موسم التطبيع مع إسرائيل.. هدايا مجانية للاحتلال ولا عوائد واضحة للمطبعين

عمر مخفي

يحب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يغسل ثيابه المتسخة في واشنطن. الأمر ليس نكتة أو تجنيا، ولا حتى تعبيرا مجازيا عن الغطاء الأمريكي الجاهز لتبييض صفحة جرائم الاحتلال ودعم قراراته غير الشرعية. هو خبر نشرته صحيفة  »واشنطن بوست« بكل رصانتها وفصلت فيه كيف يستغل نتنياهو بشكل متكرر استضافة الأمريكيين له لإحضار حقائب مكدسة بثيابه الوسخة، يتكفل مسؤولو بيت ضيافة الرؤساء ـ على مضض ـ بغسلها وكيها على حساب دافع الضرائب الأمريكي.

وقد سبق لنتنياهو أن خاض في سنة 2016 معركة قانونية  حسمها القضاء الإسرائيلي لصالحه ـ ضد من يطالبون بنشر فواتير غسل الثياب التي يتحملها مكتب رئاسة الوزراء. ولولا أن تحت الأكمة ما تحتها، لما كان نتنياهو تجشم

اتفاقيات التعاون الإماراتية مع إسرائيل شملت كيانات تضعها الأمم المتحدة على قائمتها السوداء

هذا العناء القانوني، هو الذي لا يحب كثيرا زيارة مكاتب المدعي العام بسبب قضايا الفساد المتعددة التي تلاحقه والتي تهدد مستقبله السياسي.

غسالة التطبيع

لم يتغير الأمر كثيرا عندما طار نتنياهو إلى واشنطن منتصف شهر أيلول/سبتمبر للتوقيع على اتفاقيتي التطبيع مع كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين. فقد اصطحب ـ والعهدة على الصحيفة الأمريكية ـ عدة حقائب من الثياب التي تحتاج للغسيل بمعناه المباشر، لكنه حمل معه أيضا ما يحتاج إلى الغسيل السياسي والأخلاقي: عقود من الاحتلال والاستيطان وقضم الأراضي والحصار والتمييز وهضم حقوق الفلسطينيين، فضلا عن اسمه الملطخ بتهم الفساد.

من على حديقة البيت الأبيض، تابع العالم المراسم  »التاريخية« للتوقيع على اتفاقيتي التطبيع، أو اتفاقي السلام كما اختار الموقعون تسميتهما. كان يوما مشمسا يصلح لنشر الغسيل يقول أحد الظرفاء. لكن الموقف أبعد ما يكون عن الظرف.

فقد اختير عنوانا لهذه الصفقة  »السلام مقابل السلام«، أي السلام دون الحديث عن أي من الأسباب التي جعلته غير ممكن في الماضي، وبصيغة أوضح السلام للمحتل مقابل لا شيء لذوي الحقوق.

رمل في الذاكرة

نتنياهو غير المعادلة من »الأرض مقابل السلام« إلى »الأمن مقابل السلام« ثم إلى »السلام مقابل السلام« (من مفاوضات »واي ريفر« 1998)

احتفى نتنياهو بتجميع أربع اتفاقيات سلام مع العرب بعد اتفاق كامب ديفيد مع مصر سنة 1979 واتفاق العربة مع الأردن عام 1994، وبشر بالمزيد في قادم الأيام. وسقط سهوا من حساباته وحسابات مضيفيه الأمريكيين وشركائه الجدد من العرب اتفاق سلام خامس وقع مع الفلسطينيين على نفس حديقة البيت الأبيض بفارق 27 سنة. الاتفاق الذي وصف حينها بـ  »سلام الشجعان« لم يتبق منه اليوم عمليا سوى صور تذكارية للمصافحة الشهيرة بين الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ووزير خارجيته شمعون بيريز تحت أعين الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون.

في وقت السلام المجاني لا أحد يرغب في استحضار اتفاق ينطوي على مقابل: إجراءات بناء ثقة والتزامات مرحلية وخارطة طريق تفضي لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة. فذلك الاتفاق ـ على علاته والمؤاخذات التي يراها كثيرون عليه  كان قد بني على أساس مبدأ بات اليوم غائبا مغيبا، ألا وهو مبدأ  »الأرض مقابل السلام«.

ينسى كثيرون أو يتناسون أن ذات الاتفاق كان في صلب الحملة الانتخابية لسياسي إسرائيلي شاب وعد بالتراجع عن مقتضياته إن هو وصل لسدة الحكم. وقد فعل عندما مالت كفة الانتخابات لصالحه في مايو/أيار 1996 وجعلته أصغر رئيس وزراء في تاريخ دولة الاحتلال. لم يكن ذلك السياسي  لسخرية القدر ـ سوى بنيامين نتنياهو الذي سارع إلى إرساء معادلة جديدة للتفاوض مع الفلسطينيين تقوم على  »الأمن مقابل السلام« بدل  »الأرض مقابل السلام« في اتفاقية  »واي ريفر« التي وقعها مع ياسر عرفات عام 1998. وها هو اليوم يتباهى اليوم علنا أمام ناخبيه بمعادلته الجديدة  »السلام مقابل السلام« التي تجلب التطبيع بأبخس الأثمان.

وصفة مجربة

قبل أن يجف الحبر الذي وقع به اتفاقا التطبيع، أكد نتنياهو أنه لن يتراجع عن ضم أراض في الضفة الغربية المحتلة. وهو  »المقابل« الذي قالت دولة الإمارات بداية إنها حققته لصالح الفلسطينيين. ثم ما لبث أن سقطت فلسطين وقضيتها من سردية تبرير التطبيع، وتركز الحديث على عوائد إيجابية محتملة للبلدين في سياق ثنائي خالص. عوائد يقول وزير الاقتصاد الإماراتي عبد الله المري إنها ستشمل كذلك الفلسطينيين، ولكن دون أن يوضح كيف سيتحقق ذلك.

والحقيقة أن من يركن لإسرائيل وينتظر المقابل منها سيكون مفرطا في التفاؤل إن لم يكن واهما. ويكفي القيام بجرد لما جنته مصر والأردن من سلامهما مع إسرائيل للوقوف على هزالة الحصيلة. فللإسرائيليين الذين خبروا في اتفاقاتهم السابقة كيف تؤتى الكتف دون اكتراث لما يمكن أن ينوب شركاءهم في السلام من فضلات، وصفة مجربة في أخذ كل شيء مقابل لا شيء أو القليل الهزيل. وصفة  »تشتري بالدين وتبيع نقدا« لأنها لا ترى أنه من الضروري أن تؤمن بالسلام أو تعمل من أجل تحقيقه، بل يكفي ادعاء ذلك.

لقد ساهمت اتفاقات أوسلو واتفاقية العربة مع الأردن تحديدا في تحسين صورة إسرائيل في العالم بشكل ملموس. فحلت محل صورة المغتصب للأراضي والمعتدي على الحقوق والمنتهك للقوانين والمواثيق الدولية، صورة الجار الباحث عن سبيل لحل المشاكل مع محيطه والتعايش مع جيرانه. لم تعد دولةَ الأبارتهايد المنبوذة، وأصبحت الشريكَ المحتمل، بل والصديق المهدد في أمنه واستقراره. وفي غضون ربع قرن من اتفاقات الحبر على الورق، وسعت إسرائيل شبكة نفوذها الديبلوماسية لتقيم علاقات مباشرة مع أكثر من 160 بلدا مقابل حوالي 90 فقط في بداية التسعينيات. وقد تباهى نتنياهو قبل سنتين بهذا الإنجاز الذي يسميه  »التغيير العظيم الثالث« في تاريخ إسرائيل قائلا إن  »الدول التي كانت تحاصر إسرائيل أصبحت هي المحاصرة الآن«.

أبعد من التطبيع

باختصار، ترى إسرائيل في أي تقارب مع العرب مناسبة لتعزيز مكاسبها السياسية والتجارية في العالم ككل وإسقاط ذرائع المنتقدين لها وضمهم إلى دائرة أصدقائها، وبالتالي إلى قائمة شركائها التجاريين المحتملين. حدث ذلك في إفريقيا وأمريكا اللاتينية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ومع العرب أنفسهم حين استقبلت عدة عواصم مكاتب التمثيل التجاري الإسرائيلية في أعقاب اتفاقات أوسلو. كل ذلك دون أن يَفيَ الإسرائيليون بحرف مما التزموا به.

ولا شك أن هذا المقاربة كانت حاضرة أيضا في أذهان الإسرائيليين وهم يعملون سرا منذ سنوات على توطيد علاقات التعاون مع دولة الإمارات قبل أن يخرجوا بها إلى العلن هذا الصيف. فالإمارات بوابة مهمة للتجارة العالمية، تستورد سنويا نحو 250 مليار دولار من البضائع وتعيد تصدير 90 في المئة منها إلى دول العالم. وتعد دبي واحدة من أهم ثلاث منصات لإعادة التصدير مع سنغافورة وهونغ كونغ، وتوفر مدخلا لوجستيا جاهزا وذا مواصفات عالمية نحو أسواق ناشئة كثيرة. كما أن مطاري دبي وأبوظبي يعدان من أهم نقاط عبور الطيران المدني وقد يساهمان في جلب آلاف السياح لإسرائيل ويعززان بالتالي حضورها في سوق السفر العالمية.

بريق في عيون طامعة

بهذا المنظور، تعتبر إسرائيل دولة الإمارات مهمة بالنسبة لها كبوابة نحو مجالات حيوية، تجارية وسياسية، أوسع. لكن الإمارات مهمة كذلك لذاتها باعتبار سوقها النهم للأسلحة وبرمجيات المراقبة والتجسس، فضلا عن سيولتها الفائضة التي تبحث عن فرص استثمارية ترى إسرائيل نفسَها أحق بها في الظرف الاقتصادي العصيب الذي يمر به اقتصادها.

ولهذه الأسباب مجتمعة يختلف اتفاق التطبيع الإسرائيلي مع الإمارات عن نظيره مع البحرين. فأهمية التطبيع مع الأخيرة تكمن في أنه لا يمكن أن يتم إلا بضوء أخضر سعودي، وبالتالي فإن الاتفاق مع المنامة يعد بمثابة مقبلات على طاولة التطبيع التي تنتظر أكثر أطباقها دسما: السعودية.

وفي انتظار التحاق الرياض بركب التطبيع أو تأكيد التخلف عنه، تعرف إسرائيل جيدا ما الذي يمكنه أن تكسبه تجاريا من علاقتها مع الإمارات. فهي تتعامل معها تحت الطاولة منذ أعوام وتبيعها سنويا 300 مليون دولار كحد أدنى من البضائع والخدمات (مليار دولار وفق تقديرات للقناة الإسرائيلية 13). وتسعى أن ترفع هذه الفاتورة إلى أربعة مليارات دولار في فترة قصيرة بناء على معرفتها بحاجاتها. وتتوزع مجالات التعاون المحتمل كما يعددها اتفاق التطبيع بين قطاعات الزراعة والمياه والطاقة والتقنيات الحديثة والبحث العلمي والأكاديمي والسياحة والأمن المعلوماتي وغيرها. وأغلبها قطاعات تقع الإمارات على طرف الاستهلاك منها بينما تفرك الشركات الإسرائيلية أيديها استعدادا لصفقات مجزية مع زبون ذي ملاءة مالية. ذات الملاءة المالية التي تلمع لها أعين الإسرائيليين ويرى بعضهم أنها قد تكون قبلة حياة لاقتصاد يعاني من ضيق في التنفس بسبب جائحة فيروس كورونا.

سلاح للبيع

غير أن إسرائيل تدرك أولا وقبل طل شيء نهم أبوظبي للسلاح، وتنوي بيعها الكثير منه. ويرى المطلعون على خبايا الأمور أن الضجة المفتعلة حول اقتناء الإمارات للمقاتلات الأمريكية المتطورة إف.35 وتحفظات إسرائيل على الصفقة لم تكن في الواقع إلا وسيلة لتحسين وضع إسرائيل التفاوضي للحصول على نصيب من كعكة بيع السلاح مع الإبقاء على تفوقها العسكري النوعي في المنطقة.

لتمرير الصفقة، طالبت إسرائيل بأمور عدة أولها إعطاءها مساحة لإبداء الرأي في مواصفات المقاتلات التي ستسلم للإمارات، ومن ذلك تجريدها من أهم ميزاتها القتالية  »الشبحية« وجعلها مكشوفة للرادارات الإسرائيلية. إضافة إلى تزويدها بأنظمة دفاعية أمريكية متطورة لم تدخل بعد ترسانتها. وتطالب إسرائيل كذلك بضوء أخضر أمريكي كي تبيع أبوظبي أنظمة قتالية طورتها بالشراكة مع الأمريكيين ومن بينها طائرات بدون طيار متطورة.

كل هذا، وإسرائيل تشحذ منشارها وتجهزه لالتهام أجزاء من صفقة إف. 35 صعودا أو هبوطا. فهي تضغط لإعطاء شركتها للصناعات الفضائية الحق الحصري في  إنتاج أجنحة المقاتلات، كونها واحدة من ثلاث شركات متعاقدة مع لوكهيد مارتن، مالكة الطائرة، للقيام بهذه المهمة.

قسمة ضيزى

كل ما سبق يؤكد أن إسرائيل هي الرابح الأكبر  في اتفاق التطبيع. فهل للإمارات نصيب منه أم أنها قسمة غير منصفة؟ الواقع أنه لا يوجد ضمن قائمة البضائع والخدمات التي تقترحها إسرائيل على أبوظبي ما هو حكر عليها دون غيرها وإن كانت متفوقة في بعضها. فبإمكان الإمارات أن تقوم بكل ما تنوي ما تنوي القيام به من تعاون تجاري أو بحثي أو أمني مع إسرائيل مع دول متقدمة أخرى دون الحاجة إلى الخروج عن المبادرة العربية للسلام، وتوزيع الهدايا الانتخابية المجانية على تل أبيب وواشنطن، وتقديم هذه الصورة المتهافتة عن تصورها للسلام. بل كان بإمكانها  من باب أضعف الإيمان ـ الاستمرار في اقتناء برمجيات المراقبة والتجسس سرا من إسرائيل كما فعلت طوال سنين (وكما تفعل دول عربية أخرى ترفض التطبيع العلني) لتخطي العقبات  »الأخلاقية« التي تضعها بعض الدول الغربية أمام بيع تلك البرمجيات لأنظمة غير ديموقراطية.

وماذا بعد؟ هل الإمارات بحاجة إلى بضع آلاف من السياح الإسرائيليين بينما يزورها الآلاف منهم فعلا بجوازات غير إسرائيلية؟ وهل للإمارات مشكل في تصريف نفطها حتى تهرع إلى السوق الإسرائيلية التي تستهلك ربع مليون منه يوميا فقط؟ بل إن صفقات النفط، البضاعة الوحيدة الحقيقية التي تملك الإمارات بيعها لإسرائيل، ستكون في حال تنفيذها خدمة لأجندة إسرائيلية تسعى للتخفيف من وطأة الضغوط الإيرانية والتركية على مصدرها الرئيس من البترول، وهو إقليم كردستان في العراق.

أحشفا وسوء كيلة؟

ليس هنالك من حاجة ماسة أو ملحة حقيقية لدى الإمارات لتبرير اتفاق التطبيع اقتصاديا بعدما فشلت في أول يوم لإعلانه في تسويقه سياسيا. وليس هنالك بالتأكيد ما يبرر كل هذا الحماس الزائد في تدبيج الاتفاقيات الثنائية ومذكرات التفاهم والصفقات. حماس يكاد يصل حد التهافت الذي لا يراعي الحد الأدنى من المبادئ في التعامل التجاري مع كيان محتل، كما تقوم بذلك دول تصادق إسرائيل لكنها لا تعطيها شيكا على بياض.

ففي فورة الحماس التطبيعي الإماراتي، تعاقدت شركات ومؤسسات إماراتية مع نظيرات لها إسرائيلية تضعها الأمم المتحدة على قائمتها السوداء للشركات التي تدعم الاستيطان فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهو ما تحجم عنه كثير من الشركات الدولية تحسبا لأي ملاحقات قد تُجر إليها في سياق تحقيق جنائي بارتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية تدرس محكمة الجنايات الدولية إمكانية إطلاقه.

ومن تلك الشركات بنكا  »هبوعليم« و »لئومي« المنخرطان في أنشطة مصرفية تعتبرها مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان من مسوغات الإدراج على القائمة السوداء، من قبيل تقديم التمويل للمساعدة على  »تطوير المستوطنات أو التوسع فيها أو صيانتها«، و »تقديم القروض من أجل الإسكان وتطوير مؤسسات الأعمال«.

قد يكون التطبيع كما أقدمت عليه الإمارات والبحرين مجرد  »وجهة نظر« كما في القولة الشهيرة لرسام الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي. لكنها وجهة نظر لا تملك مقومات الإقناع على افتراض أنها تستحق الاحترام.

العدد109 /تشرين2020