حرب غزة والبحث عن الدور العربي المفقود..والأثر على انتخابات الرئاسة الأمريكية

“وينكم يا عرب”.. صرخة أطلقها أب فلسطيني من جنوب قطاع غزة وهو يحمل طفلته الرضيعة جثة هامدة مشوهة الملامح بسبب تعرضها للقصف بأسلحة وحشية إسرائيلية فتاكة، وهو عاجز عن استيعاب أن تحدث هذه الجرائم على مرأى ومسمع من العالم العربي دون رادع أو رد فعل مناسب!

“وين العرب .. قلبي مات عليك يا أختي” استغاثة أخرى انطلقت بصوت فتى فلسطيني في مشهد مؤثر  عندما فجع بمقتل شقيقته بالقصف على غزة.

ولازال الآلاف يصرخون ويستغيثون “وينكم يا عرب ..وينكم يا بشر” وهم يخاطبون الإنسانية جمعاء بعد أن يئسوا من مناشدة العرب، في ظل سيطرة رائحة الموت على كل مكان في غزة، فمن لم يمت بالأسلحة الإسرائيلية مات جوعا ومرضا مع انتشار المجاعات نتيجة لحرب التجويع القذرة التي يمارسها الاحتلال الصهيوني على الفلسطينيين.

لذلك لاقى التلويح المصري بالتهديد بإعادة النظر في معاهدة السلام ردا على التهديد الإسرائيلي باجتياح رفح، ترحيبا شعبيا من قطاع واسع في العالم العربي خاصة ممن ينتظرون رد فعل قوي من مصر وشقيقاتها العرب. لقد توقعت الشعوب العربية وتمنت أن يكون هناك رد فعل يشفي الغليل ويطفئ نار الغضب المشتعلة من جراء حالة الاستسلام العربي العام والردود الفاترة التي لا يمكن أن تتناسب مع حرب الإبادة الوحشية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي ضد أهلنا في غزة وضد الشعب الفلسطيني ككل. لقد تعبت الشعوب العربية واستاءت كثيرا  من الضعف العربي والاستكانة خاصة ممن لديهم القدرة على الضغط باستغلال علاقة التطبيع كورقة مهمة وهم يتساءلون عن الدور العربي المفقود في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ القضية الفلسطينية.

على الجانب الآخر من نصف الكرة الأرضية الغربي وأمام أحد المساجد في الولايات المتحدة الأمريكية وقفت الأمريكية اليمنية “سمراء لقمان” تنتظر خروج المصلين بعد صلاة الجمعة وهي توزع عليهم منشورات توصي ب”عدم التصويت لبايدن” وعندما سألوها عن سبب تغيير موقفها منه، قالت أن الحالة الوحيدة التي يمكن أن تعطي صوتها فيها لبايدن هي “أن يعيد 30 ألف شخص إلى الحياة”!

إن الشعوب العربية ليست وحدها التي يكتنفها هذا الغضب وإنما امتد الأمر لمختلف شعوب العالم التي ازدادت وعيا وبصيرة بحقيقة ما يجري في فلسطين وصولا للشعب الأمريكي الذي يشهد تحولات كبيرة في اتجاهاته وتوجهاته بخصوصص القضية الفلسطينية وأحداث غزة الدامية وأوضاعها الكارثية والتي انعكست بدورها على موقفه من انتخابات الرئاسة الأمريكية بشكل يضع المصير السياسي للرئيس جو بايدن على المحك!

لقد كشفت استطلاعات الرأي الأمريكية عن تأثير دور الأمريكيين العرب والمسلمين في صحوة المجتمع الأمريكي نحو موقف أكثر عدالة وبعيد عن التحيز الأمريكي الرسمي الفاضح للمحتل والمعتدي الإسرائيلي. فعلى الرغم من أن أبناء الجالية الأميركية العربية في ميتشيجين  قدموا الدعم لبايدن في عام 2020، إلا أنهم أعربوا عن شعورهم بالندم والغضب واتخذوا مواقف معادية له مؤخرا بسبب سوء إدارته في التعاطي مع أحداث غزة.

الغضب العربي والمصير المجهول لبايدن

وسط حالة الانتقادات التي يتعرض لها الرئيس الأمريكي بسبب دعمه للإحتلال الإسرائيلي وتجاهله لما يجري من جرائم وحشية ضد الفلسطينيين، كشف استطلاع لصحيفة وول ستريت جورنال أن هناك 60% من الأمريكيين يرفضون أسلوب بايدن في إدارته لحرب غزة، وأن 33% منهم يرون أن بلادهم لا تقدم المطلوب لمساعدة الشعب الفلسطيني، مع ارتفاع مؤشر المعارضة لسياسة بايدن بغزة بنسبة 8% عما كان عليه في ديسمبر الماضي. ووصل الأمر لانتشار دعوات للامتناع عن التصويت لصالحه خلال الانتخابات التمهيدية وهو ما حدث بالفعل عندما امتنع 16% من الناخبين في ولاية ميتشيجين عن التصويت بعد أن رفعوا لافتة “غير ملتزم” وكذلك يدعون لتنفيذ نفس النهج في الانتخابات العامة المقبلة. ويرجع المراقبون هذا التوجه الشعبي الساخط إلى خطأ الإدارة الأمريكية الحالية في إصرارها على تبني موقف سابقيها المتحيز لإسرائيل على طول الخط .

بإضافة أحداث الحرب الروسية في أوكرانيا وفشل التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة في منع روسيا من استمرارها في القتال رغم كم الدعم الهائل المقدم لحليفتهم أوكرانيا، تبدو صعوبة موقف الإدارة الأمريكية وخطورة المأزق الذي  يواجه الرئيس بايدن ويهدد مستقبله السياسي في ظل ظهور خصمه العنيد دونالد ترامب الذي عاد من جديد لساحة الصراع منافسا شرسا يتحين الفرصة لينتقم من هزيمته السابقة ويهزم غريمه بالضربة القاضية.

لاشك أن هذه التطورات تكشف عن أهمية الدور العربي في كشف الحقائق وإمكانية التأثير لتصحيح الموقف الأمريكي وإجبار إسرائيل على التراجع والتوقف عن جرائمها وهو ما يثير التساؤل عن علاقة إحياء الدور العربي المفقود باستخدام أوراق الضغط التي تمتلكها الدول التي وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل.

عندما سارع عدد من الدول العربية إلى إبرام اتفاق سلام مع إسرائيل في الفترة الأخيرة في إطار ما سمي باتفاقيات إبراهيم، برروا هذه الخطوة بأنها جاءت لخدمة أهداف تحقيق السلام والقضية الفلسطينية، وهو ما لم يتحقق! فهل آن الأوان لمواجهة إسرائيل بالرد المناسب استغلالا لهذه الاتفاقيات أو التهديد بإلغائها حتى لا يصبح التطبيع مجانا وبلا ثمن؟!

على أرض الواقع لم يحدث شئ من هذه الأمور على الرغم من مرور شهور ثقيلة وليالي طويلة مظلمة وملطخة بدماء الأطفال والضحايا الأبرياء في فلسطين، ولم نر ملمحا من ملامح مثل هذه الإجراءات أو حتى التلويح بها على سبيل الردع إلا من أمور جرت على استحياء مثل استقدام السفير  كما حدث في البحرين!! وذلك لأن حسابات السياسة واعتبارات المصالح لها منطق آخر.

لايمكن أن ننكر تزايد الضغوط الداخلية على الحكومات في العديد من البلدان التي تتعاطف مع القضية الفلسطينية وهي ضغوط يزداد حجمها وثقلها بين الشعوب العربية خاصة تلك الموجودة في مناطق المواجهة المباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي والقريبة من الأراضي الفلسطينية. ومع ذلك فإن المحللين السياسيين لا يرون أثرا  لهذه الضغوط على القرارات السياسية خاصة ما يتعلق بدول الخليج حيث يعتبرون العلاقة مع إسرائيل نافذة لتأمين مصالحهم بالمنطقة وتوطيد علاقتهم بالولايات المتحدة الأمريكية، ويشيرون إلى أن المسألة ترتبط بمحاور وتحالفات لعرقلة التواجد الصيني والإستفادة من التقنيات التي تمتلكها إسرائيل ويحتاجها الخليجيون وبالتالي فالتطبيع السياسي مرتبط بتعاون اقتصادي وأمني في حالة من التشابك المعقد.

تجميد معاهدة السلام مع مصر ومصير الاتفاقيات الإبراهيمية

كما أن الاتفاقيات الابراهيمية التي تم التوقيع عليها بين إسرائيل من جانب وأطراف عربية أخرى خلال عام 2020 وما بعده لم تركز اهتمامها على القضية الفلسطينية وإنما ركزت على المصالح الاقتصادية والجيوسياسية بين الأطراف المعنية ومن ثم فهي تختلف عن مضمون وطبيعة اتفاقيات السلام المنعقدة بين إسرائيل وكل من مصر والأردن والتي تتضمن تركيزا وتمحورا حول قضية فلسطين وحقوق الفلسطينيين.

وبينما يندهش الكثيرون المتعاطفون مع أبناء غزة من عدم فتح مصر والأردن لحدودهما أمام الفلسطينيين النازحين من مناطق الحرب، يرى فريق آخر أن في ذلك تصديا للمخطط الإسرائيلي الذي يهدف إلى تصفية الفلسطينيين في غزة والتخلص منهم بدفعهم للخروج عبر الحدود المصرية والأردنية، ما يجعل موقف البلدين حرجا في التعامل مع الأوضاع المأساوية في غزة، إلا أن الأمر يتطلب مزيدا من القوة في ردود الأفعال بشكل يتناسب مع حالة الغضب والغليان التي تجتاح الشارع المصري وغيره.

وعندما كشرت مصر عن أنيابها وتطرقت بحدة إلى الحديث عن اتفاقية السلام والتهديد بتعليقها إذا تحرك الجيش الإسرائيلي في رفح، تسلل القلق إلى إسرائيل وحلفائها الغربيين، وظهرت أصوات داخل المجتمع الإسرائيلي تحذر من خطورة انهيار اتفاقيات السلام مع مصر والأردن منهم خبراء في الأمن السياسي مثل عاموس جلعاد الرئيس السابق لشعبة الأمن السياسي في وزارة الدفاع الإسرائيلية ورئيس قسم الأبحاث في معهد آمان الذي قال أن السلام مع مصر مهم جدا وأن الاستمرار  في السعي لإخراج الفلسطينيين من غزة سيدمر هذا السلام.

على الصعيد العربي يقول المفكر السياسي القومي الدكتور مصطفى الفقي أن انهيار  اتفاق كامب ديفيد هو نسف للسلام في المنطقة كلها مما يعرض الشرق الأوسط كله لخطر  كبير وأن الولايات المتحدة ستكون الخاسر الأول في هذه الحالة. ويعترف الفقي أن أطماع إسرائيل في المنطقة بلا حدود وهو ما يدفعها نحو هذه الحروب. ولاشك أن هذا الإعتراف بالمطامع الإسرائيلية كفيل باستدعاء صحوة عربية شاملة لمواجهته.

45 سنة مرت على توقيع اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل والمعروف باتفاق كامب ديفيد في 26 ديسمبر 1979 وهي الاتفاقية التي دفعت مصر ثمنها بعزلها عن الدول العربية وتجميد عضويتها بجامعة الدول العربية لفترة من الوقت، بينما اليوم استطاعت إسرائيل أن توطد علاقاتها بالعديد من الدول العربية في الخليج وفي إفريقيا ويتم الإعلان عن تطبيع للعلاقات معها على الملأ وسط أجواء عربية وعالمية احتفائية بذلك ورأينا ذلك بوضوح عندما وقعت كل من الإمارات ومعها البحرين إلى جانب المغرب والسودان خلال فترة قصيرة ومتقاربة والمثير في الأمر أنه تم تفعيل التطبيع وترجمته فور  توقيعه إلى مشروعات عديدة ومتنوعة في مختلف المجالات بشكل لم يسبق له مثيل في اتفاقيات السلام السابقة، كما حدث بين إسرائيل والإمارات ونراها مستمرة حتى في ظل الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة. وكان من المتصور أنه لو كانت الأطراف العربية قد لوحت أو ألمحت إلى الرغبة في تجميد أو حتى إبطأء وتيرة مثل هذه المشروعات كرد فعل على أحداث غزة ربما كان ساهم ذلك في ردع إسرائيل وهو ما لم يحدث للأسف.

على الجبهة المصرية وعلى مدار أكثر من أربع عقود مرّت منذ توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل كانت هناك محطات من التوتر وتبادل الاتهامات حول مدى الالتزام ببنود الاتفاقية، منها ما حدث بعد الاجتياح العسكري الإسرائيلي للمدن الفلسطينية في إبريل  2002 عندما أعلنت مصر وقتها وقف جميع الاتصالات بين حكومتي الدولتين باستثناء “القنوات الدبلوماسية التي تخدم القضية الفلسطينية”. كما شهد عام 2011 عدة أزمات نتيجة لوقوع حوداث منها هجوم إسرائيلي تسبب في قتل جنود مصريين مما خلق حالة من الغضب الشعبي انتهى باقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة لأول مرة.

كما تمسك الطرف المصري بضبط النفس عندما تكررت حوادث سقوط صواريخ إسرائيلية على مناطق مصرية حدودية أثناء الحرب الحالية على غزة، مما أثار حفيظة المصريين الذين ترقبوا ردا يشفي غليلهم وهو ما لم يحدث. إلا أن وتيرة الغضب الرسمي شهدت تصعيدا ملحوظا لردود الفعل المصرية حينما تم التلويح لأول مرة بتجميد اتفاقية السلام وهو الأمر الذي تناقلته صحف عالمية منها وكالة أسوشيتد برس وصحيفتا نيويورك تايمز وول ستريت جورنال عندما أشارت إلى تهديد القاهرة بتعليق معاهدة السلام، إذا تم إرسال قوات إسرائيلية إلى رفح في ظل تهديد الدولة العبرية بشن عملية عسكرية برية في المدينة الحدودية، جنوبي قطاع غزة.

تنسيق عربي مطلوب

ويؤكد الدكتور جمال سلامة أستاذ العلوم السياسية أن مصر تتعرض لضغوط غير مسبوقة وتعاني من آثار سلبية لهذه الضغوط تنعكس على أوضاعها الداخلية كما تواجه حروبا معنوية لخلخلة الجبهة الداخلية وهو الأمر الذي يؤثر كثيرا على اتجاهات السياسة الخارجية وتعاطيها مع مجريات الأحداث. ويحذر من خطورة المخطط الصهيوني المتمثل في تهجير الفلسطينيين قسريا لإجبار الدول العربية الحدودية على فتح حدودها أمام النازحين لإقامة وطن بديل حتى تستولي على أراضيهم.

من جانب آخر تركزت مواقف البحرين والإمارات والمغرب من أحداث غزة على الشجب والتنديد والعمل على إطار التحركات الإنسانية دون ضغوط فعالة على الطرف الإسرائيلي، متشبثين بخيار السلام وحل الدولتين. ولذلك ظهر فريق آخر بضرورة يطالب بالعدول عن الدفاع عن فكرة حل الدولتين والبحث عن مسلك آخر يحقق للفلسطينيين مطالبهم العادلة. ويطالب هذا الفريق بضرورة وجود تنسيق بين هذه الدول مع دول المنطقة العربية لخلق موقف موحد ذي وزن وتأثير فعال. ويرى الخبير السياسي البحريني عبد الله الجنيد أن هناك مزايا تمتلكها الدول التي وقعت على اتفاق إبراهيم متمثلة في الخبرة والمكانة التي تمكنها من التعاطي إقليميا مع أحداث غزة.

 واقع الأمر أن هناك حاجة ملحة للتعاون العربي والتنسيق الكامل بين الدول التي وقعت اتفاقيات سلام مع الطرف الإسرائيلي لوضع إطار مناسب للتعاطي مع أحداث غزة باستغلال ورقة التطبيع للضغط على دولة الاحتلال وتغليب المصلحة القومية العليا والمتمثلة في القضية الفلسطينية على المصالح الخاصة بكل طرف، مع قناعة كاملة بأن التعامل من منطق القوة يدعم الموقف العربي وهو ما يتأتى بخلق موقف موحد مستند إلى تشاور وتنسيق مستمر بين كافة الأطراف العربية المعنية.