مشاهد السلوك السياسي الخارجي الأمريكي حيال العرب في عام 2043

لقد انصرف مقالنا السابق إلى تناول المشاهد المحتملة للسياسة الخارجية الأمريكية في عام 2043, والتي حددناها بثلاثة مشاهد، هي مشهد العزلة الخارجية النسبية، ومشهد تغليب التعاون على الصراع، ومشهد الانغماس المكثف في التفاعلات الدولية.

وقد انتهى المقال إلى أن عموم السياسة الخارجية الأمريكية قد لا تقترن بتوجه محدد يعبر عن أحد هذه المشاهد وإنما إلى الانطلاق من توليفة مشاهد تختلف نوعية مضامينها باختلاف طبيعة العلاقة الأمريكية مع هذه الدولة أو تلك. فالعلاقة عندما تكون من نوع التعاون أو الصراع أو تجمع بينهما، عندها من المرجح أن تحدد نوعية هذه العلاقة طبيعة المشهد الذي ستقترن به السياسة الخارجية الأمريكية حيال الدولة التي تتبادل الولايات المتحدة العلاقة معها.

وقد كان مقررا أن يتناول هذا المقال كيفية تعامل الولايات المتحدة مع الدوائر الأساسية لسياستها الخارجية في أوربا وأسيا وعالم الجنوب وخصوصا الوطن العربي. ولان الحيز المخصص لمقالنا لا يستوعب مثل هذا التناول الواسع، سنتناول مشاهد السياسة الخارجية الأمريكية حيال الوطن العربي في عام 2043 أولا. وستتم تكملة عملية الاستشراف لهذه السياسة في مقالنا القادم.

عبر تطورها التاريخي منذ عام 1945 صعودا والسياسة الخارجية الأمريكية حيال العرب تتعامل واياهم انطلاقا من ثمة أهداف إستراتيجية واقتصادية وسياسية وثقافية عليا كادت أن تكون ثابتة. وقد عمد رؤساء الإدارة الأمريكية على تحقيقها بغض النظر عن الانتماء الحزبي، سواء الديمقراطي أو الجمهوري، و/أو المؤسساتي (المؤسسة الشرقية أو الغربية). ومرد ذلك يكمن في أهمية الوطن العربي في الأدراك الأمريكي , ودوره في تأمين ديمومة حاضر الدور الدولي الأمريكي ومستقبله، هذا فضلا عن تأثير مقاربة ضمان المصالح الامريكية العليا في الآمن والرفاهية والمكانة الدولية التي أستمر رؤساء الإدارات على الانطلاق منها وتحقيقها, بغض النظر عن تأثير سمات شخصياتهم , وتأثير المتغيرات الداخلية, في قراراتهم .

 لذا يبرز السؤال الآتي: هو، كيف يحتمل أن تتعامل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، حتى عام 2043, مع الدول العربية .

 اننا نرجح أن هذه الإدارات ستعمد إلى الآخذ بنمطين متزامنين من السلوك حيال الدول العربية في أن: الآول: الاول، وسيعمد إلى الاستفادة من تأثير مخرجات الاختلالات الهيكلية العربية في السلوك السياسي الخارجي العربي. أما الثاني، فسيذهب إلى تبني سياسة احتواء الأفعال العربية الايجابية الناجمة عن معطيات عملية التغيير العربي و/أو محاولة التكيف معها.

فأما عن النمط الاول، فنراه يكمن في الآتي، مثلا:

  1. من المرجح استمرار الولايات المتحدة في تعاملها مع الوطن العربي على وفق رؤية فكرية مفادها أنه ليس إلا مجرد تجمع جغرافي لمجموعة دول وليس تجمعا لمجموعة قومية مميزة في خصائصها الثقافية، ومن ثم هويتها. ولهذا ستستمر في تغليب تعاملها الثنائي، على الجماعي، مع الدول العربية. إذ أن مثل هذا التعامل الثنائي هو الذي يسمح أن يكون التعامل الثنائي تعاملا بين طرفين غير متكافئين في قدرتهما على الفعل، وبحصيلة تكون على حساب الطرف الأكثر ضعفا. وهذا يكون بالضرورة الدولة العربية، التي تتعامل معها الإدارة الأمريكية. هذا فضلا عن العمل على افشال المشاريع التكاملية العربية سواء على الصعيد الثنائي، أو الإقليمي، أو القومي العربي، إدراكا منها أن مثل هذه المشاريع جميعا تؤسس  لبزوغ العرب كقوة إقليمية مؤثرة, وهو الآمر الذي تراه الولايات المتحدة يفضي بالحصيلة إلى الاضرار بمصالحها المنشودة في الوطن العربي.
  2. من المرجع استمرار الآخذ بمعيار الاقتراب من الأهداف الأمريكية في الوطن العربي أو الابتعاد عنها أو مناهضتها من قبل الدول العربية، معيارا للتمييز، بين الأصدقاء والاعداء. فأما عن الأصدقاء، فوضعهم سيكون مماثلا لوضع ثمة من يكون طرفا في علاقة غير متوازنة مع طرف أخر. فمثل هذه العلاقة، وإن تتيح للطرف الآقل قدرة فرصة الاستفادة من ثمة منافع يقدمها الطرف الأكثر قدرة، ولكن مقابل ثمن الانسياق وراء مطالب هذا الطرف، وبضمنه حتى أن يكون وكيلا لخدمة مصالحه. والشيء ذاته ينسحب، ضمنا أو صراحة، على جل علاقات الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة. ولنتذكر بهذا الصدد انسياق ثمة دول عربية وراء سياسة السير إلى الحرب الآمريكية مع العراق، ومن ثم احتلاله عام 2003, مقابل ضمان الآمن الوطني لهذه الدول، الذي كان العراق مدافعا عنها وحاميا لها خلال الحرب العراقية- الايرانية.

 وأما عن الدول العربية، التي تصنفها الولايات المتحدة كدول غير صديقة لها، فإنها ستعمد إلى تبني سياسة احتواءها عبر أدوات متعددة, منها مثلا,  فرض العقوبات الاقتصادية عليها, ودعم القوى الداخلية المناهضة لحكوماتها سبيلا إلى أضعافها في مرحلة, ومن ثم استبدالها ,لاحقا, بأخرى تتبنى سياسة الانسياق وراء السياسة الأمريكية. ومن غير المحتمل اللجوء الى توظيف القوة العسكرية لهذا الغرض. فالكلفة البشرية والاقتصادية لهذا التوظيف تحول دون ذلك. والعقل الأمريكي سيبقى يتذكر كلفة غزو العراق واحتلاله عام 2003 والمقاومة العراقية له لاحقا.

  1. من المرجح استمرار تأرجح سياسات الولايات المتحدة حيال الصراعات العربية -الإقليمية بين الانحياز للطرف غير العربي، أو تبني سياسة الحياد المعلن حيال هذه الصراعات، أو دعم الطرف العربي، ضمنا أو صراحة. فأما عن الانحياز للطرف اٌلإقليمي، لنتذكر الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل والممتد في الزمان، ومثاله موقفها حيال حرب تشرين الآول عام 1973, ونقل السفارة الأمريكية من تل ابيب إلى القدس وافتتاحها رسميا في 14 مايس2018, وكذلك تشجيع عملية التطبيع العربي مع إسرائيل.

 وجراء هذا الدعم الممتد زمانا، من غير المحتمل، حتى وإن تم حل الصراع العربي-الإسرائيلي جراء الآخذ بسياسة التطبيع الشامل مع العرب كافة، من غير المحتمل إن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى التخلي عن سياسة ضمان التفوق العسكري الاسرائيلي على العرب. فهذا التفوق هو الذي يؤمن لإسرائيل أمنها الخارجي من تحديات المستقبل.

وأما عن تبني عن سياسة الحياد المعلن، فالسياسة الأمريكية حيال الحرب العراقية-الايرانية (1988-1980) تعبر عنها، كفعل قد يتكرر. فهذه الحرب، التي عبرت في وقته عن ذلك النموذج من تلك الحروب بين دول عالم الجنوب، التي تعمد القوى الدولية المؤثرة إلى تركها، بعد اندلاعها, ممتدة لفترة طويلة, سبيلا لتحقيق  مجموعة تلك المصالح, التي اريد بإدامة الحرب أن تحقق بعضها و/أو توطد بعضها الآخر, هذا على الرغم من إنها كانت تستطيع فضها وعلى شاكلة تلك الحروب الإقليمية السابقة على اندلاعها.

 وقد كانت الولايات المتحدة احدى تلك القوى الدولية، التي لم تتوان عن توظيف هذه الحرب خدمة لمصالح إستراتيجية واقتصادية وسياسية منشودة. فإستراتيجيا، تجسدت هذه المصالح في الحيلولة، أنذاك, دون هيمنة قوى إقليمية مناهضه للسياسة الامريكية , وخاصة العراق أو ايران, على منطقة الخليج العربي, أو كذلك قوة كبرى, وخصوصا الاتحاد السوفيتي, في وقته. وهنا لنتذكر مضمون مبدا كارتر، الذي انطوى على التهديد باستخدام القوة العسكرية ضد كل من اراد الهيمنة على هذه المنطقة.

 أما اقتصاديا، فقد كان ابرزها، في وقته، يكمن في ضمان تدفق النفط اليها والدول الاوربية الحليفة، فضلا عن المصلحة الاقتصادية الكامنة في بيع الاسلحة لكلا الطرفين المتحاربين سواء بصيغة مباشرة أو غير مباشرة.

 أما سياسيا، فالولايات المتحدة كانت واعية أيضا لما تريد: كسب العراق واحتواء التدهور في العلاقة مع إيران بعد احداث 1979 في أن. بيد أنها كانت واعية أيضا لجدوى أن تفضي ديمومة الحرب إلى استنزاف قدرات قوى إقليمية مؤثرة كانت في وقته مناهضه لسياساتها. ومن هنا كان تبني سياسة الجلوس على الكرسيين في أن. وقد ساعد تذبذب ميزان القوى العسكري بين الطرفين في وقته، على تحديد موقفها منهما. فهذا توزع بين تقديم الدعم لاحدهما (العراق)، مع الحرص على إبقاء العلاقة حسنه مع الطرف الثاني ( ايران) في الوقت ذاته.

وأما عن التزام الولايات المتحدة بضمان الآمن الوطني لدول الخليج العربي، فمرده ذات تلك المصالح الإستراتيجية والاقتصادية المدعومة بمخرجات علاقة تاريخية وطيدة الجذور. وعلى الرغم من أن علاقات دول الخليج العربي مع الولايات المتحدة الأمريكية ستبقى على الأرجح وطيدة، بيد أن نوعية هذه العلاقات قد لا تفضي، في حالة اندلاع صراع مسلح بين أحدى هذه الدول وايران, إلى تبني الولايات المتحدة تلقائيا  لسياسة الانحياز إلى جانب هذه الدولة الخليجية العربية أو تلك, ومن ثم قد لا تكون هذه العلاقات الخليجية العربية- الأمريكية الوطيدة حائلا دون تبني الولايات  الأمريكية لثمة انماط من السلوك تختلف مضامينها باختلاف طبيعة علاقاتها السائدة في وقته مع اطراف هذا الصراع. وبهذا الصدد نفترض ثلاثة مشاهد محتملة:

فأما عن المشهد الاول، الذي يتميز، في حالة تبادل الولايات المتحدة علاقات الصداقة مع الطرفين، بالحرص على التدخل، كطرف ثالث محايد، وتوظيف هذه العلاقات سبيلا لتهدئة الصراع أولا، ومن ثم تسويته سلميا لاحقا, عبر صيغة الحلول الوسط. هذا لآن الفشل في حل هذا الصراع أمريكيا سيفضي إلى تدخل أطراف دولية أخرى ذات مصالح مهمة في منطقة الخليج العربي، ومن ثم توظيفها لهذا الصراع لصالحها، فضلا عن أنه سيكون دليلا مضافا على تراجع القدرة الأمريكية على التأثير حتى في تفاعلات اصدقائها، وفي منطقة جغرافية كانت دوما ضمن مصالح الآمن القومي الأمريكي.

وأما عن المشهد الثاني، والذي يفيد بتبادل الولايات المتحدة لعلاقة التعاون مع الطرف الخليجي العربي وعلاقة الصراع مع الطرف الايراني، فإنه ينطوي على تبني اياها لسياسة داعمة للطرف العربي عبر ثمة ادوات، ومنها التهديد باستخدام القوة و/أو استخدامها على نحوٍ منفرد أو جماعي عبر الآمم المتحدة سبيلا لردع الطرف الإيراني.

وأما عن المشهد الثالث، والذي يعبر عن علاقة أمريكية متوترة مع الطرفين الخليجي العربي والايراني، فإنه يكرر ذات المشهد، الذي اقترنت به السياسة الامريكية حيال الحرب العراقية-الايرانية. بيد أن الولايات المتحدة قد تذهب الى ابعد من ذلك، خصوصا عندما تدرك ان ميزان القوة يتجه نحو الطرف الايراني. ففي هذه الحالة قد لا تتردد عن توظيف الاستخدامات المتعددة للقوة العسكرية، ابتداء بالتهديد باستخدامها وانتهاء باستخدامها فعلا، إن استدعت الضرورة ذلك، هذا للحيلولة دون التحكم الإيراني في منطقة الخليج العربي، ومن ثم تهديد المصالح الأمريكية فيها.

وأما عن النمط الثاني من أنماط السلوك الأمريكية حيال الدول العربية، فنراه يكمن أساسا في احتواء الافعال الناجمة عن الاندفاعة العربية نحو التغيير أو التكيف معها. ومثالها الاتي:

  1. من المرجح أن تعمد الولايات المتحدة إلى تبني ثمة افعال ذات مضامين مختلفة ترمي إلى تشجيع بقاء العرب أسرى لمصالحهم القطرية الضيقة، من ثم السلوك الناجم عنها، انطلاقا من إدراكها أن حصيلة الاندفاعة العربية نحو تغيير الواقع العربي نحو الاحسن ستفضي، بالضرورة، إلى بناء قوة عربية إقليمية كبرى وقادرة على التصدي لتلك السياسات الخارجية الساعية إلى الهيمنة على حاضر العرب ومستقبلهم، ومنها الأمريكية. بيد إن نجاح هذا السلوك الأمريكي يتوقف على كيفية قيام الدول العربية الأكثر تأثيرا، ومن ثم الدول العربية الآخرى، بالتعامل معه. وانطلاقا من أن مشهد ديمومة التردي وبداية التغيير لا يلغي بقاء الدول العربية دولا مستقلة ذات سيادة، ومن ثم دولا تتخذ القرارات على وفق متطلبات مصالحها الوطنية، من المحتمل أن يقترن تعامل الدول العربية مع الولايات المتحدة بأحد الاحتماليين:

 فأما عن الاحتمال الآول، فيتجسد في رد فعل عربي شبه شامل ورافض للنزوع الأمريكي الرامي إلى الحد من وتائر تصاعد عملية التغيير العربي. وحيال ذلك، قد تتجه الولايات المتحدة إلى التصلب في مواقفها حيال العرب، أو التراجع غير المعلن تامينا للسمعة الدولية. ولعل من نافلة القول إن اقتران السياسة الامريكية بهذا الاحتمال أو ذاك يتوقف على نوعية الإدراك الأمريكي لمدى الاستعداد العربي للصمود أمام سياسة التهديد والترغيب الأمريكية حيالهم.

وأما عن الاحتمال الثاني، فهو الانسياق العربي وراء السياسة الامريكية، جراء تأثير تلك المدخلات المتعددة, التي كرست علاقة التبعية العربية للولايات المتحدة عبر الزمان.

  1. من المرجح أيضا أن تتبني الولايات المتحدة لسياسة خارجية حيال العرب لا تنطوي على تعطيل عملية التكامل النظامي العربي فحسب، وإنما أيضا على توظيف الصراعات الداخلية في تلك الدول العربية المؤثرة وسواها، التي تعاني من إشكاليات أثنية و/أو دينية-طائفية و/أو اجتماعية-سياسية، سبيلا لإشغالها واستنزافها داخليا، ومن ثم الحد من انغماسها في عملية التكامل العربي. والشيء ذاته ينسحب على تلك الصراعات العربية مع تلك الدول الإقليمية ذات المشاريع القومية المناهضة للتكامل النظامي العربي.
  2. ينطوي مشهد التغيير العربي أيضا على ابعاد خارجية تتجسد في استقلاليه السياسة الخارجية العربية، وبضمنه بناء علاقات وطيدة ومتوازنة مع جل القوى الكبرى التقليدية وتلك البازغة. ولان هذه القوى، ولاسيما تلك التي ستكون في حالة تنافس أو صراع مع الولايات المتحدة، ستسعى بالضرورة إلى بناء علاقات واسعة مع العرب، لأهميتها بالنسبة لها, نفترض, وبأرجحية عالية, أن الولايات المتحدة ستعمد ليس فقط إلى تبني سياسة التهديد والترغيب للحد من تطور العلاقات العربية مع تلك القوى, وإنما أيضا إلى الحيلولة دون أن تكون مخرجات هذه العلاقات مدخلا لتحقيق حالة التوازن في العلاقات العربية-الأمريكية, و/أو أن تكون مدخلا داعما مضافا لتطلع هذه القوى الصعود إلى قمة الهرم السياسي الدولي.

——————

  • أستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات/لندن

.

وقد أدى التفاعل الايجابي للقدرة الاقتصادية لكل من هاتين الدولتين مع تأثير سياسي دولي ينمو إلى أن تتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع كل منهما تعاملا مختلفا.