ليس للبنان من يرثيه

محمد علي فرحات

يأتي لبنان الأول (بعد مصر) عربياً في كمية ونوعية الكتابات الفكرية والأدبية  التي تناولته، و معها الأعمال الموسيقية والغنائية التي لا تزال حاضرة في وجدان المقيمين والمغتربين.

مع ذلك يفتقد المتابعون ولادة أعمال جديدة تترافق مع الأزمة المركبة التي يمر لبنان بها في السنتين الأخيرتين، وما أدت اليه من ضياع للاجتماع اللبناني وانحدار خطير في مستوى المعيشة ووقوف اللبنانيين أو معظمهم على حافة الجوع.

الفكر والأدب والفن لن تنقذ لبنان من أزمته لكن الغياب دليل على يأس المفكرين والمبدعين من احوال وطنهم ولجوئهم الى الصمت كعلامة وحيدة على الاحتجاج.

هذا الوضع يدفعنا الى استعراض المحطات المأسوية للوطن اللبناني منذ استقلاله عن الانتداب الفرنسي عام 1943، فبعد خمس سنوات من هذا الاستقلال ولدت دولة اسرائيل (1948) عند حدوده الجنوبية، ما يعني الاختناق الاقتصادي والانساني لسكان الجنوب والبقاع الغربي الذين كانوا يتفاعلون مع فلسطين ويعتبرون عكا وحيفا اقرب اليهم اقتصادياً من صيدا وبيروت. وأدى ذلك الى تفاقم هجرتين لهؤلاء، الاولى الى خارج لبنان وتحديداً الى الولايات المتحدة واميركا الوسطى والجنوبية وبعد ذلك افريقيا، والهجرة الثانية الى بيروت باعتبارها عاصمة لبنان وحاضنة مواطنيه.

والمحطة الثانية هي تحديات الوحدة المصرية – السورية عام 1958، وما سمّي ثورة في صيف ذلك العام ضد حكم رئيس الجمهورية كميل شمعون والتي انتهت بنزول مؤقت لجيش الاسطول السادس الاميركي على شاطئ لبنان، وانتخاب اللواء قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية ثم اجتماعه مع رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر في نقطة عند الحدود اللبنانية السورية. كان ذلك التغيير تأكيداً لتراجع النفوذ الفرنسي البريطاني في الشرق الأوسط لمصلحة النفوذ الأميركي، بعدما كانت البداية بهزيمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

والمحطة الثالثة هي الحكم القلق في سورية بعد انفصالها عن مصر عام 1961، وتصاعد نفوذ العسكريين في الحكم وصولاً الى استيلائهم عليه واستقرارهم فيه، خصوصاً مع الحكم المديد للفيرق حافظ الأسد. هنا بدأ النفوذ المتعاظم لدمشق في لبنان وصولاً الى التدخل العسكري المباشر أو الذي يستند الى تكليف عربي ودولي بتعهد دمشق استقرار لبنان الذي كان دخل حرباً أهلية بسبب الوجود الفلسطيني المسلح. لقد سيطر ياسر عرفات على معظم الأراضي اللبنانية لكنه لم يهنأ عندما اكتشف انه، هو المناوئ لحافظ الأسد، يمهد الطريق للرئيس السوري للسيطرة على لبنان كله باعتباره المخلص من سلطة عرفات، وانتهى الامر بلبنان ورقة في يد الحكم السوري ومجالاً مفتوحاً للتهديد الاسرائيلي، ولا يزال محكوماً بضغوط هاتين القوتين.

والمحطة الرابعة المستمرة هي ما أعقب السيطرة السورية المتعثرة من حرب اسرائيلية على لبنان وصلت الى احتلال العاصمة بيروت عام 1982، بعدما كان الاسرائيليون احتلوا جزءاً من جنوب لبنان عام 1978. أدى ذلك الى انسحاب المسلحين الفلسطينيين بحراً من مرفأ بيروت باشراف الجيش الاسرائيلي وتوزعوا على بلدان عربية عدة. وقد ملأ الفراغ الذي تركته المقاومة الفلسطينية مقاومات لبنانية قومية ويسارية ثم مقاومة “حزب الله” الممول من ايران، وقد تطور شأنه ليسدد ضربات موجعة الى جيش الاحتلال الاسرائيلي ادت الى انسحاب الأخير من لبنان عام 2000، وبذلك احتل هذا الحزب الصورة العسكرية ثم السياسية في جنوب لبنان بالتعاون مع حركة “امل” الموالية لسورية، ولا يزال. ومنذ العام 1990 حين تولى الرئيس الراحل رفيق الحريري عملية انهاء الحرب وتطبيق اتفاق الطائف، جرى تعاون بينه وبين “حزب الله” قضى باعتراف ضمني بشرعية سلاح هذا الحزب مقابل اطلاق يد الحريري في اعمار لبنان ونقله من الحرب الاهلية الى سلام النهضة الاقتصادية. هذا التعاون لم يعمر طويلاً فبرزت التناقضات بين السلام الحريري الدائم والحرب الدائمة التي خاضها ويخوضها “حزب الله” لتحرير لبنان من اسرائيل اولاً ثم لدعم الحكم السوري ضد الجماعات المسلحة التي سيطرت على الثورة السورية، وصولاً الى حضور ذلك الحزب في العراق وفي اليمن، ما أدى الى أن يلعب الحزب اللبناني الموالي لايران دوراً اقليمياً في منطقة حساسة للعالم، مستنداً الى حكم ايراني ينفر منه معظم العرب ومعهم اوروبا وشمال اميركا واستراليا. هكذا بدا لبنان الوطن اصغر وأعجز من حمل تبعات “حزب الله” الاقليمية، خصوصاً مع تزايد اعداد اللبنانيين الذين ينفرون منه ويعتبرونه عبئاً بعدما كان بطلاً.

هكذا لبنان يعاني اثقالاً فوق قدرته على الاحتمال، ويرزح شعبه تحت حرب اقتصادية تخاض ضده وحرب أهلية باردة يخشى كثيرون من أن تصبح ساخنة مدمرة. وفوق هذا العبء هناك طبقة حاكمة أتى معظمها من قيادات الحرب الاهلية التي تمتهن الفساد وسرقة المال العام واستعباد المواطنين باسم الطائفية. طبقة يشكو منها شعب أخرس خائف بقدر ما تشكو المنظمات الدولية والقوى الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة الاميركية.

العدد 124 / كانون الثاني 2022