فيليب دوق أدنبره”الأمير المُنتّظَر”

رؤوف قبيسي:

في حياتي المهنية رثيت أشخاصاً عديدين، منهم القريب ومنهم الصديق المقّرب، وسوف أظل أفعل ذلك ما دمت حياً، وفاء لراحلين كانت لهم منزلة عاطفية وادبية في حياتي، لكني ما اعتقدت أن يوماً سيأتي وأرثي شخصا ليس بقريب أو بصديق، غير أن السيدة العزيزة ابتسام أوجي، رئيسة تحرير هذه المجلة، بعثت إلي برسالة هاتفية تسألني فيها إذا كان بالإمكان أن يكون موضوع هذه الصفحة من “الحصاد” عن الأمير الراحل فيليب، دوق أدنبره، زوج الملك إليزابيث الثانية، الذي رحل عن دنيانا يوم التاسع من نيسان (ابريل) الماضي. وجدت الطلب مشوّقا لأسباب عدة، أولها أنني مواطن بريطاني، ولبريطانيا افضال عليّ لا أنساها، فيها درست وعملت سنوات طويلة، وهي البلد الذي منحني جنسيته، وجواز السفر الذي مكنني من أكون حراً، أطوف بلاداً كثيرة حول العالم من دون الحاجة إلى التأشيرات، والوقوف على أبواب السفارات، مع ما يرافق ذلك من متاعب نفسية وأكلاف مادية، علماً أنني في الأصل مواطن من العالم الثالث، وأحتاج إلى الانعتاق من القيود القاسية التي فرضتها عليّ سلطة التراث وسلطة الواقع! وعندما كان طه حسين وزيرا للمعارف في خمسينات القرن الماضي، طالب بتعليم المرأة المصرية، فعارضته دواعش ذلك الزمان، فقال قولته المشهورة إن حاجة المرأة المصرية إلى التعليم هو كحاجتها إلى الماء والهواء، وكأي مواطن لبناني أجد حاجتي إلى هذه الحرية، كحاجتي إلى الماء والهواء، خصوصا بعدما تحول لبنان الصغير، الذي كان أخضر وجميلاً، إلى أحد أسوأ بلدان المنطقة والعالم، بفعل سياسات عصاباته الحاكمة، وأعتقد أن غالبية اللبنانيين اليوم، يشاركونني هذا الاعتقاد. أعود إلى الأمير الراحل فيليب، وإلى بريطانيا التي أعتبرها وطني الثاني بعد لبنان، لكنها من حيث النظام والحرية والحقوق، وطني الأول بلا منازع، ولا أخجل من الجهر بهذه الحقيقة، وسأظل أجهر بها إلى يوم يعود لبنان سيدا حرا مستقلا، ويتحرر من زعمائه، ومن يناصرهم من المستفيدين، إعلاميين كانوا أم مصرفيين، رجال أعمال أو رجال دين، باستثاء الفئات المغلوبة على أمرها، الغافلة عن مصالحها، وهذه لا بد أن يأتي يوم وتنهض من سباتها العميق!

ليست المصلحة الشخصية، ولا الحرية الشخصية، ولا طلب السيدة ابتسام، ما يملي عليّ كتابة هذه السطور. هناك اعتبار آخر نابع من قناعة ذاتية، لولاها لاعتذرت للعزيزة ابتسام، وطلبت إليها أن تعفيني من هذه المهمة، فأنا لم أكتب يوما عن الملوك والأمراء، وما كان موضوع مثل هذا يعنيني وينسجم مع قناعاتي، وأستشهد هنا بقول الشاعر الحكيم عمر بن الوردي القائل: “لا تقل أصلي وفصلي أبداَ / إنما اصل الفتى ما قد حصل”، لكن، والحق يقال إن العائلة الملكية في بريطانيا تستحق كل تكريم وتقدير وكل كلمة عيناء، وأنا أحترم جميع افرادها، ومنهم بالطبع، الأمير الراحل فيليب. في ثمانينات القرن الماضي كنت عضواً في جمعية الصحافيين الأجانب في لندن، وجرت العادة أن تقيم الملكة اليزابيث في قصر باكنغهام  حفلة سنوية باسم حفلة الحديقة (غاردن بارتي) تدعو إليها ديبلوماسيين وسياسيين وإعلاميين، واتفق أن كنت من المدعويين إلى هذه الحفلة، وقد أشفقت على الملكة أليزابيت، وزوجها الأمير فيليب، فقد كانا يبتسمان طوال الوقت، ويتبادلان أطراف الحديث مع أفراد عديدين من المدعويين بابتسامة لم تكن تغيب عن وجهيهما. كان الطقس حاراً جداً على غير عادة، ولك ان تتخيل أيها القارىء الكريم، كم شاقة هي مهمة هذه الملكة وهذا الدوق، وكم صعبة هي حياة القصور، لكن الملكة والأمير كانا يفعلان ذلك بحكم الواجب والمسؤولية المفروضة عليهما منذ الولادة!

لو سألتني ايها القارئ الكريم ما الذي يحملك على محبة هذه العائلة والجهر بها لأجبتك من غير تردد، أنه أداؤها الإنساني. فهي اسرة ملكية لم تتلوث سمعتها بأوضار السياسة، وكانت لها ولا تزال مواقف مشرفة تجاه العرب، والأقليات العرقية في بريطانيا، ولطالما ساندت بريطانيا دولة متسامحة متعددة الأعراق. اذكر في السبعينات، أن الملكة اليزابيت رعت على مدى أيام في لندن “مؤتمر العالم الإسلامي” الذي نظمته جمعيات إسلامية وهيئات أجنبية ورجال أعمال من بلدان مختلفة، كان من بينهم مهدي التاجر، الذي كان يومها سفيرا لدولة الإمارات في لندن، والصديق الراحل المصرفي صبيح شكري. كنت يومها مراسلا لمجلة “اليقظة” الكويتية، واتفق أن كنت في لندن، فلم اتردد في كتابة تحقيق عن ذلك المؤتمر على رغم ميولي المدنية العلمانية، لأن المؤتمر كان حدثا ثقافياً بكل المقاييس، وشاهده البريطانيون في أمكنة مختلفة من العاصمة البريطانية، وفيه عقدت ندوات وعروض وصحائف، وكتب قديمة وخطوط، ومخطوطات صنعتها أيدي عقول وقلوب المؤمنين بهذه العقيدة عبر قرون مختلفة في غير مكان وزمان. عقد المؤتمر في وقت لم يكن الإسلام في الغرب قد تضرر بعد بالسياسة، ولم يكن الخوف من الإسلام  والمسلمين، أو ما اصطلح على تسميته بتعبير “الإسلامفوبيا “، قد نما واشتد كما حدث في السنوات الأخيرة، بفعل العصبيات الدينية التي طفت غرائزها الدفينة على السطوح!

أعرف أن أي كلام معسول عن بريطانيا، والعائلة الملكية فيها لن يروق بعض القراء العرب، ولن يرضي أصحاب الشعارات، فهؤلاء مسكونون بتاريخ بريطانيا الاستعماري وموقفها من قضية فلسطين. أتفهم هذه المشاعر، وأرد على أصحابها  قبل أن تطالني سهام نقدهم، فأقول إنه لا بد لنا كعرب من أن نفتح صفحات جديدة مع العالم، وأن لا نحمّل سياسيي اليوم، وزر أخطاء ارتكبها سياسيون من قبلهم، وإلا فإن الكراهية ستبقى محفورة في نفوسنا إلى أبد الأبدين! الشيء الوحيد الذي لا يمكنني، ولا يمكن أي مواطن عربي شريف قبوله، هو فتح صفحة تسامح  مع الصهيوينة العالمية، ليس لأنها اغتصبت أرض فلسطين وحقوق شعبها فحسب، بل لأنها أقامت دولة على خرافات دينية وتاريخية لا أساس لها، وأسبغت علها طابع القداسة فصدّقها البسطاء والجهال من الأجانب وارتاضاها بعض العرب! ليس هذا الراي رأيي وحدي، هو رأي الكثيرين من المؤرخين والعلماء وبعضهم يهود. حين أقول الصهيونية، لا أعني اليهود كمجموعات دينية وتراث، فهؤلاء هم ايضاً ضحية من ضحايا العصبية الصهيونية الهوجاء، التي زعزعت الشرق الأوسط برمته. أعرف أن الكثيرين من العرب قد قبلوا بالأمر الواقع على حساب شعب فلسطين وحقه في أرضه التاريخية، لكن حقاً كهذا يبقى حقيقة لا ينبغي نسيانها مهما طال الزمن، أو التخلي عنها إرضاء لأصحاب المصالح، والمنتفعين والمبخّرين، ولمن خرجوا من الساحة، ورفعوا الرايات البيضاء استسلاماً!

  • أعود إلى الأمير فيليب من دون أن اسرد سيرة حياته التي يمكن أي قارىء أن يطّلع عليها على شبكة المعارف “إنترنت” أو يقرأ عنها في كتب نشرت عن الأمير الراحل بلغات مختلفة، وليس الغرض هنا إلقاء الضوء عليها ولو بنحو يسير، لأن حياة الأمير فيليب الذي عاش مئة سنة حفلت بما هو غني ومتعدد وغريب أيضا، خصوصا زياراته ورحلاته التي قام بها مع الملكة اليزابيث إلى إفريقيا والشرق الأقصى، واميركا الوسطى، وإلى مناطق نائية في القارات الخمس، لا يعرفها إلا الجغرافيون. في زياراته تلك، كانت للأمير فيليب وقفات مسلية وجذابة، وصور حية عن السكان المحليين وتقاليدهم، وطرائق عيشهم هي أشبه بالأفلام الوثائقية، ولا شك في أن أي باحث شغوف، سوف يجد فيها متعة وتسلية. من ذلك رواية تحكى عن الأميرمفادها أن أفراد قبيلة فقيرة الحال في جمهورية جزيرة مكونة من جزرعدة في متاهات المحيط الهاديء اسمها “فنواتو” آمنوا أن الأمير فيليب هو “إبن آلهة الجبال” وكانوا يبتهلون له ليبارك حقول الموز والبطاطا التي يعيشون من منتجاتها، فقد زارهم الأمير فيليب في العام 1974، بعد إعصار هائل ضرب مناطقهم وأتى على مزارعهم، فوجدوا أن زيارته كانت بشرى سعد حلّت عليهم، وجلبت عليهم الخير، وأنعشت كرومهم وبساتينهم، فاستمروا يأملون عودته وينتظرونها كضرب من العبادة، وربما ما زالوا إلى اليوم يأملون بهذه العودة!

العدد 116 / ايار 2021