جزيرة سماؤها مليئة بعصافير الذهب

   جزيرة راي 

  اسمها ليديا، شعرها اشقر طويل حتى خصرها، ترتدي فستاناً خفيفاً يلفه زنار ازرق يصبح شالاً حين تهب الريح. عمرها عشرون. مجهولة باقي الهوية. وصلت إلى جزيرة راي   اواخر العطلة.   المصطافون يتهيأون للرحيل وهي استأجرت دراجة هوائية انطلقت تلف الجزيرة في هدوء وصمت.

  الزوارق الشراعية تطفو على صفحة الرمل عندما يجزر البحر  طوال ست ساعات، خلالها يسترجع الشاطئ حدوده وتعوم المراكب المغمورة بالغرق.  البحر هنا قوي الرائحة،  لكنه يلامس فستان ليديا برفق، ويرافقها حول الجزيرة التي تشبه قالب حلوى. البلدات الصغيرة المنتشرة على شواطئها  بيضاء، متراكمة، ضيقة الشوارع، مكتظة المرافئ.  في وسطها تخضر المراعي والأحراج. المواشي ترعى غاطسة في نعاس خرافي، لا تعرف اي سيل من السياح والمصطافين، اي عدد من المخيمات والسيارات  لكن لعلها البوم تهمس  إلى الناس والعناصر: “غدا تعودون كلكم إلى بيوتكم . أجسامكم السمراء ترتدي ملابس الشتاء. عيونكم تسترجع جليد الرتابة. ابتساماتكم تخفت مثل شموع في آخر الليل. شوقكم إلى العراء والحرية يجعل اعصابكم محروقة وذكرياتكم تحولكم  شاردين في القطارات وفي اماكن عملكم. طويل حبل الشتاء، خاطفة كالحلم أيام العطلة. وانتم تلهثون وراء المكاتب والآلالت عاماً بكامله كي تتجمع في دفاتر توفيركم   ما يكفي  للهرب الى هذه الجزيرة حيث الشجر يهز رؤوس أغصانه حسرة على حالتكم !”

 توقفت ليديا في قرية لافلوت. نزلت عن دراجتها ودخلت وسط السوق الموسمية. لا تريد ان تشتري شيئاً بل تحب ان ترى، ان تملأ عينيها من هذا النبع الطريف، حيث العلاقة نابضة  بين الناس والأشياء. ثمة عجوز بالكاد تحرك اطرافها وقفت أمام كومة من احذية الكاوتشوك الرخيصة وأخذت تستعرض. ثم جلست على كرسي وجربت زوجاً اعجبها، ربما لأنه اراح أصابع قدميها فاشترته. وهناك بنت عفريتة في الخامسة من عمرها تتسلق   منصة بائع الألعاب وتقطف منها عشوائياً .   أحد الشبان الدراويش خلع سرواله وبدأ يجرب سراويل معروضة للبيع.  ثم  يصرخ الصيادون  :”ثمار البحر الطازجة! ثمار البحر هنا! ثمار البحر الطيبة!”

    في الطريق إلى سان مارتان، عاصمة الجزيرة، لاحظت ليديا بعض العبارات العدائية على الجدران موجهة الى السياح والمصطافين، وتذكرت أن المزاج الحار الذي يميز اهالي راي ليس ذراعين مفتوحتين لناحية استقبال الناس ومعاملتهم في روح مرحة ، فالريح الكورسيكية الجنوبية التي تلفح الجزيرة من بعيد تترك آثار الحزم وضيق الخلق في الطبائع. ولا شك ان الذين كتبوا:”ايها المصطاف إياك ان تغلط!” هم شبان غاضبون لرؤية جزيرتهم يكتسحها سيل الغرباء. السيارات المتجهة إلى نقطة الإتصال باليابسة تتوالى في سرعة لتعبر الجسر الموقت بين الجزيرة ومركب النقل، فبالنسبة إلى الكثيرين انتهت العطلة وآن وقت الإياب. وبينما تتوغل ليديا في قلب الجزيرة غير آبهة للوقت، حرة مثل شعرها المستسلم لمداعبات الهواء، يحس كثيرون من أولئك العائدين نحو المدن الكبيرة ان قلوبهم بدأت تخفق بالحزن والحنين.

   وقبل ان تدخل دراجة ليديا إلى سان مارتان انعطفت يميناً في طريق ترابية متوسطة الوعورة، مليئة بالتلال والوديان الصغيرة، وجدت فيها ليديا نوعاً من التسلية فأخذت تتحاشى السقوط في الحفر حتى وصلت إلى البناء الأثري الذي لفها وشدها إليه. انها كنيسة قديمة لم يبق منها واقفاً سوى الجدران، سقفها السماء ونوافذها الريح، ومديرية الآثار سيجتها وتركت  يافطة قربها تقول:”ممنوع الدخول. تنقيب عن الآثار” وفي أسفل اليافطة قصة  كنيسة دحرتها الحروب منذ العام 1586.

  في سان مارتان مقهى من الطراز القديم حافظ على معالمه المرفأية رسام وشاعر من أبناء المدينة فابقى   أصغر التفاصيل كما كانت في القرن الثامن عشر. ويحمل المقهى  اسمه “سيرجي”. اوقفت ليديا دراجتها. اسندتها إلى الجدار وجلست إلى كوب من عصير الليمون، وجهها إلى المرفأ المزروع مراكب وزوارق. قربها بحار عجوز نحاسي الوجه، ابيض الشعر، يدخن غليوناً معقوفاً ويحتسي كوباً عريضاً من الجعة. بعد قليل التفت   إليها وقال من دون مقدمات: “هل تعرفين يا أرنبتي من أين اتت كلمة مايونيز؟”  ليديا الهادئة     اضطربت كأن حبة حصى احدثت دوائر في مياه وجودها. لكن العجوز افادها قائلا:  “كلمة مايونيز اتت من بور ماهون وهو إسم مرفأ   في الجهة الثانية من جزيرة راي،  ، وكما تعرفين، ان المايونيز صلصة عليك ان تعلمي ان اختراعها لم يكن وليد صدفة عادية. فأثناء الحروب الدينية التي عصفت بمنطقتنا في القرن الثامن عشر قرر ريشيليو ان ينهي وجود البروتستانت في فرنسا اينما كانوا، وخاصة في هذه المنطقة البحرية التي وصلتها العدوى اللوثرية من انكلترا. وكان في بور ماهون شاب يعمل طاهياً وهو بروتستانتي قبض عليه جنود ريشيليو وأخذوه إلى السجن. وكما فعلت شهرزاد في الأسطورة الفارسية لتنقذ رأسها فأخذت تقص حكايات على شهريار . . . عرض الطاهي على ريشيليو أن يطبخ له صلصة ما ذاق مثلها في حياته. وبما ان اسم الشاب  بورما هون   سميت الصلصة ماهونيز .. ثم ارتدت ملابس العوم فاصبحت مايونيز”.

 الضحك وعصير الليمون البارد رطبا حلق ليديا ومزاجها فودعت البحّار وعادت إلى دراجتها لترى اكثر قبل هبوط الليل.  اتجهت نحو قرية بحرية صغيرة تدعى آرس، والشمس آخذة في الإتكاء على الغروب، تحجبها، أو تطلق سراح اشعتها   غيوم  بيضاء  مسافرة حسب أشرعة الريح. في الطريق رأت ليديا غابة صغيرة من أشجار الصنوبر فعرجت تملأ صدرها بالرائحة الطيبة. انها غابة   تروس شوميز. ويعود تاريخها الى العام 1630 خلال هجمة من بحارة باكنغهام هربت منها آنسات وسيدات راي، لكن البحارة طوقوا الغابة بعدما نهبوا الأهراء. وبعد ان سكروا انضموا الى حفلة تمزيق تنانير واسعة النطاق!

في الطرف الشرقي من الغابة تبدو قلعة فوبان على تلة متوسطة الإرتفاع. وهي  قلعة حربية من القرون الوسطى تحولت إلى سجن نزل في زنزانته عدد كبير من الثوريين الفرنسيين الأوائل سنة1871. واليوم تحتوي قلعة فوبان 500 سجين. . .غير ثوريين! جلست ليديا تحت شجرة صنوبر وفتحت كتاباً صغيراً للشاعر الشعبي المحلي فيليب شاباني قرأت فيه هذه الأبيات في وصف راي:

“جزيرة تحت سماء مليئة بعصافير الذهب.

جزيرة تبدو أبعد من الضباب.

وحدها تصلح ملجأ لكل الظنون التي تلدها النار.

جزيرة هادئة مستطيلة، خضراء جميلة.

جزيرة ظلها لطيف، أمسياتها مشعة.

جزيرة، في ليالي الصمت،

 تتقد كالجواهر فيها العيون السوداء العاشقة”.

   وفي مطعم قرب المرفأ، جاعت ليديا وتناولت صحناً ساخناً من شورباء السمك المعروفة هناك باسم “شودري”. إلى جانبها جلست امرأة في مقتبل خريف العمر وشرعت تنهب طبقاً مترامي الأطراف من ثمار البحر  في محاولة يائسة  بل مستميتة لتنشيط حيويتها. وخارج المطعم وقف عازف قيثارة يدندن ويغني. ثم جاء نافخ النار وأخذ يملأ فمه كازاً ويبصق لهباً أحمر. ثم الشارع كله ارتدى أزياء العيد ونزل الضيوف والسياح وكل من لف لفة السهر، حتى شعرت ليديا ان المرفأ سيرتمي في البحر من شدة الإزدحام  فنهضت ودوّرت عجلات دراجتها من جديد صوب الربوع الخالية.

 كانت النجوم رمانات  نشرتها اصابع الليل رداءاً واسعاً يطير في هواء خفيف. وكانت ليديا على دراجتها تتجه نحو منارة تغمز الأفق وتجلب المراكب المتأخرة نحو الشاطئ الأمين. انها “منارة الحيتان” القديمة المرتفعة على لسان من اليابسة يمتد أكثر من ألف متر داخل البحر. ضوء الليل الغشاش يبدو في متناول العين، ولكنه بعيد. وليديا علقت عينيها في المنارة وصممت على الوصول، مهما طالت المسافة.

مصباح “منارة الحيتان” قوته مئة وستون الف شمعة ويسطع حتى مسافة تقرب السبعين كيلومتراً في أشد الليالي ظلاماً.  حركة الضوء تنطلق في أربعة اتجاهات يعقبها خفوت مدته 15 ثانية. وإلى جانب المنارة متحف بحري كان في الماضي برجاً للمنارة القديمة. المخروط الشعاعي يبسط نوره على السهول ويكشف البيوت البيضاء والممالح والقباب والقناطر والشجر. طيور البحر يجذبها الضوء فتهجم نحوه  وترتطم بزجاج المصباح ثم تهوي دون حراك على قاعدة المنارة. حول هذا المنظر كتب اوجيني فرومانتان، وهو رسام ومؤلف من لاروشيل: “اعتقدت ان ذلك المكان هو لا شك آخر الدنيا . وبقليل من المخيلة يمكننا ان ننقل هذه القطعة من الأرض إلى أي كوكب آخر، ونفترض اننا في زورق تائه ونود الإقتراب الى تلك اليابسة بأي ثمن، لأنها شديدة الغرابة وشديدة الإغراء”

  ومن أجل ذلك الضوء البعيد وتلك الشواطئ المجهولة، كثيرون ركبوا البحر وتشبثوا بحبال الخطر. فليديا ليست سوى رمز لشباب وشابات هذا العصر الذين يهربون كل يوم في ألف وسيلة ووسيلة نحو الأمكنة العذراء بحثاً عن منارة جديدة تضيء لهم ملامح المستقبل.