عنكبوت الذاكرة

آفاق/ جاد الحاج

ما اكثر الملتفتين الى الماضي هذه الأيام!

هل كان الماضي أجمل وألطف  واكثر انسانية من هذا الحاضر المروع، ام هي الطبيعة البشرية إذ يصيبها التوق الى ما كان ولم يعد موجوداً، او مذكوراً  على خريطة الحاضر؟ ها انت تتوق الى الشعور النادر حين يختارك استاذ الحصة لحمل دفاتر الحصة الأعلى وتسليمها الى استاذها في الغرفة المجاورة،  وإذا بك تمشي تياهاً كأنك الموفد الجديد الى الأمم المتحدة . . . في اولى مهماته!

لكنك في الواقع  واحد من اولئك الابرياء الطيبين المنتمين الى جيل مشى سيراً على الأقدام الى المدرسة البعيدة، إن كانت السماء صحواً أزرق، او مطراً ، او نفناف ثلج يحيلك كتلة مرصعة بالبياض. يومئذ، لم تكن    لتخجل من عقوبة حين تخطىء، ولا يرهبك الوقوف امام الصبورة لحلّ واحدة من “عويصات” الحساب  نافذاً بريشك ناسياً ردّ الطبشورة الى مكانها الرسمي!

 انت من جيل  لم  تفزعه كثافة الفروض المدرسية، او  وزن   كتبه ودفاتره واقلامه  و”لفة” الجبن البلدي  في حقيبته. جيل اعتاد التحديات وتأجيل اللجوء الى المساعدة  من الأهل او الأقرباء الا في الظروف الصعبة. ينجح بالقفز من صفّ الى آخر من دون دروس اضافية،  او وعود عائلية تزيّن في خياله مكافأة جميلة. إنه جيل الصغار الذين يتنازلون عن مقعدهم في الباص لأي عجوز اوحامل او   محمّل بأغراض ثقيلة. جيل ينحني الى رفع كسرة الخبز عن الأرض فيقبّلها ويمسح بها جبينه تقديراً للنعمة. جيل عشق المشاوير في الغابات والطرق الوعرة ولم يخف يوماً من الضياع او فقدان البوصلة الطبيعية التي انفطر عليها   منذ الصغر. لم يعرف الخوف من اللصوص او قطاع الطرق او الخونة المجرمين فهو والأرض واحد في حراسة السماء المحتشدة دوماً بالأدعية والصلوات. ولذا   كنت تنام ملء عينيك، بعد اغلاق كتبك ودفاترك وتأهيلها لتصبح جاهزة للفجر الباكر، موعدك الثابت مع  السعي الدؤوب الى المعرفة.

 لم تكن من حملة الهواتف الجوالة، ولا الكومبيوترات النقالة، ولا السمّاعات المموسقة، بل كنت واحداً من   مراقبي النجوم في ليالي الصيف، تترعرع على المحبة والتسامح والصفح، ونسيان زلات الغير وغفران هفواتهم تجاهك.

وجيلك الذي نشأ وشبّ على احترام الوالدين والأقارب والجيران والجدود، والترحيب بعابري السبيل  وتكريم الغرباء، لطالما ايقن ان قيمه وعاداته واخلاقياته ليست سوى الوجه الانساني لميراث   سوف تستمرّ بتقاسم  اسراره و أرغفته مع  كل مواطن صديق مهما تغيرت الظروف واكفهرّ ازرق السماء فوق رأسك الجميل.

لا تقل لديّ وطن، بل قل انا لوطني جيلاً بعد جيل.

العدد 126 / أذار 2022