نافذة على الحياة.. حكايات

سهير آل ابراهيم

لا يمكن اغفال دور او تواجد الحكايات في حياتنا اليومية، فنحن نتناقل أخبار بعضنا البعض، أخبار أحبتنا البعيدين وكذلك أخبار من لا نحب، أخبار العالم وما تجري فيه من أحداث، وكل تلك الأخبار تشكل حكايات ربما تكون صغيرة أو بسيطة، وربما تكون كبيرة ومؤثرة، ولكنها في نهاية الامر حكايات!

وصلتنا من عمق التاريخ دلائل تبين ولع الانسان بالحكاية، اذ كشفت الابحاث الاركيولوجية الكثير مما خطه أو حفره الأسلاف على هذه الأرض من حكايات امتزج فيها الواقع بالخيال، تعكس اغلبها شغف الانسان في فهم هذا الوجود، وحيرته ومحاولاته تفسير ما يملأ عالمه من ألغاز.

في عام 1845م بدأ منقبو الآثار الانكليز اوستن هنري لايارد وهنري راولنسن، مع الموصلي هرمز رسام، حملة تنقيب في أراض تعود اليوم الى العراق وسوريا، حيث عثروا، خلال سنوات من التنقيب، على الألوف من قطع الحجر والتي جُمع الكثير منها فيما بعد ورُتبت لتشكل اثني عشر لوحا طينيا تحمل كتابات بالحروف المسمارية. استقرت تلك الالواح وماتحمله من ألغاز عمرها اكثر من ثلاثة آلاف عام في المتحف البريطاني. بعد مرور أكثر من عقدين من الزمان، ألقت حجارة وادي الرافدين تلك بسحرها على الباحث الآثاري الانكليزي الشاب جورج سميث، فتُن ذلك الشاب بمرآى الألواح وأثارت حروفها المبهمة رغبته في ترجمتها وفك طلاسمها. عكف سميث على دراسة الحروف المسمارية، يدفعه شغف بحضارات وادي الرافدين. بعد ترجمة الرموز المحفورة على تلك الالواح وجد الباحث انها تروي حكاية… الحكاية الأقدم في التاريخ؛ ملحمة كلكامش!

يذكر الباحثون في خفايا الماضي أن الانسان تناقل الحكايات منذ ألوف السنين، شفاها قبل اختراع الكتابة، ثم كانت الكتابة وسيلته لتدوينها وبالنتيجة تخليد البعض منها وانتقالها عبر الزمن الى أجيال لاحقة.

يقول الكاتب والمحرر الصحفي كودي دليستراتي ان الانسان يميل الى إضفاء حكايات على ما يراه حوله، حتى في حالة عدم وجود أي حكاية، فالحكاية تساعد الانسان على خلق أنماط لما قد يبدو من فوضى حوله، وربما تمنحه الشعور بالسيطرة على مجريات الاحداث في حياته! حول ذلك أشار دليستراتي الى دراسة اجريت عام 1944 في كلية سميث الاميركية، حيث عُرض فيلم قصير امام أربعة وثلاثين من طلبة الكلية، كان الفيلم بسيطا فيه دائرة ومثلثين، واحد صغير وآخر كبير، يتحركون من جانب الشاشة الى جانبها الآخر، ومستطيل ثابت في مكانه. كان على الطلبة المشاهدين تدوين ملاحظاتهم حول الفيلم. كتب طالب واحد فقط من المجموعة انه شاهد اشكالا هندسية، ثلاثة منها تتحرك ورابع ثابت، اما الغالبية العظمى من المجموعة فقد دونوا حكايات! من العبارات التي كُتبت على سبيل المثال ان المثلث الكبير كان منزعجا جدا وقد اعماه الغضب، وان المثلث الصغير كان يتمتع بالدعة والبراءة، اما الدائرة فقد كانت في حيرة وقلق، كما بدت لأعين بعض المشاهدين!

السؤال هنا لماذا اخترع الانسان الحكاية في المقام الاول؟ يرى الباحثون ان الحكاية كانت واحدة من الوسائل التي ساعدت الانسان على البقاء والتغلب على ما قد ينهي حياته من مخاطر، اذ يبدو انها كانت وسيلة اكثر فاعلية من إعطاء الحقائق المجردة. على سبيل المثال لو قيل لشخص: لا تقترب من تلك الشجرة اذ يربض عندها حيوان مؤذ، لن تكون تلك العبارة فعالة مثلما لو قيل ان شخصا مات عندما اقترب من تلك الشجرة حيث افترسه حيوان مخيف يكمن عندها يتربص ما يمر قربها من أحياء. الحكاية هنا تضيف الى الحقائق ما يحرك مشاعر الخوف والحذر، وهذا ما يجعل لها الأثر الأكبر على المتلقي من مجرد معرفة الحقائق.

تستخدم الحكاية للتأثير في المتلقي، ومن منا لا يتذكر الحكايات التي سمعها او قرأها في الطفولة، تلك الحكايات التي كانت تحمل مواعظا وقيما اخلاقية حاول الاهل ايصالها الى اطفالهم بطريقة ممتعة محببة. ليلى التي لم تستمع لنصيحة امها عرضت حياتها وحياة جدتها للخطر حيث كان الذئب المحتال يتربص فرائسه في الغابة. وزوجة الاب الشريرة القاسية نالت عقابها بعد ان انصفت الحياة سندريللا، وغير ذلك الكثير من الحكايات التي يملأها الخيال والتي قد لا تعكس الموعظة فيها الواقع بشكل منصف، فعلى ارض الواقع لا تكون نهاية الظالم سيئة دوما، وقد لا يجد المظلوم طوال حياته من ينصفه، ولكن يبدو ان الحكايات تعكس اماني الانسان ورغبته في حياة مثالية يتغلب فيها الخير على الشر دائما.

تشير بعض الدراسات ونتائج اختبارات اجريت على العديد من الاشخاص ان قراءة الروايات ترفع من درجة تعاطف القارىء مع الآخرين، بغض النظر عن عرقهم او لغتهم او غير ذلك من الاختلافات التي يستخدمها البعض لتصنيف البشر والتمييز بينهم. وذلك لان الروايات تحاكي تجاربا اجتماعية من الواقع في معظم الاحيان، حتى وان كانت احداثها من نسج خيال الكاتب، فالرواية تؤثر على ذهن القارئ وترفع مستوى الوعي لديه بظروف واحداث قد تكون بعيدة عن واقعه، كما انها تعزز المهارات الاجتماعية لديه. الرواية الجيدة التي تشد القارىء فيتفاعل مع احداثها وينغمس في تفاصيلها يكون لها اثر ايجابي عليه حتى وان لم يكن ذلك هدفه من القراءة!

قيل ان خير جليس في الزمان كتاب، وذلك قول سبق الدراسات والبحوث التي اثبتت صحته بقرون كثيرة، الكتاب، والرواية بالتحديد هي البساط السحري الذي يحلق الانسان على متنه الى عوالم قد يكون الوصول اليها على ارض الواقع مستحيلا، يدخل القارىء الى أذهان شخوصها ويطلع على أدق خلجات نفوسهم. الرواية تلامس الجانب الانساني فينا، وليس من المستغرب ان يتفاعل القارىء مع احداثها حد البكاء او الضحك بحبور، ولا تختلف في ذلك الرواية المكتوبة او المعروضة على شاشات التليفزيون والسينما او حتى الاغاني التي غالبا ما تروي حكاية ما.

تقول كلمات واحدة من الأغاني الانكليزية التي شاعت منتصف القرن الماضي وظلت متداولة لسنوات طويلة:

عليك أن تحلم، اذ لو لم يكن لديك حلم كيف يمكنك أن تحيل الحلم الى حقيقة!

و هل الحلم إلا حكاية ينسجها الخيال والتمني!

العدد108/ايلول 2020