مناديل الهجرة تلوح من بعيد

جاد الحاج

كلما تأزم الوضع الاقتصادي والسياسي في لبنان خرج ثعبان الهجرة من قمقمه وراح يفحُّ في وجوه الناس الخائفين أصلاً على مستقبلهم ومستقبل أولادهم. هذه المرة كثرت الثعابين ومعها تفاقمت الازمة لتشمل معظم مصادر العيش والأمن ناهيك عن آفاق المستقبل. جاء فيروس كورونا ليزيد بلة في طين التظاهرات والاضرابات والمواجهات العنيفة بين الشارع والسلطة. قيل كثيراً انها  »ثورة« ونشبت مواجهات كلامية على الشاشات وضمن التواصل الاجتماعي بعضها يحيي وبعضها الآخر ينتقد. إلا ان كلمة  »ثورة« لم تناسب الهياج الفوضوي الخالي من اي اثر للقيادة او للقدوة. وقيل ان الثورات تبدأ هكذا. تنطلق من انفجار الاحباط والحرمان والعوز الى تحطيم ما تجده امامها وإحراق ما ليس ملكها. إلا أن  »الثورة اللبنانية« لم تتقدم خطوة واحدة حتى اليوم باتجاه هيكلية منطقية قادرة على مواجهة السلطة إن في الشارع أو في البرلمان أو على حدة من المنبرين، مما يعني أنها – تلك الثورة – لم تبلغ بعد ما يكفي من النضوج لقلب السلطة الفاسدة القائمة منذ اكثر من ثلاثين سنة، علماً ان جذور فسادها موجودة وملموسة منذ عقود طويلة.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو الآتي: هل بدأ اللبنانيون المتضررون من الإضرابات وفيروس كورونا وانفجار المرفأ وتدخل القوى الاجنبية في حاضر ومستقبل بلدهم – هل بدأوا يتحضرون للرحيل في هجرة جماعية واسعة كما حصل إبان الحرب الأهلية الأخيرة والحروب الماضية خصوصاً خلال سنوات القحل والجوع في ظل الحكم العثماني الجائر؟

بالطبع تعطلت إمكانيات الخروج من لبنان بصورة طبيعية بسبب فيروس كورونا. مع ذلك لم تتوقع المصادر المسؤولة في  »المركز اللبناني للهجرة والانتشار« موجة نزوح واسعة باتجاه المَهاجر، لكن بقاء الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على حاله بعد انقضاء الفترة المتأزمة من دون حلول بمقدورها ان ترسي قدراً مريحاً من الاطمئنان لدى المواطنين، إذذاك سوف نشهد، بحسب المركز نفسه موجة عالية جداً من الهجرة حيثما استطاع اللبنانيون ان يهاجروا.

هناك  »هجرات« مختلفة بعضها موقت بهدف الاستثمار في دول تمنح إقامة دائمة أو جنسية بحسب قيمة الاستثمار وأهميته. وهذه  »الهجرة« قد تكون قصيرة الأمد او إن نجحت مشاريعها من البديهي ان يبقى المهاجرون في تلك البلاد نهائياً. بالطبع هؤلاء قلة من المتمولين القادرين على التحرك بطواعية أكبر نسبة الى غيرهم من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. لكن بعض محطات الهجرة المعروفة مثل كندا واستراليا والولايات المتحدة اخذت تفتح مجالات مستجدة لاستيعاب اعداد مدروسة من المهاجرين اللبنانيين. وتلك التدابير معقودة على اعداد كبيرة من المهاجرين العرب الذين وصلوا الى البلاد المذكورة وقد انغلقت خلفهم ابواب الرجوع.

عراقيون وسوريون وصوماليون وسودانيون وصلوا الى المهاجر الجديدة تحت رعاية الأمم المتحدة وضمن برامج استيعاب شاملة هدفها التأسيس لبقائهم الدائم. والواقع ان وجود اعداد كبيرة من المهاجرين العرب والآسيويين في استراليا ونيوزيلاندا وكندا والولايات المتحدة أدى الى ظهور اشكالات عرقية واجتماعية ودينية لم تكن في حسبان الاجهزة التي صممت برامج وجودهم واستقرارهم وانضمامهم الى أوطانهم البديلة. وهذا بالطبع سوف يؤثر سلباً على امكانيات النزوح اللبناني المتوقع في حال فشلت كل محاولات استيعاب الحالة المزرية القائمة حتى اليوم.

العدد109 /تشرين2020