وجع رمضان في غزة

          يبدو أن اللغة العربية على ثرائها لم تخترع بعد وصفا يليق بفداحة ما يحدث في غزة ، كيف يمكن جمع الإبادة والمجاعة والهروب من الموت للموت في كلمة واحدة ؟ ما حدث ويحدث اكبر من كارثة وأكثر هولاً من مأساة وأصعب على البشر المحطمين من قدرتهم على التحمل فالمناشدات التي تصدر عن الناس تقطع القلب فقد تحولت من صراخ الألم  الصاخب إلى نواح خافت بعد أن استسلمت الناس لأقدارها وهي تشاهد عجز الكون عربا وعجما ومسلمين ومن كل الديانات يتفرجون على مأساتها كمن يتسلى بأحد أفلام هوليود العنيفة .

                آخر ما تفتق عنه العقل الإسرائيلي الذي يتسيد التعذيب متلذذا في قتل عشرات الآلاف ليشبع غريزة كراهية الفلسطيني هكذا تشي صور الفيديوهات التي ينشرها جنود اسرائيليون في غزة وهم يهتفون بفرح ونشوة التدمير والقتل لكن لم يتصور أحد من الغزيين الذين كتب عليهم ما لم يكتب على الذين من قبلهم لم يتصوروا أن تصل السادية الإسرائيلية حد صناعة المجاعة ولم يتصوروا في أسوأ كوابيسهم أن يشاهدوا العالم الذي يهرع عندما تحدث مجاعات في العالم بفعل الطبيعة أوالجفاف أن بقف هذا العالم متفرجاً فالصور الصادمة للطفل يزن الكفارنة الذي تحول إلى هيكل عظمي و مات جوعا لن تغادر الذاكرة الإنسانية بل تصلح لمحاكمة ضميرها غير الحي .

                  رمضان في غزة له طعم مختلف شديد المرارة هذا العام على الغزيين الذين يتضورون جوعا بكل ذلك الفقر الذي رافق رحلتهم الكئيبة وبكل فائض الألم الذي أصبح رفيقاً ملازماً لهم منذ ستة أشهر حين فتحت اسرائيل كل مخازن النار ضد هذه المنطقة الفقيرة أصلا ودمرت كل بنيتها الصناعية والزراعية لكن والأهم هي رحلة النزوح وإرغام الناس على ترك بيوتها ومدخراتها وما تملكه من بقايا طعام لتكتشف غزة في اليوم الثاني للحرب أن لا شيء تأكله ولنا أن نتصور كيف مضت الأشهر الستة التي تساوي بالتقويم الغزي ست سنوات أو ستة عقود أو ستة قرون من القهر الذي حمله الرجال والنساء في صدورهم والأطفال في قلوبهم وعلى ملامحهم .

                  غزة ذات الثلاثمائة وستين كيلو متر مربع يقطنها  مليونين وثلاثمائة ألف نسمة ..كيف ؟ قد يستغرب من يقارن صغر المساحة بكثافة السكان وكيف يتكدسون ولكن وجه الغرابة الأكبر بأن هذه المنطقة الصغيرة تركت ما يشبه كيلو متر عرضي على امتداد طولها الذي يبلغ حوالي أربعون كيلومتر كمنطقة زراعية ووجه الغرابة أن هذه المنطقة الصغيرة تكتفي ذاتيا من الزراعة فهذا الكيلومتر الحدودي بطول أربعين كيلو متر يسد كل احتياجات السكان من كل الخضار بحيث لا تستورد غزة المحاصرة أي نوع منها لكن الأشد غرابة أن غزة العجيبة تتمكن من أنتاج ما يفيض عن جاجتها في هذا الشريط الضيق ليصل الأمر حد التصدير فهي تزود الضفة الغربية واسرائيل بالطماطم التي تزيد عن حاجة أهلها وبالتوت الارضي الذي تشتهر به بلدة بيت لاهيا الشمالية تلك واحدة من معجزات غزة .

                كل هذا انتهى فقد جرفت اسرائيل كل تلك المنطقة وداستها بالدبابات بعد أن أشبعت تربتها بسموم القنابل وتم احتلالها ومنع الناس من الوصول إليها حرمت الناس في هذه الحرب من الحصول على الغذاء ومع الحصار الشديد ومنع ما يمكن أن ياتي من الخارج إلا بالتقطير بضغوطات هائلة لا يكفي أي شيء ومع أزمة التوزيع دخلت غزة مجاعة لا مثيل لها تكثفت في المنطقة الشمالية شمالي وادي غزة الذي يقسمها نصفين بعد أن طالبت الناس بالرحيل جنوب الواد ومن تبقى هناك كان يموت جوعاً .

               أكلت الناس كل شيء ، أوراق الشجر علف الحيوانات وعلف الأرانب الذي حاولوا هناك تحويله إلى خبز كانت رائحته شديدة الكراهية قاسيا ومر الطعم ولكنه مع الوقت نفذ وأخذت الناس بالمناشدة بعد أن تضاءل وزنها وفقد البالغين هناك ما يقارب من ثلاثين كيلو من أوزانهم وهزلت أجسادهم وتلاشت أرواحهم في رحلة العدم وهم يبحثون في الارض عن أي شيء يسكت ألم جوع أطفالهم وسط الهروب من الصواريخ فقد امتزج الالم والخوف في لحظة تاريخية هي الأشد قسوة بين ركام البيوت وبقايا الأبنية التي دمرت جميعها حيث يعيش الناس بين ذلك الحطام يلفون جزء من أطرافها بقطع من القماش وسط شتاء غزة شديد البرودة أما من هم ممن نزحوا في الجنوب فقد سكنوا في خيام أشد برداً .

              رمضان لا يشبه ما مر على قطاع غزة من مثيلاته السابقة فغزة الصغيرة لم تصبح مدينة بالمعنى المديني منذ نكبة الشعب الفلسطيني قبل سبعة عقود ونصف فقد تحولت بفعل استقبالها للاجئين إلى مخيم لاجئين كبير وظلت محتفظة بسمات تجمع بين المخيم والقرية بإعتبار أغلبيتهم هاجروا من القرى المجاورة وظلوا يحتفظون بسمات القرية وثقافتها ما يعني أن لطقوسها ميزة خاصة ورمضان واحدا من تلك الأشهر والمناسبات التي تتميز بنكهة خاصة لمجتمع شديد التداخل والتقارب التماسك القروي حيث كانت الناس تبدأ بتزيين واجهات بيوتها بالألوان وتعليق فوانيس الإضاءة قبل وصوله وأثناء الشهر .

             كانت الأسواق تمتلئ بما يتم زراعته من خضروات تمهيداً للشهر الروحاني الذي تتزين بها موائد الصائمين بكل ما ادخروا له على مدار العام في بيوتهم وسط السكينة النفسية والعلاقات الإنسانية والإجتماعية التي تتزايد في الشهر الفضيل بعد الإفطار العائلي أو الإفطارات الجماعية التي اعتاد الغزيين على القيام بها كجزء من عاداتهم الدينية والإجتماعية التي تكمل طقوسهم الجميلة التي يمارسونها بسعادة غامرة .

                  كل هذا انقلب فجاة وجاء رمضان مرتديا ثوب الحزن حاملا ما يفيض من الوجع الذي يكفي ليغطي الأمة الإسلامية بدولها السبعة وخمسين التي تتسحر وتفطر وتصلي وترفع أكفها بالدعاة بنصرة الأمة مثل كل السنوات السابقة لكنها عجزت عن نصرة شعب مكلوم في غزة فقد سقطت في اختبار الإسلام وجدارة أمانتها بالرسالة فقد كانت غزة اختبارا ليس فقط للقيم وللأخلاق في العالم بل كانت اختبارا للأيدلوجيات والأديان التي اقتتل الناس من أجلها ودفاعا عنها لكنها وقفت عاجزة عند بوابات غزة .

                الغزيين البسطاء متدينون بطبعهم ورغم الالم الكبير والجوع القاتل إلا أنهم يصومون رمضان بعد أن أجبرتهم اسرائيل على الصيام لأشهر طويلة ، الصيام القهري والقسري المغمس بالقهر والحرمان من الغذاء بأجسادهم الهزيلة غير القادرة على مزيدا من الجوع الديني ولكنهم كعادتهم مستعدون للموت من أجل أفكارهم التي يدافعون عنها فقد تساقطت أعداد من الناس جوعا قبل أن يبدأ شهر رمضان .

              في خيام النزوح وطقوس الحزن التي استوطنت غزة وعلى الكفاف المغمس بالقهر والوجع يتسحر الغزيون في ليالي رمضان الكئيبة في بلد حرثت الطائرات الإسرائيلية أرضها وروحها ونزعت منها الحياة ، يصومون وهم الصائمين جوعاً لأشهر قبل رمضان ذلك الجوع أو المجاعة التي فعلتها اسرائيل متحدية كل العالم الذي لم يستطع في لحظة أن يدخل كيساً من الدقيق أو كسرة خبز حتى وأصيب بالعمى والخرس وهو يشاهد مناشدات أطفال وهم يبكون جوعاً دون أن يرف له جفن أو يتفقد أخلاقه ودينه أو انسانيته .

               مسكينة هي تلك الأمة الإسلامية التي لا تملك سوى الدعاء الهزيل أمام محرقة إبادت جزء منها في منطقة فقيرة فقد اكتشفت هذه الأمة ضآلة حجمها وقيمتها ووزنها في واقع التوازنات الدولية وانكشفت كأمة في ذيل الأمم لا تملك سوى الكلام تواسي به نفسها وتعيد انتاج الكلام تعويضاً عن فعل هي أكثر عجزاً عن ممارسته ففي كل حادث تنكشف أكثر وتطيح معها بالأمة العربية وجاءت غزة هذه المرة وجاء رمضانها الحزين ليزيد من عري الأمتين حاملاً ما يكفي من الأسى لأتباع الديانة التي تمارس طقسها على وقع بؤس غزة وجرحها العالي الذي كشف كل تلك الهشاشة .

                لم تكن حملة الإبادة والترويع التي اكتملت بحملة التجويع إلا للقضاء على هذه المنظقة فقد عمدت القوة التي تقوم بكل ذلك على اعدام الحياة في غزة بهدف تصفية سكانها وتهجيرهم كما تجربة القبائل الأصلية في الولايات المتحدة التي تمت تصفيتها بالقتل والتهجير استخدمت خلالها أصعب أنواع الترويع والتجويع كأن التاريخ يعيد نفسه لدى المستوطنين فقد استخدم الجوع سلاحا على طريق تحقيق الهدف التطهيري الإنتقامي .

                 رمضان في غزة شديد القسوة يحمل كل هذا الوجع ، المواد الغذائية شحيحة بعد أن اعتاد الناس على فائض الأشياء في رمضانات سابقة وإذا وجدت فالأسعار تضاعفت بما يعادل خمسة عشر ضعفا في معظم المواد وتتكثف الأزمة أن لا مال للشراء لقد فقدت الناس مصادر دخلها وأفلست مبكرا فمن كان لديه بعض فائض المال نفذ منذ الاسابيع الأولى واطصف في طابور الفقراء إذ تساوت الناس في الفقر حتى الإغنياء وجدوا أنفسهم مشردين بلا بيت أو دخل أو أي شيء وأمام هذا الواقع لنا أن نتصور كيف يجد الناس ما يسد رمقهم سحورا وفطورا تخيم عليه مناخات القهر والذل والبؤس .

                   كان رمضان وكانت غزة وكانت حياة كانت أسر سعيدة قبل أن يتحول أفرادها بين شهيد ضاع في الطرقات وتحت المباني وشريد هرب من بيته تحت القصف ونزح مرات ومرات قبل أن تستقر به الحياة في خيمة ليست الأخيرة في رحلة النزوح التي لم تنته بعد وتفتح على مستقبل مجهول مغمس بكل ما عجزت اللغة عن توصيف هذا الكابوس الذي جمع كل كوابيس الحياة والموت دفعة واحدة وألقاها في وجه الغزيين المساكين الذين وجدوا أنفسهم وحيدين في أصعب لحظات حياتهم فقد تخلى عنهم الجميع واكتشفوا أنهم يتامى بعد أن ظنوا أن لهم أب وأم …وأمة … بل أمتين .