حيث تغيب الموسيقى

محمد علي فرحات

كلام صاخب في بلادنا القديمة حيث تغيب الموسيقى وتهرب العصافير، كلام تختلط فيه الحقيقة بالوهم. كيف لا وفي شرق البحر المتوسط حضارات بائدة تتكدّس الواحدة فوق الأخرى، ولا أحد يقرأ كتبها التي يعلوها الغبار في مكتبات بعيدة، كتبا تنتظر طلاباً يحضّرون أطروحات جامعية، وعندما ينالون الشهادة العليا ينسون ما قرأوا وما كتبوا.

شيء من العبث يسود منطقة كانت ملتقى شعوب ولغات وغناء، بقدر ما كانت ميادين للقتل تحت رايات زعماء يفرضون قداستهم. واليوم مثل الأمس، والقريب مثل البعيد، والحاضر مثل الماضي. عبث وفوضى حيث يتجاور النضال مع الجريمة والمحبة مع الإغتصاب.

نعرض هنا صورة تمزج الحقيقة والوهم عن الصراع بين نقاء الطبيعة وتلوّث الأصوات في بلادنا الأصلية:

لم يعرف المهندس الزراعي، ولنسمّه طبيب الأشجار، سبباً لتلوّثها في بلدة جبلية لبنانية. كانت الأشجار الفتيّة تواصل نموّها عالياً، لكنها تفقد أوراقها لتصير بعد أسابيع أو أشهر أشبه بهيكل   غصون جافّة . لا علّة في التربة أو في الهواء، ولا نقص في الماء فالمطر أكثر من كافٍ وهو يتجاوز مواسمه في معظم السنوات.

أشجار زرعها الأب قبل عقود ورآها عالية قبل ان يودّع الحياة، وها أنّ الإبن الذي ولد معها صار أباً، لكن الأشجار ليست الأشجار. كأنّ لعنة حلّت لم يعرف الرجل لها سبباً علميّاً أو غير علميّ، قبل أن يلاحظ أن العصافير تهرب حيث يعلي الخطباء أصواتهم من مركز الإحتفالات المجاور. كانت تلعلع من مكبّرات الصوت فتبدو غير مفهومة، تختلط كلماتها باللهاث وبشيء من عطشٍ مقيم، عطش قديم، كلمات يابسة ينقصها الماء ولا يكفيها أي ماء.

ترتفع الأصوات متشابكة مثل شوك يابس، مثل أسلاك معدنيّة يعلوها الصدأ. ترتفع في المكان فتهرب العصافير، ويسقط عن الأشجار بعض من أوراقها الخضراء، سقوط بلا خريف، بفعل فاعل.

ولاحظ الرجل أن الأصوات حين يخفّ وقعها وتعجز عن إسقاط الأوراق يقتصر أذاها على دفع الورق نحو الشحوب، تتهيّأ للسقوط ولا تسقط.

وقد تطوّر الأمر إلى تخلّق كائنات صغيرة تأكل أغصان الأشجار من أطرافها الطريّة، كائنات تحقد على الشجرة حتى إفنائها أكلاً.

ولاحظ أيضاً أن هذه الكائنات ذات تكوين عضويّ وغير عضويّ في آن، إذ تبدو في أحيان كثيرة مجرد كلمات متكررة في شكل حشرات، كلمات تبخّرت معانيها تحت شموس متعدّدة لم يبقَ منها سوى قوة شرسة تدمّر الجميل والبريء، بدءاً بالأشجار.

إنه قدر الأشجار البائس في عهد الخطب الصاخبة الفاقدة المعنى والجمال.

ليس قدر الأشجار وحدها بل هو قدر لبنان الذي نراه يتفتّت قطعة قطعة من دون أن يعبّر عن آلامه. كانت الأزمات السابقة تترافق مع أعمال أدباء وفنانين. نذكر جيّداً غناء فيروز على هامش المأساة ومسرحيات زياد الرحباني الساخرة بمرارة، من دون أن ننسى مساهمات كثيرين من الفنانين والفنانات. وقد ترافق مع الحروب اللبنانية المتعاقبة شعر كثير، بعضه ذو نوعية مميزة لشعراء لبنانيين وعرب وأجانب. أما الرواية فيجوز القول إنها ولدت ونمت في الحرب، لأن الروائيين اللبنانيين في ما سبق كانوا قلّة وأعمالهم تعدّ على الأصابع.

كان لبنان نموذجاً للحياة الرغدة وشعبه يتمتّع بحريّة تغبطه عليها شعوب المنطقة، وكان المجتمع اللبناني دائماً اقوى من الدولة وأكثر رسوخاً، لكنّ قوته هذه نتاج وجود الطوائف وليس تقاليد في الحريّة أرستها مؤسسات حديثة كالأحزاب والنوادي. والحقيقة أن الطائفة في لبنان أكثر قِدماً ورسوخاً من الدولة، لذلك نلاحظ طغيان الطوائف اليوم وحبسها أنفاس الأفراد وحجرها آراءهم، كما أنّها تضرب أساس الدولة القائم على قانون واحد لشعب واحد أفراده متساوون.

الطغيان في لبنان موزّع على طغاة كثيرين، لكل منهم مساحة لاستلحاق أو لاستعباد جماعة محدّدة طائفيا أو جغرافياً، فلا يكاد لبنان يخرج من أزمة حتى يدخل في غيرها بحيث تبدو السياسة في ذلك الوطن القلق هي الأكثر تعقيدا وغموضاً ربما في العالم كلّه، في حين أن المجتمعات المتحضّرة هي تلك المميّزة بأشكال سياسيّة بسيطة على رغم أهميتها.

وفي الكلام على الطغيان والطغاة الصغار في لبنان، نذكر هذا المقطع من كتاب ” في السياسة” لأرسطو (نقله من اليونانية القديمة إلى العربيّة الأب أوغسطينوس بربارة البولسي ونشرت الترجمة اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع التابعة لليونسكو):

” ومن عمل الطغاة أيضاً، إغراء بعض المواطنين على الوشاية بالبعض الآخر، وتحريض الخلّان على خلاّنهم، وسواد الأمّة على وجهائها، وحمل الأغنياء على التطاحن بإنزال الفاقة بالمرؤوسين، (بأخذ) ثرواتهم وإنفاقها على الحرس كي لا يتفرّغوا بالدسائس والمؤامرات.

ومن طبع الطغاة أن يأنسوا بالغرباء في مآدبهم أكثر مما يأنسون بالمواطنين، وأن يؤلفوا ألأجانب في حياتهم اليوميّة، لأن المواطنين أعداء في ظنهم، في حين أن الغرباء لا ينافسون ولا يزاحمون.

والسياسات تتبدّل بلا ثورة بواسطة الدسائس، كما حدث في “هيرا”، فهم ، بعد أن كانوا يسندون مناصب السلطة إلى أصحابها بالإنتخاب، راحوا يسندونها إليهم بالقرعة، لأن أهل الدسائس هم الذين كانوا يفوزون بالإنتخاب.

إن خير مجتمع مدني هو الذي يعتمد على المتوسطي الحال، وإن الدول التي يتاح لها أن تحسن السياسة، هي التي تكثر فيها الطبقة الوسطى وتقوى فيها خصوصا على الطبقتين الأخريين، أو أقلّه على كل منهما”

العدد 117 / حزيران2021