التصدي لليأس شجاعة نادرة هذه الأيام

قصة متفائل على شفى وادي قنوبين

بيروت ـ جاد الحاج

يتميز التوصيف الراهن للوضع اللبناني بتشاؤم لم نشهده إلا في الحربين العالميتينن، وفي المواجهات الدموية المدمرة التي طبعت   16  سنة من الحرب الأهلية مع ما رافقها من دمار مادي ومعنوي وما اعتراها من تهجير ومجازر أدت الى خسائر فادحة على كل المستويات، خصوصاً ما يتعلق بارتباط الانسان بأرضه . . . إذ وقعت أمواج من الهجرة والاغتراب في كل المناطق.   ومع انتهاء المقتلة جلس أمراء الحرب الأهلية على رأس السلطة المستجدة  حكّاماً لمرحلة جديدة، ممسكين بزمام الاقتصاد والمال والقضاء والمرافق الحيوية ، يستثمرون كل شيء بما فيه القمامة والمحروقات وكل ما يتعلق بالأشغال العامة والكهرباء والمياه… نعم لم ينتصر لبنان الدولة ولا تقدم لبنان الوطن نحو مواطنية محلومة تتخطى الطائفية والمناطقية والانتماء التقليدي للزعامات الموروثة وعلى رأسها الإقطاع،  بل ها هم قلة من أحرار اللبنانيين يدعون الى الانتفاض والثورة على كل ما آلت إليه نتائج الحرب الأهلية. لكن هؤلاء لم يتعلموا شيئاً لافتاً من ثورات الشعوب الأخرى ولا من الدروس التي باتت في متناول كل من يطلع على تلك الثورات ويحلل أسباب نجاحها أو فشلها. ولعل الدرس الأول والأهم هو أن يثور الإنسان على نفسه، أي أن يتمكن من نقد ذاته، وأن يبدي استعداداً حقيقياً لكي يتجاوز ضعفه وكل ما يؤدي به الى الانجرار وراء الطوائف والمحاصصات والوسائط وما تبقى من أمراض بات يعرفها كل مواطن لبناني.

 هنا تجدر الإشارة الى حديث خاطف بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لدى زيارته بيروت بعد فاجعة المرفأ  حين سالته إحدى صحافيات التلفزة اللبنانية  : لماذا لا تتخطى الزعامات المسؤولة عن هذه الفاجعة وتنتقل الى الحوار مع الثوار الموجودين على الارض؟ أجابها ماكرون: ” نحن نتعامل مع الذين انتخبهم الشعب وأنتم انتخبتم أولئك الموجودين في السلطة اليوم”. قد يبدو هذا الجواب قريباً من صفعة لا نعرف كيف تلقتها تلك الإعلامية إلا أنه جواب يعود بنا الى مراحل الثورة الفرنسية التي لم تتحقق أهدافها إلا بعد ما لا يقل عن مئتي سنة من انطلاقها. فالثورة ليست مجرد “فشة خلق” أو تعبير عن إحباط ويأس وتشاؤم. بل هي قيامة كاملة تنفض رماد العصور وخمول التخلف عن مجتمع بدأ يشعر بضرورة هدم الهياكل القديمة وبناء منازل جديدة لغده وغد أبنائه.

في تلابيب واقعنا اللبناني الراهن تتحول الكآبة الى يأس واليأس المستمر ينجب نوعاً من التشاؤم لطالما عبرنا عنه بفيض من اللعنات والشتائم ناهيك عن المبالغات المنتمية الى القول الشائع، أي الى اننا “نصنع من الحبة قبة” فتتحول الاوضاع المعيشية الصعبة الى دراما من الكوارث المروعة. لكن هناك من يرفض الركوع أمام الزمن الصعب، وفي ظل الواقع المأساوي  الذي يعيشه  اللبنانيون اليوم، يبدو عثورنا مستحيلاً على متفائل يجهر بتفاؤله وينهض الى أفق لا يخطر ببال المتشائمين:

خلال الحرب الأهلية (1975-1990) غادر سايد حربية لبنان الى الولايات المتحدة طلباً للراحة والسلامة والأمان. وحين كان في زيارة الى جزر الكناري نزل مع عائلته في فندق صغير يضم بركة سباحة ومطعماً ونادياً للرياضة. وفي تلك الأثناء كان سايد يعمل وكيلاً لمصانع آلات كهربائية ويملك شركة مالية باسم “كونتوار لبنان” إلا أنه بدأ يفكر باستثمار أقرب الى مكان سكنه في زغرتا، وأقل تعقيداً من مسائل الاستيراد والتسويق، فلما رجع الى لبنان وجد فندقاً على منعطف في قرية سرعل القريبة من إهدن. وكان الفندق برسم البيع فاشتراه وبدأ بتحسين غرفه ومظهره، لكنه حافظ على اسمه “لوتورنان” اي المنعطف. وفي الاراضي المجاورة للمبنى الرئيسي قرر سايد بناء مجموعة من الشاليهات مطلة على الجبال المجاورة ووادي قنوبين الشهير. وبدأ يستقبل الوافدين من المهاجر والمغتربات وعدداً من السياح العرب والأجانب الذين عادوا بعد انتهاء الحرب الأهلية الى زيارة لبنان وكان معظمهم يبحث عن مكان هادئ وبعيد من الضوضاء. رويداً رويداً أحرز “لوتورنان” نجاحاً ملحوظاً جعل صاحبه يندفع باتجاه بناء فندق حديث من ثلاث طبقات ، وأضاف إليه سنة 2014 حديقة للأعراس باتت مع الوقت تحاكي أجمل الحدائق المماثلة على صعيد الالكترونيات والتوزيع الموسيقي الاحتفالي إضافة الى الزينة المكثفة التي باتت مرغوبة جداً في السنوات العشر الأخيرة. واتسعت صالة الأعراس لألف شخص يعلوها شلال ماء ينهمر من فوقها نحو صالة الاستقبال وتنعكس عليه الانوار الملونة التي تحاكي “سيول” الموسيقى المنبعثة من كل الجهات.

 يقول سايد حربية: “إن جائحة كورونا كبحت الخطوط التصعيدية لنجاح الفندق وتوابعه”. وفي السنة الفائتة كان مثل غيره من أصحاب الفنادق الاصطيافية حائراً في التدابير الكفيلة بالحفاظ على موظفيه والاستمرار باستقبال زبائنه. ولذا حافظ على الاسعار القديمة التي سحقها ارتفاع الدولار الاميركي فلم تعد قيمتها أكثر من “رمزية” نسبة الى المصاريف والأجور ناهيك بأسعار كل شيء يحتاجه المطعم والفندق والمسبح…

أما هذا الموسم فقد رأينا قفزة ملحوظة في مسار التصدي للظروف الصعبة  : المسبح اتسع وبات يحتوي على مكان مخصص لاستراحة الرواد حيث يبقون على شفير القفز الى الماء ومن جهة اخرى يستطيعون الاستلقاء على فراش مستقل… ويتوزع الباقون على مساحة واسعة تحيط بالمسبح وتتصل بالمطعم بشكل مباشر. أما الأسعار فرفعها سايد حربية بما يتلاءم مع ارتفاع الدولار ولكن من دون مبالغة أو جشع. وفي النتيجة ما لبث “لوتورنان” أن امتلأت غرفه بالوافدين من المهاجر والمغتربات وعدد ملحوظ من الرواد القدامى ومعظمهم مهاجرون ينتمنون الى القرى المجاورة وقد عادوا لتمضية فصل الصيف في منطقتهم المفضلة.

يقول سايد حربية انه واجه سؤالاً صعباً في البداية: ماذا لو طالت مدة الجائحة وتراجع موسم الصيف الى قحل عرفناه في سنوات الحرب الأهلية  ؟ ألا نخسر كل شيء؟ لكنه رفض قبول الخسارة المتوقعة وقرر ان يقتحم التوقعات اليائسة والسيئة وان يجدد مشروعه ويوسع بيكار علاقاته ويتكل على بكره بشير وزوجته وعدد من أبناء المنطقة الذين تهافتوا لدعمه ومساعدته بما لديهم من إمكانات مهنية ومادية.

والواقع أن سايد حربية استطاع أن يتنفس الصعداء لدى رؤية التجاوب الكثيف من المغتربين والمقيمين وأيضاً من السياح العرب الذين يفضلون الابتعاد عن المصائف المزدحمة والشواطئ التي لا تخلو من التلوث مع الأسف!

ويختم سايد حربية حكايته بالقول: “كثرة التشاؤم قد تقودك الى قليل من التفاؤل لكن كثرة التفاؤل لا تضرك أبداً!”.

العدد 120 / ايلول 2021