شحنة الأومونيوم الى مكان اكثر اماناً وبعداً عن السكن والسكان، لكن مرفأ بيروت لم يحرك ساكناً على مرّ الحكومات والوزراء منذ 2014 حتى صيف 2020، ولا أصرّت المراجع الحقوقية بما يكفي لتحويل  »التمني« الى قضية ذات حساسية عالية.

لقد كان بديهياً ان تنقل السلطات اللبنانية تلك الشحنة الى الحقول والبساتين كونها بالاساس سماداً زراعياً، غير ان التأجيل والتسويف والمماطلة أوصلت الأمور الى خاتمتها المروعة… لم يتأخر المستفيدون من تحويل المأساة الى ابواق سياسية لإلقاء التهم جزافاً والمطالبة بتحقيق دولي – عربي – لبناني لتحديد الجهات المسؤولة…علماً انهم لم يتورعوا عن ركوب موجة الهلع العام وتصويب سهامهم الى الداخل امعاناً بتعميق الأزمة.

وحدهم طلائع الشباب اللبناني الذين انتفضوا باعداد كبيرة الى توزيع الأغذية والادوية وتنظيف الشوارع والحارات والبيوت المنكوبة – وحدهم يستحقون الاحترام والتقدير وميداليات التضحية والعطاء. ما تبقى كلام بلا فائدة كما جرت العادة!

العدد108/ايلول 2020