الموسيقى الشعبية اليونانية

“البوزوكي” أصداء  الغائبين والغرباء والغجر

  اثينا ـ جاد الحاج

 الموسيقى الشعبية اليونانية المعروفة   باسم “بوزوكي” لم تعد نقراتها الحادة العصبية، ذات الوقع المتوسطي الكئيب،  اسيرة   أزقة بلاكا او اثينا القديمة او    المقاصف الليلية   المشتتة على زرقة بحر ايجه. فبعد أقل من قرن على نشوئها  نراها اليوم  وقد الهمت  عدداً من الموسيقيين اليونايين الكبار مثل ثيودوراكس  وحجيداكيس وعشرات غيرهما، بل تحولت من منشأها المتواضع الى بصمة هوية للهوية اليونانية المعاصرة.

  لكن أين بدأ البوزوكي؟ وكيف تكونت مجموعة الألحان النا بعة منه   ؟

 مع  بداية انحسار الاحتلال العثماني لليونان والسجون مليئة بأشخاص من الأوساط الشعبية والمثقفين، حاول بعض هؤلاء  صنع آلات صغيرة تشبه العود التركي. استعملوا جوزة هند فارغة وقطعة خشب وبعض الأوتار المتوفرة، ومن نجاح الى فشل الى نجاح مستجد  ولدت النسخة الأولى من آلة البوزوكي. لاحقاً ظهرت مؤثرات   التقاسيم التركية والعربية على تلك الالحان، ولكن مضمون الأغاني جاء بوهيمياً يونانياً مئة في المئة.

 وكان أولئك السجناء، عندما يخرجون إلى الحرية من جديد، يلتقون في المقاهي والمرابع السرية  خلايا الرفض والاحتجاج. وكانت حياة المقهى او التكية هي المكان الحقيقي الذي شهد ولادة الأغاني الشعبية اليونانية التي ما زال بعضها رائجاً حتى الآن،  في مدن مثل لاريسا وهيرموبوليس وفي جزيرة سيروس حيث تطورت اولى قصائد البوزوكي، وكان السنطوري (آلة تشبه القانون) هو الآلة الرائجة آنذاك الى أن ظهر الباغلاما، او البوزوكي الصغير الذي تطور داخل السجون.

    في الأعوام الممتدة بين 1904 و1920 ولدت الأغاني اليونانية البوهيمية في المهجر الأميركي. معظمها يحمل جرحة الحنين   للعودة  ، غير انها كانت مأخوذة إلى حد ما بالمثال الأميركي فأفرزت عدداً من  النجوم الذين تأثروا بموسيقي الزنوج في الولايات المتحدة. ومن الأسماء التي حلقت في الخمسينات ماركوس وستراتوس. غير ان فاسيليس تسيتسانيس هو نجم الريمبتيكا الأقدم حتى امس قريب.  أغنيته الأولى “لهذا ادور في شوارع أثينا” ما تزال”جديدة”  نسبة الى كثر مع انها تعود الى سنة 1973.  لقد طوّر فاسيليس اسلوبه والتقى سوتيريا بيللو فشكل معها ثنائياً شهيراً، خاصة ان سوتيريا كانت صورة المرأة اليونانية المتمردة التي دخلت السجن مرات عدة وكان صوتها من اجمل الأصوات في تأدية اغاني البوزوكي.  ولها في الأذهان صورة البطلة الشعبية.

 فاما اليوم ففي نظر الأقدمين ضاعت الأصالة وتدخلت الموسيقى الالكترونية في روح الريمبيتيكا.  لذلك نجد الكلاسيكيين امثال ثيناسيس ثيناثيو منعزلين . . . فثيناسيس يعيش وحيداً في جزيرة ايغينا التي لا تبعد أكثر من ساعة ونصف عن مرفأ بيريوس، مهد البوزوكي.  احيانا يستطيع بعض الأصدقاء المقربين  إقناعه بالعزف والغناء في تافيرنا صغيرة، فيأخذ إحدى آلاته المشغولة بيديه ويغني:

“لا يمكنك ان تتنبأ بما سيأتي/ انها طبيعة الدنيا والحياة/ يمكنك ان تستطلع الماضي فقط/ لكن لا ينشغل بالك على المستقبل/ القدر سيمنحك فرحا تحبه/ وسيبليك أيضاً بضربة على الرأس/ لذلك يا صديقي لا تشغل بالك الآن/ دع حياتك تسير في هدوء/ ومن وقت إلى آخر قل: اللعنة/ الحياة مسخرة وهي تضحك منا/ انها حياة مرة في بعض الأوقات/ والقدر عندئذ يفرك يديه مبتهجاً بتعاستك / لذلك يا صديقي اشرب ولا تذكر كلمة غداً .

   على رغم سنه والحياة الهائجة التي عاشها كان ثيناسيس يغني بإيقاع شاب وبانسحاق حالم يأسر القلوب.   ولطالما نوى اصدار اسطوانة مزدوجة لأفضل أغانيه والحانه، لا لأنه  أحب الشهرة بل “هل يترك الراعي اغنامه شاردة قبل أن يذهب إلى النوم؟” بحسب قوله. وهذا في نظره يعني  انه لا يريد ان يترك أغانيه مشردة. لكن ما العيب في تسجيل الإسطوانات؟ ابرأي ثيناسيس أن البوهيمي لا يتعامل في أي حال من الأحوال مع المؤسسات. واصحاب دور   الأسطوانات وتوزيعها في رأيه كلهم لصوص لا يحترمون الفنان بل يهمهم الإتجار بفنه وسرقة موهبته .

عاد   ثيودوراكيس الى النبع الشعبي ليغرف منه في تأليف موسيقاه البارعة، وشهدت اثينا  في ايامه ردة واسعة النطاق نحو احياء موسيقى الريمبيتيكا والاعتراف اخيراً بأنها الموسيقى الشعبية اليونانية دون منازع. ولعل هذه الردة تشبه ما حصل في لبنان في بداية السبعينات  عبرالفورة الزجلية، مع فارق وحيد  هو ان الزجل يقوم على الكلمة وحدها والبوزوكي يقرن الكلمة بالموسيقى.

هنا بعض الأغاني العائدة الى فترة “المانغاس” كنماذج مترجمة في تصرف تلقي ضوءاً، شحيحاً من دون شك، على طبيعة المضمون الذي انشده البوهيمون الأوائل:

*الليالي بدونك*

   “الليالي التي اعيشها وحيدا/ دون امل/ وحيداً أسير في الشوارع/ امام قضبان نافذتك/ امضي ساعاتي الحزينة/ كم اتمنى لقاءك/ مرة ثانية/ ونفرح كما في السابق/ امنحك قبلاتي من جديد/ فيهجرني حزني القاتم/ لكن هناك انت في الغربة/ من يعرف مكانك الان/ اتساءل اذا كنت تفكرين به/ ام تتعذبين من أجل واحد آخر” –

 مؤلفها هاسابيكو. انشدها بابايانو عام 1950.

*في اعماق منتصف الليل*

   “في اعماق منتصف الليل/  قرعة على بابي/ لكن لا أرى أحداً/ من يمكن ان يكون هذا؟ ماذا يريدون؟/ في بيت العنكبوت حيث انا/ ماذا انتظر على كل حال/ لا ام لدي ولا اخوة/ لا شقيقات في انتظاري/ اذوب في سريري/ انتظر الموت/ وساعة الجدران تقود الجنازة/ خلصيني ايتها العذراء/ إرأفي بشبابي/ أبعدي الموت عن حياضي/ لا أريد أن أراه/ وساعة الحائط تقود طليعة الجنازة” –

 غناء بللو تأليف تاكيس لافيدا 1950.

*سأخلصك*

   “لم أكن رديئاً أبداً في حياتي/ حتى لو طعنتني سأشعر بالأسف من أجلك/ الآن عواصف الحياة تعذبك/ سأخلصك من الكارثة/ أصدقاؤك تركوك والريش كله طار/ واذا ضاع شبابك فانك كما انت بالنسبة الي/ كنت دائماً صديقك وسأحبك دائماً/ وفي الطريق الذي سلكت/ كانت عيني دائماً عليك” –

 تأليف زيمبيبيكو. ينشدها بابايانو عام 1950.

*في حمامات القسطنطسنية*

   “في حمامات القسطنطسينية سبايا محروسات من اجل علي باشا/ يامر حراسه لإحضارهن امامه/ فيرقصن ويعزفن البوزوكي/ النارجيلة يدخنها مع حشيشة تركية/ والغانيات يرقصن بارداف كالزئبق/ هكذا عاش الباشوات في هذا العالم/ مع الموسيقى والمداعبات والقبل” – وضعها ارتيميس وانشدها كثيرون منذ العام 1935

العدد 117 / حزيران2021