فلسطين:  قضية العالم من جديد

من القدس إلى غزة مرورا بالمدن العربية في إسرائيل  وقلق لدى العواصم الدولية

 محمد قواص

أيان كانت مآلات الصراع العسكري بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة إلا أن الحدث شكل تحولا نوعيا لافتا في وسائل الرد الفلسطيني وطبيعته وتصادف في لحظة دولية إقليمية بات فيه الواقع الإسرائيلي نافرا ومنفرا ولا يتسق مع منطق التحولات الجارية سواء على مستوى نشوء نظام دولي جديد أو على مستوى نشوء نظام إقليمي تتشكل معالمه. وفيما أرادت إسرائيل أن تكون المواجهة تقليدية من حيث أنها موجة تصعيد تظهر فيه تفوقها العسكري والسياسي والدبلوماسي يتم بعدها تدخل الوسطاء لإرساء تهدئة، فإن ما حصل من تطورات داخل إسرائيل نفسها معطوفا على تغير في لهجة العواصم الكبرى لا سيما واشنطن رفع مستويات الإرباك لدى القيادة الإسرائيلية، سواء تلك المعنية بالشؤون العسكرية والأمنية أو تلك الحكومية التي يقودها بنيامين نتنياهو.

القدس – غزة

والحال أن ما تغير هذه المرحلة يرتبط بطبيعة اندلاع المواجهة العسكرية. فالمعركة لم تندلع كما في السابق على خلفية تصعيد ثنائي الأطراف بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بقيادة حركة حماس، بل أن الحرب اندلعت لأسباب فلسطينية عامة لا غزية خاصة، من حيث أن صواريخ الفصائل أتت لتدعم الحراك الفلسطيني الأهلي في مدينة القدس دفاعا عن قضية حي الشيخ جراح. بمعنى آخر فإن غزة كانت امتدادا طبيعيا للقدس، فيما أظهرت انتفاضة الفلسطينية في مدن وقرى أراضي الـ 48 الواقعة داخل إسرائيل أن الفلسطينيين يدافعون في تلك اللحظة على جانبي الخط الأخضر عن قضية واحدة على نحو لم تعرفه جولات المواجهة السابقة بين إسرائيل وقطاع غزة.

والأمر لم يمنع من نشوب جدل حول وجاهة تدخل فصائل غزة لعسكرة حراك مدني في القدس كان له صداه الواسع في العالم. ويدور الجدل حول ما إذا كانت فصائل حماس والجهاد الإسلامي وبقية المجموعات الفلسطينية المسلحة تسعى لاستثمار نجاح ورواج حدث القدس الاهلي المدني خدمة لأجندات ما، خصوصا تلك التي قد تكون مرتبطة بأجندات خارجية. ولئن تدافعت وجهات النظر في هذا الشأن بين منتقد لتدخل الصواريخ الفلسطينية وما توفره لإسرائيل من حجج لردع عسكري تملك التفوق به على عكس ما لا تمتلكه في الرد على حراك المقدسيين المدافعين عن بيوتهم وحقهم التاريخي في البقاء في أرض أجدادهم، وداعم لتدخل قطاع غزة لدعم المقدسيين ومنع استفرادهم في معركتهم السياسية الثقافية القانونية مع الاحتلال. وأيا كان مآل هذا الجدل فإن ديناميات الحدث تتالت وتوالت وأنتجت وقائع جديدة ومستجدة لا يمكن إلا الاعتراف بها، ليس من قبل الفلسطينيين فقط بل من قبل المحيط القريب والبعيد المنخرط في قضية الصراع في الشرق الأوسط.

وبعيدا عن أي شعبوية عاطفية يثيرها الحدث الفلسطيني، فإن الأمر بمعانيه السياسية يعيد تعويم بوصلة فلسطين وتصويبها داخل الدائرتين الدولية والإقليمية. تعود فلسطين لتكون قضية دولية بامتياز تتصدر شغل الإعلام في العالم كما أجندات العواصم الكبرى. يثبت الحدث من جديد أن تقدم وتراجع “القضية” ما زال في يد الفلسطينيين وحدهم ويخضع لحسن استثمار حراكهم ووحدتهم وجودة قرارتهم. ولا يمكن استبعاد تسرّب أجندات ما فوق فلسطينية، لكن السلوك الأهلي والسياسي والميداني الداخلي كان بإمكانه تقليص هامش تلك الأجندات لصالح الدينامية الداخلية وحدها. يشكل الحدث مناسبة عربية إقليمية وروسية صينية كما أوروبية أميركية لإعادة تموضع خلاق كان بليدا في السنوات الأخيرة أمام واقع  جماد إسرائيلي وجد له رواجا وازدهارا في عهد ترامب ورواج صفقته.

والعبرة في البناء على الحدث في الداخل والخارج، وعدم التعامل معه كجولة من الجولات التي يتم وأدها من خلال الوساطات المتعجلة، والتوقف عن تلفيق تسويات مؤقتة وتأجيل الاستحقاقات الحقيقية وتهميشها وإغفال أوزانها في راهن المنطقة ومستقبلها.

ولا بد هنا من التوقف عند مفاصل أساسية ميّزت أوجه الصراع وأدواته هذه المرة بحيث تفسّر التحولات البيتية الداخلية الفلسطينية كما تلك التي أظهرها الخارج في التعاطي مع المناسبة.

الشيخ جراح

اندلعت مواجهات القدس بعد أيام على صدور قرار عن القيادة الفلسطينية برئاسة محمود عباس يقضي بتأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية والتي كان من المقرر إجراؤها في 22 أيار / مايو الماضي. وقد أطاح نفس القرار ولنفس الأسباب بالانتخابات الرئاسية للسلطة الفلسطينية التي كانت ستجري في أواخر تموز (يوليو) المقبل. وبرر الرئيس الفلسطيني قراره برفض إسرائيل السمح للفلسطينيين في مدينة القدس بالمشاركة في هذه الانتخابات.

صحيح أن الرأي العام الفلسطيني كما التيارات السياسية الفلسطينية أجمعت على انتقاد قرار الرئيس الفلسطيني واعتباره حجة للتهرب من إنجاز استحقاق انتخابي لم يحر منذ آخر انتخابات تشريعية عام 2006، إلا أن إثارة مسألة القدس، حتى لو كانت حوافز عباس تقوم على حسابات سياسية ذاتية، أعادت، وربما من حيث لم يقصد، تعويم قضية القدس بصفتها لب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وليست ملفا ملحقا أو ثانويا. وقد أخذت عواصم العالم علماً بحيثيات قرار الرئاسة الفلسطينية من حيث ربطه بقضية القدس. وسواء جاءت ردود الفعل الدولية حزينة محبطة من قرار تأجيل الانتخابات وفق ما صدر عن الاتحاد الأوروبي مثلاً، وجاءت حيادية لا رأي بها على نحو ما صدر عن إدارة الرئيس جو بايدن في واشنطن، إلا أن سقوط الخيار الانتخابي الفلسطيني ارتبط بالنسبة لتلك العواصم بمصير القدس والموقف من راهن المدينة وواقعها السياسي المقبل.

ويأتي هذا التطور ليكون لافتا مناقضا لإرادة الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بالاعتراف

قضية حي الشيخ جراح تحولت إلى قضية عالمية

بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل وبنقل السفارة الأميركية إليها. ولئن لم يلق القرار الأميركي آنذاك إلا تأييدا هامشيا من بعض دول العالم فيما تمسك المجتمع الدولي بالقرارات الدولية بشأن واقع المدينة، إلا أن الحدث أسقط محرما في هذا الشأن وزين لإسرائيل أمر انتهاء الصراع حول المدينة لصالح الرواية الإسرائيلية وحدها. حتى أن قرار إسرائيل بمنع إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية داهل القسم الشرق من القدس مرده اعتبار إسرائيل باعتراف الولايات المتحدة بوحدة المدينة واعتبارها بشقيها الغربي والشرقي عاصمة لها، وبالتالي فأنها أرادت من خلال هذا الرفض استبعاد أي احتمال قانوني يشكك بسيادة إسرائيل الكاملة على المدينة.

والحال أن تحرك الفلسطينيين دفاعاً عن حي الشيخ جراح ودفاعا عن تقاليد العيش التي يمارسها الفلسطينيين في مدينتهم وأحياءهم إبان شهر رمضان المبارك أعاد تظهير الواقع العربي للمدينة أمام العالم أجمع وأطاح بالرواية التي اعتقدت إسرائيل أنها باتت منجزة. ثم إن طبيعة ذلك الحراك المرتبط بموائد الافطار الجماعية والتجمع الرمضاني في بعض أحياء المدينة جرد التحرك الأهلي من أي حسابات سياسية عامة مرتبطة بأية أجندات للتيارات والفصائل، ورفع القضية إلى العالمية بصفتها مسألة إنسانية حقوقية مرتبطة بحالة احتلال تسطو على ممتلكات الفلسطينيين دون أي اعتبار لقوانين دولية ومقررات أممية.

بايدن في البيت الأبيض

يأتي الحدث أيضا على خلفية سياسية إسرائيلية تتواكب مع حالة التأزم السياسي لدى الطرف الفلسطيني، سواء في جانب الانقسام بين سلطة في قطاع غزة وسلطة في الضفة الغربية أو في إلغاء الانتخابات التشريعية التي سببت إحباطا لدى الشارع الفلسطيني. ويتمحور مكمن الأزمة الإسرائيلية في العجز، بعد إجراء أربع انتخابات تشريعية، عن تشكيل حكومة وازنة مستقرة بسبب عجز الطبقة السياسية الإسرائيلية عن إنتاج أغلبية انتخابية بإمكانها تحقيق ذلك.

وتعبر الأزمة عن انشقاق مجتمعي وسياسي على نحو فسيفسائي يصعب صهره داخل بوتقة حكم ذي مصداقية. ولئن يميل المجتمع الانتخابي الإسرائيلي إلى التيارات اليمينية التي تنوعت وتعددت ويبتعد عن مكونات اليسار ودوائره، إلا أن الأمر يكشف أيضا عن انشقاق داخل المجتمع اليميني نفسه وتباين رؤاه حول مستقبل إسرائيل وإدارة شأنها الراهن. ولطالما استفاد بنيامين نتنياهو من ذلك الانقسام الذي يمنع بروز قيادات منافسة ما يجعله القائد الوحيد القادر على جمع الأضداد على نحو ميكيافيلي انتهازي يبرر المدة الطويلة التي يحكم فيها إسرائيل.

ويجب ملاحظة أن منهج اليمين بقيادة نتنياهو قد تلقى ضربة كبرى بعد فشل دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. فقد فعّل ترامب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وهو قرار كان قد أصدره الكونغرس الأميركي عام 1994 ولم ينفذه أي رئيس أميركي على الرغم من العلاقات الأميركية الإسرائيلية الاستراتيجية والرعاية التي تقدمها كافة الإدارات، الديمقراطية والجمهورية، بإسرائيل. ومع ذلك فإن ترامب مثّل، مع فريقه المختص في شأن ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بقيادة صهره جاريد كوشنر، سندا شخصيا كبيرا لنتنياهو من الصعب أن يجده لدى أي إدارة أو رئيس أميركي آخرين.

صحيح أن إدارة جو بايدن الحالية تدعم إسرائيل كما حال الإدارات السابقة، إلا أن إطاحة بايدن بصفقة القرن الشهيرة والتذكير بأن الضفة الغربية أراض محتلة والتلميح بأن القدس ليست مشاعا إسرائيليا لا تفاوض حوله وإرساله مبعوث خاص من أصول لبنانية (هادي عمرو) لتخفيف التصعيد، يمثل تطوراً لافتا وحب التوقف عنده والبناء عليه والذي

الرئيس الفلسطيني ألغى الانتخابات بسبب رفض إسرائيل تصويت القدس

يجبر إسرائيل على إعادة التموضع وفق معطيات جديدة لم تتعود عليها قبل ذلك. وقد يؤسس التحول في المواقف التكتيكية الأميركية إعادة الاعتبار لقوى دولية وإقليمية أخرى لتلعب أدوارا وازنة في مسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ذلك أن تلك الأدوار كانت مهمشة لصالح الدور الأميركي وحده.

تحولات الشرق الأوسط

وليس هامشيا أخذ عوامل إقليمية دولية أخرى في قلب الحدث الفلسطيني. أول هذه العوامل المفاوضات التي كانت تجري في فيينا حول تفعيل الاتفاق النووي مع إيران وعودة الولايات المتحدة إليه في الوقت الذي يندلع فيه الصراع في فلسطين. بدا واضحا أن خلافا كبيرا في وجهات النظر قد سجل بين إسرائيل والولايات المتحدة على خلفية عداء إسرائيل التام لإعادة العمل باتفاق فيينا لعام 2015، أو على الأقل عدم الرجوع إلى هذا الاتفاف دون أي تغيير جذري على بنوده. وعلى الرغم من إرسال إسرائيل وفودا أمنية في محاولة لإقناع واشنطن بالعدول عن مسألة التخلي عن سياسة الضغوط القصوى التي مارستها إدارة ترامب على إيران، إلا أن واشنطن عبرت عن تمسكها بالعودة إلى الاتفاق النووي مع الأخذ بعين الاعتبار بالهواجس الأمنية الإسرائيلية.

ومن العوامل الأخرى بدء تواصل بين إيران والسعودية في محاولة لإجراء حوار بغية التوصل إلى تفاهمات تنهي حالة القطيعة التي توجت بقيام الرياض يقطع علاقاتها الدبلوماسية مع طهران عام كانون الثاني / يناير 2015 بعد قيام محتجين إيرانيين على إحراق منشآت دبلوماسية سعودية  في إيران. ويعتبر أمر هذا الحوار، الذي كشفت عنه وسائل إعلام غربية قبل أن تعترف به منابر الرياض وطهران الرسمية، تحولا في علاقات البلدين. وقد أعلن أن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي هو من توسط بين البلدين لإجراء هذا الحوار وأن بغداد استضافت جلساته فيما تردد أن الحوار يجري أيضا في عواصم أخرى، على ما لمّح وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين. صحيح أن نتائج الحوار ليست مضمونة بالنظر إلى تجارب البلدين السابقة ولتعقد ملفات الخلاف الثنائي والإقليمي، إلا أن الحدث يسدد ضرية إلى إسرائيل من حيث أنها ستكون طرفا نافرا عن أي تفاهمات إقليمية في المنطقة لطالما دعت إليها روسيا وعمل على الترويج لها وزير الخارجية سيرغي لافروف لدى الدول المعنية.

ويأتي موسم التحول الجاري في علاقات تركيا مع المنطقة العربيىة من بين العوامل التيب وجب التنبه لها في محاولات فهم الحدث الفلسطيني. والحال أن ورش لتحسين العلاقات تقوم بين تركيا ومصر من جهة وتركيا

المعركة من غزة تأتي هذه المرة لنصرة القدس وقضيتها

والسعودية من جهة أخرى. وإذا ما قادت هذه الجهود التي تدفع بها سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المستجدة، فإن الأمر من شأنه إحداث خرائط جيواستراتيجية في المنطقة ستحدد خطوط اصطفافات كثيرة قد لا تكون لصالح موقع إسرائيل في الشرق الأوسط.

على أية حال وجب النظر إلى الحدث الفلسطيني من ضمن سلسلة واسعة من التحولات الجارية في العالم. وجب أيضا أن يوضع الحدث داخل المواجهة بين الغرب عامة وروسيا والصين وما يشكله الأمر من عودة إلى أدواب وأبجديات الحرب الباردة. وجب وضع التطور داخل نزوع أميركي استراتيجي للتحلل من صراعات المنطقة وتخفيف حضور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والذي بدا واضحا في قرار إدرة بايدن الانسحاب الكامل من الانخراط في الشأن الأفغاني. لا يعني الأمر حدوث انقلاب تاريخي في موازين القوى، بل أن تبدل خطوط الخرائط والمصالح سيربك ستاتيكو كان قائما منذ عقود لصالح القراءة الإسرائيليىة للصراع بما يتيح دخول عناصر جديدة وقوى جديدة قد تساهم في إحداث تطورات جديدة من المبكر استشراف مآلاتها.انتفاضة العرب في إسرائيل

أعلنت إسرائيل حالة الطوارئ في مدينة اللد، لاحتواء التظاهرات التي نظمها المواطنون الفلسطينيون في المدينة، التي تعد من المدن المختلطة التي يقطنها اليهود والعرب. ويعد هذا التطور سابقة لم تقدم عليها إسرائيل منذ انتهاء الحكم العسكري الذي كانت تفرضه على فلسطينيي الداخل في عام 1966. ويمنح إعلان حالة الطوارئ شرطة الاحتلال صلاحية فرض حظر التجول وتقييد حركة المواطنين، إلى جانب التوسع في تنفيذ عمليات الاعتقال.

القوة الإسرائيلية وحدها لم تعد كافية لتهدئة الصراع

وتدل هذه الخطوة على أن إسرائيل تنظر بخطورة بالغة إلى انضمام فلسطينيي الداخل لمسار المواجهة، إسناداً لغزة التي تتعرض لعدوان، وانتصاراً للقدس والمسجد الأقصى، إذ إنها جاءت بعد أن عجزت شرطة الاحتلال عن وضع حد للتظاهرات في المدينة التي شُلت الحياة فيها.

ويتخوف الاحتلال من انعكاسات احتجاج فلسطينيي الداخل على نسق الحياة في إسرائيل. ودفع ما جرى في اللد المفتش العام للشرطة الإسرائيلية كوبي شفتاي إلى اتخاذ قرار بدفع الكثير من القوات إلى المدينة، لمحاولة السيطرة على الأحداث، ونقل مقر إقامته شخصياً إليها. وحسب شفتاي، فإن التظاهرات التي شهدتها المدينة فاقت في قوتها واتساعها تلك التي نظمها فلسطينيو الداخل في أكتوبر/ تشرين الأول 2000، إثر إقدام شرطة الاحتلال على قتل 13 مواطناً فلسطينياً.

وحرض الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، في بيان ضد فلسطينيي الداخل في اللد، معتبراً أن “مشهد الاعتداء المنظم في اللد، والاضطرابات في جميع أنحاء البلاد، من جانب مجموعة من العرب المتعطشين إلى الدماء وإصابة الناس وإلحاق الضرر بالممتلكات ومهاجمة الأماكن اليهودية المقدسة، أمر لا يغتفر”.

وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تعلن حالة الطوارئ إلا في مدينة اللد، إلا أن خريطة المدن والبلدات في الداخل الفلسطيني التي شهدت تظاهرات واشتباكات كبيرة مع شرطة الاحتلال كبيرة، إذ شملت التجمعات البدوية في النقب، وعكا، ومدينة أم الفحم، وحيفا، وجسر الزرقا، وغيرها. ولم تشمل التظاهرات التي نظمها فلسطينيو الداخل فقط مواجهات مع الشرطة، بل أيضاً اشتباكات مع المستوطنين، في ظل مزاعم للشرطة بأن المتظاهرين الفلسطينيين،

أزمة إسرائيل وراء ارتباكها أمام الحراك الفلسطيني

تحديداً في اللد وعكا، قاموا بإحراق عشرات الحافلات وعدد من المنازل والمحال التجارية التابعة للمستوطنين.

وفي النقب، زعمت شرطة الاحتلال أن شباناً فلسطينيين من القرى البدوية في المنطقة قطعوا الطرق التي يسلكها المستوطنون، وعطلوا الحركة فيها لمدة طويلة. مع العلم أن هذه الطرق تربط وسط إسرائيل بعدد كبير من القواعد العسكرية داخل النقب. وحسب ما ذكره موقع “والاه” فقد اعتقلت شرطة الاحتلال، منذ الليلة الماضية، أكثر من 200 مواطن من فلسطينيي الداخل.

وترى إسرائيل بخطورة بالغة مظاهر الاحتجاج في مناطق فلسطينيي الداخل، ليس فقط بسبب نتائجها المباشرة المتمثلة في الاشتباكات مع الشرطة والمستوطنين، بل أيضاً بسبب انعكاساتها المتوقعة، في حال اتساعها، على نسق الحياة في إسرائيل ذاتها.

ففلسطينيو الداخل يعيشون إما في بلدات ومدن ملاصقة للتجمعات الاستيطانية، أو يقطنون مع المستوطنين في المدن المشتركة، ما يزيد من خطورة هذه التظاهرات، وما يمكن أن ينجم عنها من احتكاكات خطيرة مع المستوطنين. وإذا كانت المواجهة المتواصلة مع غزة يمكن أن تنتهي في غضون أيام، كما حدث في الحروب والجولات السابقة، فمن الصعب التحكم بمصير مواجهات واسعة بين فلسطينيي الداخل وسلطات الاحتلال والمستوطنين، بسبب حالة الاحتكاك الدائم واللصيق.

ومع أن هذه المواجهات قد اندلعت تضامناً مع غزة، وتعبيراً عن الانتصار للقدس، إلا أنها تحركها أيضاً عقود من التمييز الذي يعاني منه فلسطينيو الداخل بسبب سياسات إسرائيل. وكما يقول ممثلو فلسطينيي الداخل، فإن إسرائيل التي تبدي كل هذا القلق من ردة فعل فلسطينيي الداخل هي ذاتها التي لم تحرك ساكناً لوقف العنف داخل المجتمع الفلسطيني، على اعتبار أن هذا العنف لا يهدد مصالحها.

إلى جانب ذلك، تعي دوائر صنع القرار في تل أبيب أن تواصل التظاهرات سيمنح فرصة للجماعات اليهودية الدينية المتطرفة لركوب الموجة، وتأزيم الأوضاع، بشكل يفاقم التحديات والأعباء الأمنية على الحكومة والمؤسسات

قراءة بايدن تختلف عن قراءة ترامب في المسألة الفلسطينية

الشرطية. في الوقت ذاته، فإن اندلاع مواجهات كبيرة مع فلسطينيي الداخل، الذين تدعي مؤسسة الحكم في تل أبيب أنها تتعامل معهم “كمواطنين إسرائيليين”، سيمس بمكانة إسرائيل الدولية ويضفي مصداقية على الاتهامات التي توجهها المنظمات الحقوقية، وضمنها منظمات إسرائيلية، للسلطات الإسرائيلية بتعمد التمييز والإجحاف بحق هؤلاء الفلسطينيين.

قضية حي الشيخ جراح

تمتد جذور قضية حي الشيخ جراح إلى خمسينيات القرن الماضي، عندما قررت الحكومة الأردنية بالتعاون مع الأونروا توطين وبناء وحدات سكنية لـ 28 عائلة لاجئة من أراضي عام 1948 بعد تهجيرهم قسرًا من الداخل المحتل وحدات سكنية مقابل التخلي عن حقوقهم كلاجئين.

وتعاقد الأردن مع هذه العائلات على دفع إيجارات لـ 3 أعوان لتصبح المنازل بعدها ملكًا لهم، وانتهت عقود الإيجار عام 1959 لتصبح هذه العائلات مالكة لهذه العقارات.

وبعد احتلال القدس عام 1967، وضم الجزء الشرقي تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي توجهت لجان يهودية لدائرة الأراضي عام 1972 وسجلت ملكيتها لهذه الأراضي البالغة 18 دونمًا.

وذكرت جماعة “السلام الآن” الإسرائيلية أن مستوطنين قدّموا دعاوي إخلاء منازل الفلسطينيين، مدعين أنهم اشتروا الأرض بشكل قانوني من منظمتين يهوديتين

وأعلنت وزارة الخارجية الأردنية في 29 نيسان / أبريل الماضي عن مصادقتها على 14 اتفاقية وتسليمها لأهالي حي الشيخ جراح في القدس الشرقية عبر وزارة الخارجية الفلسطينية. وهي وثائق جديدة تضاف إلى مجموعة من وثائق سابقة كانت قد سلمتها أيضا للجانب الفلسطيني، تدعم تثبيت حقوق أهالي الحي بأراضيهم وممتلكاتهم. وتوضح أنها تعهدت بموجب الاتفاقيات أن يتم تفويض وتسجيل ملكية الوحدات السكنية بأسمائهم، ولكن نتيجة لحرب 67 فإن عملية التفويض وتسجيل الملكية لم تتم.

وأشارت وزارة الخارجية الأردنية إلى أنها زودت في وقت سابق، الجانب الفلسطيني بكافة الوثائق المتوفرة لديها والتي يمكن أن تساعد المقدسيين على الحفاظ على حقوقهم كاملة، من عقود إيجار وكشوفات بأسماء المستفيدين ومراسلات، إضافة إلى نسخة من الاتفاقية عقدت مع الأونروا عام 1954.

ونصبت موائد رمضانية للإفطار في حي الشيخ جراح تضامنًا مع الأهالي المهددين بالإخلاء، إلا أن هذه الموائد يتم تكسيرها من قبل المستوطنين تحت حماية جنود الاحتلال ليستمر الفلسطينييون بعدها بالمواجهات وهم صائمون. وتدخا الجنود في محاولة لتفريق الفلسطينيين باستخدام الخيالة وقنابل الصوت والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والمياه العادمة، في نفس الوقت الذي يردد فيه المستوطنون هتافات عنصرية ضد العرب والفلسطينيين.

وقد ارتفعت  أعداد الإصابات بسبب المواجهات من حالات اختناق ورصاص مطاطي وضرب وقمع وتكسير، كما اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي عددًا من الشبان المشاركين في الاحتجاجات. وأطلق مجموعة من الشباب الفلسطينيين مبادرات شبابية لدعم قضية حي الشيخ جراح على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف إيصال الحقيقة للمجتمع العربي والدُولي وزيادة التفاعل مع القضية. ولجأ العديد من أهالي الحي والمتضامنين معهم إلى خاصية البث المباشر على أنستجرام، لنقل الأحداث أولًا بأول بالصوت والصورة.

والأمر لم يمنع من نشوب جدل حول وجاهة تدخل فصائل غزة لعسكرة حراك مدني في القدس كان له صداه الواسع في العالم. ويدور الجدل حول ما إذا كانت فصائل حماس والجهاد الإسلامي وبقية المجموعات الفلسطينية المسلحة تسعى لاستثمار نجاح ورواج حدث القدس الاهلي المدني خدمة لأجندات ما، خصوصا تلك التي قد تكون مرتبطة بأجندات خارجية.

وبعيدا عن أي شعبوية عاطفية يثيرها الحدث الفلسطيني، فإن الأمر بمعانيه السياسية يعيد تعويم بوصلة فلسطين وتصويبها داخل الدائرتين الدولية والإقليمية. تعود فلسطين لتكون قضية دولية بامتياز تتصدر شغل الإعلام في العالم كما أجندات العواصم الكبرى. يثبت الحدث من جديد أن تقدم وتراجع “القضية” ما زال في يد الفلسطينيين وحدهم ويخضع لحسن استثمار حراكهم ووحدتهم وجودة قرارتهم. ولا يمكن استبعاد تسرّب أجندات ما فوق فلسطينية، لكن السلوك الأهلي والسياسي والميداني الداخلي كان بإمكانه تقليص هامش تلك الأجندات لصالح الدينامية الداخلية وحدها.

ويجب ملاحظة أن منهج اليمين بقيادة نتنياهو قد تلقى ضربة كبرى بعد فشل دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. فقد فعّل ترامب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وهو قرار كان قد أصدره الكونغرس الأميركي عام 1994 ولم ينفذه أي رئيس أميركي على الرغم من العلاقات الأميركية الإسرائيلية الاستراتيجية والرعاية التي تقدمها كافة الإدارات، الديمقراطية والجمهورية، بإسرائيل. ومع ذلك فإن ترامب مثّل، مع فريقه المختص في شأن ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بقيادة صهره جاريد كوشنر، سندا شخصيا كبيرا لنتنياهو من الصعب أن يجده لدى أي إدارة أو رئيس أميركي آخرين.

العدد 117 / حزيران2021