باريس تقيّد تأشيرات الجزائريين وماكرون يفتح ملفات حسّاسىة بين البلدين

فرنسا والجزائر:  التاريخ المعقّد والراهن الصعب!

محمد قواص

لم تستطع وفرنسا والجزائر، وعلى الرغم من مرور ستة عقود على استقلال الجزائر تجاوز عقد الماضي ووجع الذاكرة بين البلدين. خمدت حمى الكراهية والأحقاد بين فيتنام والولايات المتحدة مثلا على رغم من ضراوة الحرب التي خيضت بينهما، وبات البلدان يحظيان بعلاقات متقدمة. لكن علاقات باريس والجزائر بقيت متعثّرة مشوهة على الرغم من العلاقات الاقتصادية والسياسية، وعلى الرغم من التنقل والإقامة النشطين للجزائريين بين ضقتي البحر المتوسط. والظاهر أن “حرب الجزائر” ليست من الماضي لدى البلدين، بل ما زالت جزءاً من النقاش السياسي الذي يحتد ويستعر كلما احتاجا إلى ذلك لدواعي موضوعية عادلة أو لدواعي تتعلق بالأجندات السياسية المحلية لهذا الطرف أو ذاك.

 تتبادل باريس والجزائر هذه الأيام الخدمات التي من شأنها مقاربة استحقاقات الداخل في البلدين. تعاني فرنسا من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية يشتد الحديث عنها بضراوة قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية في نيسان (أبريل) المقبل. وتعتري النظام السياسي في الجزائر أزمة داخلية عبّرت عنها بوضوح انتخابات تشريعية قوبلت بحرد شعبي يمثّل حال التباعد المقلق ما بين الجزائريين ونظام الحكم في بلادهم والذي لم تعالجه وعود ما بعد الحراك الشعبي.

الذاكرة الصعبة

يلجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تناول ملف شديد الحساسية، ليس في علاقات بلاده بالجزائر فقط، بل في الجدل الفرنسي الداخلي المتعلّق بتقييم تاريخ فرنسا ودورها حين استعمرت الجزائر عام 1830 ولمدة 132 عاماً، كما النقاش المستعر حالياً حول الموقف من الهجرة والمهاجرين. في الجزائر من يرى، ومن على منابر الدولة، أن فرنسا ما زالت حتى الآن، وبعد ستة عقود على خروج قواتها من البلاد، أصل البلاء ومصدر علل البلاد. وفي فرنسا من يأخذ، حتى الآن، على باريس وشارل ديغول التخلي عن “الجزائر الفرنسية” وما أحدثه ذلك من مآس لفرنسا والفرنسيين المتحدرين من هناك.

بين البلدين خلاف حول قراءة المشترك في تاريخهما. لكن أمر رفع مستوى التوتر حول هذا الخلاف موسميّ ظرفي، له علاقة بحاجة البلدين إلى إثارة مسائل الماضي خدمة لأغراض الحاضر. ولئن درجت حكومات الجزائر على

الرئيس عبد المجيد تبون: غضب الجزائر

“الاستفاقة” على هذا الجدل الجلل كلما تأزّمت أوضاع الداخل وشعرت بالحاجة إلى تبرير شرعية النظام السياسي في البلاد (“ريع الذاكرة” حسب ماكرون)، فإن هذا الملف لطالما كان في فرنسا مادة سجال تستخدمها أحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية لشدّ عصب قومي فرنسي يمجّد الحقبة الفرنسية في الجزائر من جهة، ويصبّ جام غضبه على الهجرات التي ما زالت الجزائر تقذفها باتجاه فرنسا.

السجال الصاخب

غير أن للنزاع التقليدي بين البلدين عبق آخر هذه المرة. فأن يتناول رئيس فرنسي، لا سيما إيمانويل ماكرون، رؤية بلاده الفجّة للجزائر، فإن ذلك ليس موضوعا عابرا أو زلّة لسان غير مقصودة، ذلك أن للموقف المنسوب للإليزيه تداعيات مباشرة على العلاقات الرسمية بين البلدين. بكلمة أخرى، أراد ماكرون في 30 أيلول (سبتمبر) أن يخرج بمطالعة استفزازية تتساءل عن وجود “أمة جزائرية” قبل الاستعمار الفرنسي منتميا في تساؤله إلى الخطاب الفرنسي القديم الذي يبرر استعمار بلدان تقطنها قبائل متناثرة لا تجمعها أمة. أراد أيضا أن يلقي بنظرياته أمام جمهور هو جزائري الأصول. وأراد لهذا الكلام أن ينتشر على النحو الذي عرضته صحيفة “لوموند” العريقة. وربما أيضا أراد استدراج حكومة الجزائر إلى ردّ فعل لافت، وربما صاخب، على النحو الذي قامت به فعلا باستدعاء سفيرها وإقفال أجواء الجزائر أمام الطيران العسكري الفرنسي.

من حقّ الجزائر أن ترفض الفتوى التي أصدرها ماكرون عن “الأمة الجزائرية” وتاريخ وجودها، وأن تنفي زعمه بأن تاريخ البلد “أعيدت كتابته بالكامل ولا يستند إلى حقائق إنما على خطاب يرتكز على كراهية فرنسا”. وبغض النظر عن وجاهة أو جوف تلك المزاعم فإن الجزائر انتهزت مناسبة لا تفوت (مرة أخرى) لإظهار حرص وطني على الدفاع عن البلد وتاريخه. وربما من حق الجزائر  أيضا أن لا تسمح بأن يكون البلد -الذي خضع لاستعمار فرنسي سيء الصيت- مادة ينهل منها المرشح إيمانويل ماكرون خدمة لحملة انتخابية يتسابق داخلها مع اليمين

الهجرة الجزائرية: الملف الصعب

المتطرف الذي تحتل رموزه ميدان النقاش في فرنسا هذه الأيام. ويدفع التنافس السياسي الراهن في فرنسا نحو النهل من قيم الشعبوية اليمينة التي يروج إيريك زمور (اليهودي المتحدر من أصول جزائرية) لها ببراعة هذه الأيام والذي يعتبر أن “لا وجود للجزائر بل هي اختراع فرنسي”، فيما تتراجع مساحات اليسار والوسط في هذا البلد.

النشيد الوطني الجزائري هو النشيد الوحيد في العالم الذي يتوعّد دولة أخرى. “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب..” وكلمات أخرى تربّت الأجيال على تعلّمها بما يجعل من “الوطنية” الجزائرية نقيضا لفرنسا (أو ما أسماه ماكرون كرهاً لها). والحال أن مفارقة تُسجّل في نظرة ماكرون إلى الجزائر في مقاربته لموقعه في رئاسة الجمهورية. زار الرجل الجزائر مرشحا لانتخابات الرئاسية في بلاده عام 2017 أعاد الزيارة بعد انتخابه واستقبل بحفاوة شعبية أذهلت الرئيس الشاب الذي انتزع منصبه بنسبة وصلت إلى 66.1 بالمئة. ندد الرجل هناك بالاستعمار واعتبره “جريمة ضد الانسانية”.

ماكرون: المصالحة

على طريق “المصالحة” شارك ويشارك ماكرون في احتفالات تذكارية في إطار الذكري الستين لنهاية حرب الجزائر ، وهي اليوم الوطني للحركيين، الجزائريين الموالين لفرنسا، وذكرى قمع تظاهرة للجزائريين بباريس في 17 تشرين الأول (اكتوبر) 1961، وذكرى اتفاقيات إيفيان في 19 آذار (مارس) 1962. تسلّم ماكرون من المؤرخ الفرنسي (المولود في قسنطينة في الجزائر) بنجامان ستورا تقريره عن الاستعمار وحرب الجزائر 1954 – 1962، والذي ضمّ مقترحات لإخراج العلاقة بين فرنسا والجزائر من الشلل الذي تسببه قضايا الذاكرة العالقة.

لم يستطع كل الرؤساء الفرنسيين منذ انتهاء الحرب هناك الذهاب بعيداً في ما تطلبه الجزائر من اعتذار تتقدم به فرنسا للبلاد. وحتى حين أدلى ماكرون بإدانة الاستعمار، فإن الرجل أعاد ضبط هذا الإيقاع واستخرج من توصيات ستورا الفتاوى المناسبة. باختصار فإن فرنسا “تعترف”، لكن “الندم والاعتذار غير وارد”.

في 20 أيلول (سبتمبر) أقام الرئيس الفرنسي في قصر الاليزيه حفل تكريم لـ “الحركيين” الجزائريين الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر، معلنا إقرار قانون تعويض قريبا. طلب ماكرون “الصفح” منهم باسم فرنسا، باعتباره أن البلاد “أخلّت بواجباتها” حيالهم. ذهب أبعد من سلفه فرنسوا هولاند، الذي أقرّ عام 2016  “بمسؤولية الحكومات الفرنسية بالتخلي عن الحركيين”. بالمقابل فإن الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة كان في عام 2000 قد وصف “الحركيين” بالعملاء.

لن تتصالح فرنسا والجزائر حول قضايا الذاكرة. متلازمة ستوكهولم قد تربط الجزائر والجزائريين بدولة الاستعمار القديم. فرنسا غادرت الجزائر قبل ستة عقود لكن فرنسا ما زالت حاضرة في لغة وثقافة وجدل الجزائريين كما أنها

إيريك زمور: الجزائر “اختراع” فرنسي

وجهة سفرهم الأولى حين ينوون اجتياز المتوسط صوب “الغرب” الكبير. على أن الارتباك المذهل في رؤية فرنسا يكمن في تمرين مزدوج ذهب إليه ماكرون، في السعي لمعالجة الاستعمار للجزائر ومداواة أوجاعه، وفي ذهابه بعدم الاعتراف بوجود “الأمة الجزائرية” قبل وجود هذا الاستعمار. وفي ذلك ما يعبّر عن استمرار باريس في التعامل مع الجزائر بصفتها مولودها الذي تستمر في الزعم بأبوته الأزلية.

والحال أن كثيرا من التكاذب ساد خطاب البلدين منذ ستين عاما. ما قاله ماكرون أخيرا يعبر عن فلسفة تفكير تم ضبطها في فرنسا، وما تقوله حكومات الجزائر لطالما تم انتقاده من قبل أصوات جزائرية دعت إبلى وقف الخطب النمطي للنظام الجزائري والذي ما زال ينهل شرعيته من حرب التحرير ومواجهة المستعمر الفرنسي. في الجزائر من يرى أن ستة عقود من الاستقلال لم تخلص الجزائر من عقدتي كره فرنسا أو الحنين إلى فرنسا. وفي فرنسا من يرى أن من يعترف أن الاستعمار هو “جريمة ضد الإنسانية” عليه أن يكمل هذا السياق بجرأة تخلّص البلد وأجياله الحالية من آثام جرائم ارتكبت في زمن غابر.

بين البلدين خلاف حول قراءة المشترك في تاريخهما. لكن أمر رفع مستوى التوتر حول هذا الخلاف موسميّ ظرفي، له علاقة بحاجة البلدين إلى إثارة مسائل الماضي خدمة لأغراض الحاضر. ولئن درجت حكومات الجزائر على “الاستفاقة” على هذا الجدل الجلل كلما تأزّمت أوضاع الداخل وشعرت بالحاجة إلى تبرير شرعية النظام السياسي في البلاد (“ريع الذاكرة” حسب ماكرون)، فإن هذا الملف لطالما كان في فرنسا مادة سجال تستخدمها أحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية لشدّ عصب قومي فرنسي يمجّد الحقبة الفرنسية في الجزائر من جهة، ويصبّ جام غضبه على الهجرات التي ما زالت الجزائر تقذفها باتجاه فرنسا.

لم يستطع كل الرؤساء الفرنسيين منذ انتهاء الحرب هناك الذهاب بعيداً في ما تطلبه الجزائر من اعتذار تتقدم به فرنسا للبلاد. وحتى حين أدلى ماكرون بإدانة الاستعمار، فإن الرجل أعاد ضبط هذا الإيقاع واستخرج من توصيات ستورا الفتاوى المناسبة. باختصار فإن فرنسا “تعترف”، لكن “الندم والاعتذار غير وارد”.

كثير من التكاذب ساد خطاب البلدين منذ ستين عاما. ما قاله ماكرون أخيرا يعبر عن فلسفة تفكير تم ضبطها في فرنسا، وما تقوله حكومات الجزائر لطالما تم انتقاده من قبل أصوات جزائرية دعت إبلى وقف الخطب النمطي للنظام الجزائري والذي ما زال ينهل شرعيته من حرب التحرير ومواجهة المستعمر الفرنسي. في الجزائر من يرى أن ستة عقود من الاستقلال لم تخلص الجزائر من عقدتي كره فرنسا أو الحنين إلى فرنسا. وفي فرنسا من يرى أن من يعترف أن الاستعمار هو “جريمة ضد الإنسانية” عليه أن يكمل هذا السياق بجرأة تخلّص البلد وأجياله الحالية من آثام جرائم ارتكبت في زمن غابر.

ماكرون: هل هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار؟

تبدو العلاقات بين الجزائر وفرنسا، وكأنها تتحرك من أزمة إلى أزمة، خلال الفترة الأخيرة، أما هذه الأزمة الأخيرة، فقد فجرتها التصريحات المنسوبة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتي نقلتها صحيفة “لوموند” الفرنسية، وهي التصريحات، التي لم تتوقف عند حد انتقاد النظام السياسي الجزائري، وإنما امتدت لتطال كيان الأمة الجزائرية وتاريخها ،بكل ما يحويه من جدل حول الحقبة الاستعمارية، والتي خضعت فيها للاستعمار الفرنسي.

وكان الرئيس الفرنسي، قد شكك في وجود أمة جزائرية قبل الإستعمار الفرنسي للبلاد، عام 1830 متسائلا: “هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟، وقال ماكرون خلال لقاء له مع مجموعة من الطلبة الجزائريين،ومزدوجي الجنسية في باريس، إن الرئيس الجزائري تبون رهين لنظام متحجر، مضيفا أنه “يجري حوارا جيدا مع الرئيس الجزائري” و”أرى أنه عالق في نظام شديد التصلب”.

التشكيك في وجود أمة جزائرية

وبعيدا عن انتقاد ماكرون، للنظام السياسي الجزائري، وأسلوبه في الحكم فإن التصريح الذي أثار ضجة واسعة، وردود فعل سواء على المستويين الرسمي والشعبي في الجزائر، كان ذلك المتعلق بتشكيكه، في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للبلاد.

وضمن حديثه الذي نقلته “لوموند” قال ماكرون “هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ هذا هو السؤال”، مشيرا إلى وجود “عمليات استعمار سابقة”. وتابع بنبرة ساخرة أنه “مفتون برؤية قدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماما الدور الذي لعبته في الجزائر والهيمنة التي مارستها”، في إشارة إلى الإمبراطورية العثمانية.

ردّ الجزائر

رد الفعل الرسمي الجزائري جاء قويا بعد نشر التصريحات المنسوبة للرئيس الفرنسي، إذ أعلنت الجزائر السبت 2 تشرين الأول/ أكتوبر، استدعاء سفيرها لدى فرنسا للتشاور، واصفة تصريحات الرئيس الفرنسي بال”غير مسؤولة”.

وقال بيان صادر عن الرئاسة الجزائرية، إن الجزائر ترفض رفضاً قاطعاً،أي تدخُّل في شؤونها الداخلية، وأضاف: “على خلفية التصريحات غير المفندة لعديد المصادر الفرنسية والمنسوبة للرئيس الفرنسي، ترفض الجزائر رفضا قاطعا أي تدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما جاء في تلك التصريحات”.

ليس التصعيد الوحيد

وتعد هذه المرة الثانية الثانية، التي تستدعي فيها الجزائر سفيرها لدى باريس، منذ مايو/أيار 2020،عندما استدعت سفيرها صلاح البديوي “فورا”، بعد بث وثائقي حول الحراك المناهض للنظام في الجزائر، على قناة “فرانس 5” والقناة البرلمانية، وتشهد العلاقات السياسية والدبلوماسية، بين الجزائر وباريس، توترا وفتورا منذ فترة، رافقها خروج العديد من الشركات الفرنسية من الجزائر، بعد أن رفضت السلطات الجزائرية تجديد عقودها.

وكانت الخارجية الجزائرية، قد أعلنت يوم الأربعاء 29 أيلول/سبتمبر، استدعاء سفيرفرنسا لدى الجزائر، للاحتجاج على قرار باريس الأخير، خفض عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين. وقالت الوزارة إن السفير فرانسوا غوييت تبلغ “احتجاجا رسميا، من الحكومة الجزائرية، على خلفية قرار أحادي الجانب من الحكومة الفرنسية، يمس بنوعية وسلاسة تنقل الرعايا الجزائريين باتجاه فرنسا”.

وأثار إعلان فرنسا الثلاثاء 28 أيلول/سبتمبر، عزمها تقييد منح التأشيرات لمواطني كل من الجزائر والمغرب وتونس، التي “ترفض” إصدار التصاريح القنصلية اللازمة، لعودة المهاجرين المرحلين من فرنسا، غضبا واسعا لدى مواطني الدول المغاربية الثلاث، غير أن الرد الرسمي كان متفاوتا بين الدول الثلاث، ففي الوقت الذي استدعت في الجزائر السفير الفرنسي لديها للاحتجاج، وصف وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، القرار الفرنسي بأنه “غير مبرر”، في حين اختارت تونس عدم الرد بشكل رسمي رغم تعبير مواطنيها عن غضبهم تجاه القرار.

فرنسا – الجزائر: أزمات الداخل

يرى بعض المراقبين، أن تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة بشأن الجزائر، وكذلك القرارالأخير، بشأن تقييد منح التأشيرات لدول المغرب العربي الثلاث، الجزائر والمغرب وتونس، يندرج ضمن مساعي الرئيس، لمغازلة جمهور أحزاب اليمين المتطرف من الناخبين الفرنسييين، قبيل الانتخابات الرئاسية القادمة، التي يتوقع أن يرشح فيها ماكرون نفسه والمقرر إجراؤها في نيسان/ إبريل من العام القادم.

ووفق تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، فإن بعض أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا، يعتبرون أن قرار تقييد منح التأشيرات، يهدف إلى استقطاب ناخبيها في الانتخابات القادمة، وتساءل البرلماني اليميني، أورلين برادي،عن مغزى توقيت هذه الخطوة، مع اقتراب الانتخابات الفرنسية، مضيفا في تصريحات صحفية “تتهافت الحكومة في الوقت الحالي لإظهار قدر أكبر من الصرامة والسلطة”.

ويعتبر البعض أن الرئيس الفرنسي، يواجه معضلات داخلية تتعلق بالبطالة والاقتصاد، وأنه لم يحقق الكثير مما وعد به الفرنسيين، ومن ثم فهو يسعى إلى مغازلة جمهور الناخبين، بقضايا تدغدغ مشاعرهم، فيما يتعلق بالمرحلة الاستعمارية، واستغلال قضايا المهاجرين لفرنسا، أملا في كسب أصوات ناخبي الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتي تركز خطابها تقليديا على تلك القضايا.

غير أنه وعلى الجانب الآخر، فإن بعض المراقبين يرون أن النظام السياسي الجزائري، يعيش نفس أزمة ماكرون، وأنه يبالغ كثيرا في ردود فعله، خاصة فيما يتعلق بالقضايا محل الخلاف مع فرنسا، في محاولة لتصدير أزماته الداخلية، وللتغطية على ضعف التأييد له، من قبل الشارع الجزائري، الذي مايزال جانب كبير منه، مؤمنا بأن الحراك الشعبي المطالب بالتغيير لم ينته بعد، وفي ظل ما مثله الضعف الشديد، في الإقبال على الانتخابات البرلمانية، التي شهدتها البلاد في حزيران/ يونيو الماضي، وسط شكاوى متكررة من قبل قطاع كبير من الجزائريين، من تفشي البطالة وارتفاع الأسعار، وتدهور البنية التحتية رغم غني البلاد بمواردها الطبيعية.

إيريك زمور: فرنسا أنشأت الجزائر

قال الكاتب السياسي واليميني المتطرف إريك زمور خلال مقابلة تلفزيونية أجرتها معه قناة “سي نيوز” الفرنسية إنه لم يكن هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي.

وبرر زمور ذلك بأن فرنسا هي من أنشأت الجزائر، فهي كانت مستعمرة منذ الأزل من قبل مستعمرين كُثر، من بينهم الرومان والعرب والإسبان والعثمانيين، وأخيراً الفرنسيين عام 1830، على حد قوله.

وأضاف المرشح المحتمل للانتخابات الرئاسية الفرنسية المُقبلة، أن النظام الجزائري المنبثق عن جبهة التحرير الوطني لا يتحدث إلا عن الاستعمار الفرنسي، وجرائمة، مؤكداً وقوع جرائم حقيقة، لكن في المقابل فإن الاستعمار الفرنسي أقام وفق تعبيره “المستشفيات والطرقات ومحطات القطارات والطائرات ومدن كاملة كالجزائر العاصمة”،مشدداً على أن الاستعمار العثماني لم يترك ولو مستشفى واحد على الأقل.

فرنسا – الجزائر: أزمة التأشيرات

فجرت قضية التصاريح القنصلية لإعادة المهاجرين الجزائريين غير النظاميين خلافا حادا بين باريس والجزائر، بعد قرار فرنسي بتقليص عدد التأشيرات، وصفه البلد العربي بالأحادي والمؤسف.

فقد أعلنت الحكومة الفرنسية، تشديد شروط منح التأشيرات لمواطني الجزائر والمغرب وتونس، وبررت خطوتها بدعوى رفض هذه الدول إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لإعادة مهاجرين غير نظاميين متواجدين على التراب الفرنسي.

والتصريح القنصلي عبارة عن وثيقة تصدرها قنصلية المهاجر غير النظامي في فرنسا تمكنه من العودة إلى بلاده في ظل عدم توفره على جواز سفر، ويتم إصداره بعد تأكد السلطات الدبلوماسية للمعني من أنه فعلا يحمل جنسيتها.

وحسب تقديرات غير رسمية فإن نحو 5 ملايين مهاجر جزائري أو أصوله جزائرية يتواجدون في فرنسا، وهي الجالية الأهم لهذا البلد العربي في العالم.

ويبرز مهاجرو الجزائر غير النظاميين في فرنسا في صدارة رعايا دول المغرب العربي المعنيين بالترحيل (صدرت بحقهم قرارات إبعاد من التراب الفرنسي) فرنسا بما يقارب 8 آلاف شخص.

وحسب وسائل إعلام فرنسية، فقد صدر 7731 قرار إبعاد من فرنسا بحق رعايا جزائريين في الفترة ما بين يناير/ كانون ثاني ويوليو/ تموز 2021، أوقف منهم 597 شخصا، ووقعت السلطات الجزائرية على 31 تصريحا قنصليا لإعادتهم إلى بلادهم.

وتقول السلطات الفرنسية إن مهاجرين غير نظاميين من الجزائر يعبرون حدودها البرية مع إيطاليا وإسبانيا، بعد أن وصلوا شواطئ هذين البلدين بحرا على متن قوارب صغيرة.

كما ترفض فئة من الجزائريين العودة إلى بلادها بعد انقضاء آجال صلاحية التأشيرات الممنوحة لهم من طرف القنصليات الفرنسية، ويصبحون في عداد المهاجرين غير النظاميين.

واستدعت الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي، فرانسوا غويات، احتجاجا على قرار باريس تشديد إجراءات منح التأشيرة لمواطنيها. وفي ديسمبر/ كانون أول الماضي، صرح وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، أن الرئيس إيمانويل ماكرون هو من قرر تقليص التأشيرات الممنوحة للجزائريين عام 2019 لوقف تدفق الهجرة غير النظامية.

ومنذ 2018 قلصت القنصليات الفرنسية عدد التأشيرات الممنوحة للرعايا الجزائريين.

وحسب بيانات رسمية للقنصلية العامة الفرنسية بالجزائر فإنه من أصل 504 آلاف طلب تأشيرة عام 2019، تمت الموافقة على 274 ألف طلب. ووفق البيانات ذاتها فقد منحت القنصليات الفرنسية بالجزائر (عددها ثلاث) 412 ألف تأشيرة في 2018 فيما فاق عدد الطلبات نصف مليون.

وفي رد لها على خطوة باريس، قالت وزارة الخارجية الجزائرية، إنها “تأسف” لقرار السلطات الفرنسية تقليص تأشيرات مواطنيها، عشية مباحثاتهما عن الهجرة.

واعتبر مبعوث الخارجية إلى منطقة المغرب العربي والصحراء الغربية عمار بلاني، في تصريحات لوكالة الأنباء الجزائرية الرسمية أن القرار الفرنسي “أحادي وغير منسجم وغير مناسب”. وأوضح أن “القرار المؤسف يأتي عشية سفر وفد جزائري إلى باريس بهدف تعزيز التعاون في إدارة الهجرة غير النظامية بين البلدين”.

وترتبط الجزائر وفرنسا باتفاقية للهجرة وقعت في فبراير/ شباط 1968، تضمنت مزايا وأفضلية للجزائريين مقارنة بباقي الجنسيات المغاربية والإفريقية. ومن المزايا المتضمنة في الاتفاقية، حق التملك (العقار) وممارسة التجارة ووثائق إقامة لعشر سنوات قابلة للتجديد وحقوق (معاشات) المتقاعدين والحق في لم الشمل العائلي بعد زواج جزائري من فرنسية أو العكس وغيرها.

في هذا السياق يرى مدير الهجرة السابق بوزارة الداخلية الجزائرية، حسان قاسيمي، أن تنقل الأشخاص والتأشيرات نحو فرنسا ملف قديم بين البلدين “ولطالما مارست به باريس الابتزاز والمساومة تجاه الجزائر”. وأوضح أن فرنسا تحاول في كل مرة أن تضغط على الجزائر بملف التنقل والتأشيرات أحيانا لأسباب اقتصادية وأخرى سياسية.

وتعيش شركات فرنسية وضعا صعبا في الجزائر منذ سنتين، تضاف على فتور سياسي بين البلدين.

وغادرت عديد الشركات الفرنسية السوق الجزائرية في قطاعات مختلفة على غرار البنوك والمياه والسيارات والمواصلات العامة، لأسباب مختلفة منها رفض الجزائر تجديد عقود تلك الشركات بدعوى فشلها بتسيير المهام الموكلة إليها، فضلا عن خلافات أخرى متعلقة برأس المال، الأمر الذي أثار حفيظة باريس.

وأضاف قاسيمي أن الدوائر الفرنسية يبدو أنها لا تتابع التطورات السياسية في الجزائر التي استرجعت كامل سيادتها في كل الجوانب ولا تقبل أي ابتزاز أو مساومة في المستقبل.

واعتبر أن الخطوة الفرنسية يمكن تفسيرها أيضا بالحملة الانتخابية المبكرة تحسبا للرئاسيات القادمة (2022) ولذلك هناك محاولات لاستقطاب الناخبين وكسب الشعبية.

وتوقع قاسيمي أن تتسبب الخطوة الفرنسية في تفاقم الهجرة غير النظامية بالنظر لكون دول الاتحاد الأوروبي وفرنسا متشددة في منح التأشيرات والهجرة الشرعية، وهذا يعني بالضرورة، حسبه، لجوء المهاجرين إلى الطرق غير النظامية.

من جهته وصف الناشط السياسي الجزائري، يوسف بوعبون، المقيم في مدينة مرسيليا الفرنسية، ما أعلنت عنه الحكومة الفرنسية بشأن تقليص تأشيرات الجزائرية، بأنه “تصعيد ومحاولة للضغط على الجزائر بكل الوسائل بالنظر لما خسرته باريس من صفقات اقتصادية”.

وأوضح أن شركات فرنسية عديدة غادرت الجزائر وخسرت صفقات كبيرة في ذلك البلد، ما دفع حكومة باريس لممارسة التصعيد.

وربط بوعبون بين الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة (2022) وخطوة تقليص تأشيرات الجزائريين، بالنظر لكون ماكرون مترشحا لها.

وقال: “بهذه الخطوة التعسفية فهو (ماكرون) يحاول إرضاء ناخبي اليمين المتطرف”.

وأشار بوعبون إلى أن الجالية الجزائرية هي الأكبر والأهم في فرنسا بتعداد يفوق 5 ملايين، ومن حق أي مقيم دعوة أهله في الجزائر لزيارته عبر تأشيرة.

العدد 122 / تشرين الثاني 2021