الفلسطينيون بين دمائهم النازفة.. وبين رفاهية الأحكام المبتسرة التي تطاردهم

معركة الكرامه
خاضتها المقاومة الفلسطينية مع القوات الاردنية
مارس عام 1968

أمين الغفاري

لأننا نعيش زمن الغربة والاغتراب، فينبغي ان لايدهشنا شيء، حتى وان كان ما نقرأه يؤذي اعيننا، وان ما نسمعه يروع اسماعنا. علينا ان نغالب انفسنا، فلا نرتاع، ولا حتى نقلق، فطبيعة الزمن الذي نحياه، من شيمها قلب الصور، ومن طبائعها تشويه المواقف وعلينا ان نسلم بأننا نعيش الزمن الصعب أو بمعنى أكثر دقة الزمن المر. شعب فلسطين الذي يكتوي بالنار ليله قبل فجره، ومساه قبل نهاره. الشعب الذي سرق منه وطنه، وأصبحت خيامه هي منازله، والأرض بترابها هي فرشه ووسادته، تتساقط منه الضحايا كما تتساقط أوراق الخريف بلا ضجة، ولارنين. هو نفس الشعب الذي يتهمه البعض بأنه يريد ان يرهن مستقبل أي علاقة عربية مع إسرائيل وفق (المزاج) الفلسطيني الذي ينطلق من حسابات فلسطينية، ولئن يرتهنوا (لمزاج) رام الله وغزة، وتلك في تقديرهم قاعدة باتت متقادمة. أي أن الشعب الفلسطيني ليس صاحب قضية، وانما هو صاحب (مزاج) ينطلق من حسابات خاصة، ويريد ان يجر الأمة العربية معه حيث (مزاجه) ذو الحسابات الخاصة الفلسطينية. هل يمكننا أن نمضي مع ذلك التحليل إلى مداه، أم أنه

مؤتمر الخرطوم (اللآت الثلاث) لاصلح لا اعتراف لا تفاوض اغسطس عام 1967

تحليل ذو (مزاج شخصي) ورؤى (ذاتية) محضة، فهو يتناقض ببساطة مع الأبجديات الأولى للقضية الفلسطينية، أنها بالتأكيد قضية يتداخل فيها (الخاص) مع (العام) إلى حد التطابق وحين أذكر (الخاص)، فالمقصود أنها فلسطينية، بنفس قدرها (العام) كونها عربية، فالمصير مشترك، اذا تذكرنا ذلك ولم ننس أو نتغافل اننا عرب، وعلى ذلك فأن فلسطين قضية عربية بنفس قدرها كقضية فلسطينية. وحدة المصير التي ترتبط بوحدة الأرض والتاريخ، هي التي حددت المفهوم القومي للمنطقة العربية، لمصالحها وكذلك لأمنها، والتي جرى تشكيل تنظيمي لها يعبر عن مشاكلها وهمومها اسمه (جامعة الدول العربية) وارتضي الجميع ميثاقها مع ما كل ما فيه من مثالب وعيوب. نرجو الله ان يحفظها حتى لا ينفرط عقدها، وهي ما زالت رغم خيطها الرفيع الرقيق الحاضنة الأخيرة للنظام العربي.

علاقة الزمن بتقدم الأمم

يروق للكثيرين العودة لبعض المعايير التي تمرست الشعوب من خلالها في عمليات التطور والتجديد والابتكار والاكتشاف بما يعد سبقا وانجازا، وهنا تعتبر الخبرة التي تستند إلى التجربة والاختراع من أهم عوامل التقدم للأمام، وتتشكل تبعا لذلك مجموعة من القيم الجديدة كالتخطيط، والتصنيع واعلاء قيمة العمل عن التواكل أو التراخي في أداء الواجبات نحو النفس والمجتمع والوطن. عنصر الزمن هنا يعطي ثراءا للفكر واستنهاضا للهمم، ولكن ذلك شيء يختلف تماما عن الوقائع والاحداث التي تمر بها بعض الأوطان، وتتعرض من خلالها للسطو بل والإغتصاب والسرقة، بما يعد واقعا جديدا تتعرض له، خصوصا إذا تعاقبت السنون عليه، ومضى بحكم الزمن تاريخا. هل يمكن هنا ان نتجاوز ونتسامح في سرقة الأوطان، كما يقول بعض الناس (ان الدول المطبعة مع إسرائيل تعتبر ذلك شأنا سياديا يتخذ بمعزل عن الرؤية الجماعية العربية وخصوصا عن (الرؤية الفلسطينية)، فان صاحب القرار الفلسطيني لم يقرأ جيدا هذا التحول وما زال يغرف من بضاعة كاسدة يعود عبقها إلى زمن آخر) ثم يستطرد (الاعتراف بالزمن هو سر تقدم الأمم). لو كانت إسرائيل تتبع تلك الرؤية الساذجة، وهي التي اندثرت قبل ثلاثة آلاف سنة، ما كانت قد دعت وجندت وتحالفت مع قوى استعمارية لكي تعود لتغتصب أرضا وتطرد شعبا يقطن في ارجاء ذلك الوطن قبل ان توجد هي أساسا، ولكنه العمل الذي لا يقدر عليه ذوي الهمم الضعيفة.

علاقة الأعتراف بالزمن كسر للتقدم

علينا ان نعترف أن في كل زمان تتردد نماذج من تلك الأصوات التي نعتبرها نشازا عن عقل الأمة ووجدانها، لأنها باختصار تتنكر لما سبق وان تعاهدت عليه الأمة، يوم ان وقعت ميثاقها العربي  رغم مثالبه ـ ولم يتخلف أحد، وارتضت ان يكون لها تنظيما اقليميا ينظم علاقاتها، ويطور من شأن معاملاتها، ويقوي دعائمها في مجالات متعددة شملها الميثاق من تعليمية إلى ثقافية إلى تجارية واقتصادية ، سرعان ما ضمنه ايضا اتفاقية للدفاع المشترك، تسهر على أمنها وتراعي أسس حمايته، ولم تكن تلك بضاعة كاسدة، بل رأينا في نكسة عام 1967 ان تضافرت كل الجهود العربية، والتحمت في اللاءت الثلاث، بل وافاق على المساندة المادية والعسكرية، بحيث تكون المعركة في اطارها القومي، وتكرر الأمر في حرب أكتوبر 1973 أن هبت الأمة كلها وتعانق السلاح مع الاقتصاد حين قامت الدول النفطية بحظر النفط دعما للسلاح. كما رأينا في مرحلة سبقت عام 1964 ان اجتمعت الجامعة العربية واتخذت قرارا تاريخيا بابراز الكيان الفلسطيني، وظهرت إلى عالم الوجود (منظمة التحرير الفلسطينية) ممثلة وحيدة للشعب الفلسطيني وناطقة باسمه، وقامت منظمة (فتح) عام 1965واطلقت رصاصها معلنة قيام الحركة المسلحة للشعب الفلسطيني لتطوي صفحة من التاريخ، كانت تعالج فيها قضية فلسطين من خلال وكالة (غوث اللاجئين) فحسب، وتصبح الآن قضية شعب يعمل على استرداد الأرض السليبة. وجاءت نكسة عام 1967 لكي يتصاعد وهج المقاومة، وتبرز القيادة الفلسطينية الشامخة (ياسر عرفات) ومنظمة فتح، وجناحها العسكري (العاصفة). وتثبت الأقدار أن النكسات بل والهزائم، يمكن ان يخرج من نبتها الأبطال والقادة، كانت المقاومة الفلسطينية هي وقود النار الذي اندلع في الأرض المحتلة، وكان لصداها دوي بين الجماهير العربية المتعطشة للبطولات ، فتوالت الانتفاضات، وتكسرت الحواجز، وانطلق الشباب الفلسطيني الواعد لكي يبرهن للأعداء قبل الأصدقاء أن الصغار لم ينسوا وطنهم، وانهم الجيل الصاعد لكي يكتب آيات الأنتصار.

اتفاق اوسلو

لم يكن (اتفاق اوسلو) في اوله أو في آخره سوى حلقة من حلقات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بعد ان تصاعد شعار(هذا القطر العربي أولا، ثم يتبعه التالي ونحن كذلك أولا) وتهبط حركة الصراع وتعريفها المعتاد من (الصراع العربي  الإسرائيلي) إلى (الصراع الفلسطيني  الإسرائيلي). قبل الفلسطينيون خوض تلك التجربة، لتحقيق ضوء في نهاية الطريق، مهما كانت درجة خفوته ، بعد ان تعثرت مواقعهم في أكثر من بلد عربي، فقد كانت أحداث (أيلول الأسود) وخروج حركة المقاومة من الأردن إلى لبنان سوى نكسة المت بحركتها، وفي لبنان جرى اقتحام القوات الإسرائيلية إلى الأراضي اللبنانية، وجرت هناك عملية الحصار الشهيرة للمقاومة، وكان عليها ان تخرج من جديد، ومن ثم كان الذهاب إلى تونس، اجبارا أكثر منه اختيارا، وهناك جرت عمليات الاغتيال لبعض قادة المقاومة، ان لم يكن لأهم رموزها. كان البحث عن أرض صلبة يمارس من خلالها الفلسطينيون رحلتهم الشاقة لتحرير أرضهم، وكان أول الغيث قطره، في ان تكون أرضهم بترابها وهوائها هي نقطة انطلاقهم. لكن بعض الكتاب لايرون ذلك الإتجاه، ولا يبحثون عن الأسباب، هم فورا يقفزون إلى النتائج، ويرددون بيتا من الشعر يجدون فيه خلاصهم للتبرير، ورشا للمباخر لدعاة التطبيع. بيت يقول (اذا كان رب البيت بالدف ضاربا) ويتوقف الكاتب ولا يكمل (فشيمة أهل البيت كلهم الرقص)، وبصرف النظر عن لغة السخرية، بآلة الدف، وهي آلة ايقاعية ضمن ايقاعات الآلات الأخرى الموسيقية، والموسيقى هي احدى الفنون الراقية، كما ان الرقص أيضا هو أحد الفنون التي تعشقها الكثير من الشعوب ان لم تكن كل الشعوب، وكل له اسلوبه وممارساته، التي لا تقابل سوى بالاحترام والتقدير. عموما ليس ذلك هو موضوعنا. انما الموضوع هو (الاعتراف المتبادل) أي ان له مقابل، وليس عشوائيا، أو تطفلا، أو تحت ضغط.

كان الرد الإسرائيلي، على المبادرات العربية دائما، حول رد إسرائيل للحقوق العربية في الأرض وفي حق العودة للفلسطينيين، أو بمعنى آخر حل يقوم على دولتين على حدود 1967، وايضا حق العودة للفلسطيين أو التعويض حسب تقدير الفلسطينيين ، في مقابل الأعتراف العربي بإسرائيل، وكان الرد هو قولها (ومن طلب اعترافكم بنا حتى نستجيب إلى مطالبكم، اننا لسنا في حاجة إلى اعترافكم، ونحن اعضاء في منظمات دولية)، ورفضت بناء على ذلك كل المبادرات. إسرائيل من جانب آخر كانت تنفي أي وجود لشيء اسمه فلسطين، أو شعب اسمه الشعب الفلسطيني، وكانت تردد على لسان جولدا مائير (ليس هناك شعب فلسطيني الكبار يموتون والصغار ينسون)، ولكن ان ترضخ من جانبها في النهاية، وان تسلم ان فلسطين موجودة، فذلك انجاز، وخطوة كبيرة في الموقف، وان كانت صغيرة في

البطل التاريخي لفلسطين ياسر عرفات

المشوار الطويل لحركة التحرر، وهي جوهرية بالتأكيد ان يسلم عدوك الذي كان ينكر بوجودك، لكن ما زال الطريق طويل وشاق ومرير، ويحتاج إلى صبر وجهد عنيف. وعاد الفلسطينيون بكل تشكيلاتهم الحزبية والايدولوجية، لتبدأ صفحة جديدة، من حركة الصراع.

هل كان الانقسام الفلسطيني مفاجأة؟

العمل السياسي عموما ليس نزهة على شط بحر، ولا هو جولة في ربوع مدينة، أو في حديقة مزهرة. العمل السياسي ايمان بهدف، وقناعة بمبدأ، ومعول لبناء دولة، ومثل كل عمل شاق يحتاج إلى تكاتف وتآزر، بين مجموعات وجماعات واحزاب وتكتلات، تفصل بينها بالضرورة، ايدولوجيات مختلفة، ورؤى متباينة، وخلافات لا تبدو على السطح بعضها ثانوي وآخر جوهري، ولكنهم جميعا يتحملون المسؤوليات الجسام، ولذلك يحدث، وقد حدث بالفعل التباين حتى في اساليب الحركة أو التباين في الرؤى لعلاج المواقف، فينقسم الرواد على الطريق، في العالم العربي تتعدد المشاهد، حول ذلك، ففي العصر الملكي المصري وازاء المواجهة مع الاحتلال عام 1919، برز شعار يقول (الاستعمار على يد سعد زغلول، ولا الاستقلال على يد عدلي يكن) وهو شعار شديد الغرابة، وفي عهد أنور السادات نراه قد زج برفاق الطريق الذين نصبوه رئيسا في السجون بعد رحيل عبدالناصر، وفي العراق وسوريا حكم حزب واحد وهو البعث، وكان حريا به ان يوحد الدولتين ، ولكن انقسم الحزب، ودار بينهما الصراع، وفي الجزائر، دب الصراع في تنظيم (جبهة التحرير) وقام هواري بومدين بعزل أحمد بن بيلا، وفي فلسطين حدث الانقسام، وهو أمر يؤسف له، وان كنا نتطلع بعد تلك الهجمة في التطبيع، ان تتغلب المصلحة الوطنية على الرؤى الذاتية، ويمكن النظر في ترتيب أمور الوطن الداخلية بعد ان تفرغ الحركة الوطنية من مهامها. بناء على ذلك فما حدث في فلسطين ليس شيئا غير مألوف، ولا مختلق في اطار الصراع السياسي بين ابناء الوطن الواحد، وان كان الامر الجلل الذي تمر به القضية الفلسطينية يستدعي انجازا اسرع في وحدة الصف.

بقي اتهام وجهه أحد الكتاب إلى القيادات الفلسطينية، ولا أدري كيف طاوعه قلمه ان يوجهه، وهو اتهام يتعلق بسلوكيات هؤلاء القادة أنهم (متعالون) أي يتملكهم الكبر، والمعروف للقاصي والداني أن القيادات الفلسطينية نشأت وترعرعت في احضان الجماهير الفلسطينية أو العربية، على الأقل من أجل الدعوة لمشروعهم في استرداد الارض المنهوبة، ومن نشأ مثل الفلسطينين في اطار محنة كتلك التي ألمت بهم في فقد الوطن والهوية، لا يمكنه الا ان يكون

معركة الكرامه
خاضتها المقاومة الفلسطينية مع القوات الاردنية
مارس عام 1968

جماهيريا بالطبيعة، وفي اطار سلب وطن، فان مجال حركته الأولى لابد وان تكون في أحضان أمته، لأنهم على الأقل رفاق رحلته الشاقة للعودة إلى الأرض المسلوبة، حتى وان كانت السياسة العربية دارت طويلا في اطار محاور وتكتلات، وحملات اعلامية مكثفة، لا تدخر وسعا أو جهدا في اثارة موجات الغبار على الآخرين

ان التعال لايمكن ان يحدث إلا في اطار واحد، وهو المحافظة على كبرياء الإنسان وكرامته، والشعب الذي يبحث عن وطن، وعن أرض، وعن هوية لايمكنه ان يتعال ان وجد استقبالا يليق، وحفاوة صادقة من اخ لأخيه. منذ ان قام الرئيس السادات برحلته المشؤومة إلى إسرائيل، حدث بالتأكيد تطور بالغ الأهمية، اذ فتح الباب على مصراعيه أمام من ضاق بفكرة الصمود، أو جفل من طول الزمن، أو خارت عزيمته فانهار امام الضغوط، ولذلك فان الآمال الكبار معقودة على الشعوب، وقد برهنت هذه الشعوب على أصالتها فأوقفت مسلسل التطبيع بإرادة جماهيرية، وما زالت الشعوب على امتداد أرضها في المنطقة العربية قادرة على تحمل مسؤولياتها، وهي تعرف أن قضية فلسطين ليست قضية الأمس، ولا هي قضية اليوم فحسب، ولكنها قضية المستقبل، قضية ان نكون أو لا نكون، قضية أمة، وليست فقط قضية شعب، وعلى من نال منه التعب والضنى فعليه على الأقل ان يرحمنا من وقع كلماته. أما الشعب البطل، أعرق وأعظم وأنبل شعوب الأرض شعب فلسطين، فعليه أن يتأكد انه ليس وحده، معه كل رجل شريف، وكل امرأة شريفة، كل فتى أو فتاة، بصرف النظر عن اللون أوالديانة أو الجنسية، فالشرف وحده أصبح جنسية.

العدد 111 / كانون الاول 2020