عندما أعلن الرئيس المسيحي: لا إله إلاّ الله

الدكتور نسيم الخوري

جلس فارس الخوري مندوب سوريا في مجلس الأمن في ال1946، و”ببساطة الفلاّحين وذكائهم”، على المقعد الخاص بالمندوب الفرنسي الذي فوجئ به يحتل مقعده. طالبه بالانتقال إلى مقعده المخصص بسوريا، فتجاهله ولم يلتفت إليه، وأخرج ساعته من جيب سترته وراح يتأمل فيها. استشاط المندوب الفرنسي رافعاً صوته شاكياً لرئيس المجلس الذي راح يقرع بمطرقته ومندوبو الأمم يستديرون نحو مصدر الضجيج. وقف الخوري أمام “الميكريفون” وخرق بالفرنسية صمت الجمع:

بالنظام حضرة الرئيس. نجتمع اليوم لنيل استقلال سوريّا. جلستُ على مقعد مندوبها 10 دقائق فرأيتم كيف جنّ جنونه وسادت الفوضى في القاعة. فرنسا قاعدة منذ 30 سنة وتحتلّ بلدنا. أما آن لنا أن نستقل وترحل عنّا.

صفّق الجمع وقوفاً…وكان استقلال سوريا.

أورد الإستهلالية هذه لخمسة دوافع:

1- إنّها بساطة الفلاحين، لأنّ يعقوب والد فارس الخوري كان نجارا لا “للموبيليا”، بل لعدّة الفلاحين القديمة. وكانت أمنيته أن يصبح ولده نجّاراً، بينما كان جدّه جبور “طبيباَ”عربيّاً يداوي في منطقة حاصبيا بالمجان، ويصنع العقاقير وقد تأثر به فارس كثيرا وتمدّدت شبكات التأثر والتأثير.أتصوّر بأنّ الحضارة بأبعادها الخطابية والكتابية والسياسية والوطنية لربّما جاءت أساساً من الحضارة الزراعية لأنّ الأثلام المستقيمة للفلاحين عندما تغور سككهم في الأرض هي القاعدة لا الأثلام المتعرّجة التي تُقشّر سطح الحقول. هو الأساس الجوهري في الكتابة والمواقف المستقيمة التي يمكن ربطها بالأثلام المستقيمة.

2- انفرط عقد السبحة العربيّة عندما حطّمت واشنطن وحلفاؤها باب بغداد من الشرق في ال2003، فهوى العراق مضرّجاً وارتجف العرب فانبثق من زهرة الياسمين التونسيّة ما سُمّي “الربيع العربي” بثماره وخرائبه لم تحقها الأذهان والأقلام. ودار دورته الدموية العربية وصولاً إلى سوريا التي لم تنم بعد كما العراق وغيرهما مع أنّنا نرى في الآفاق انقشاع في سمائنا الداكنة التي أتعبت العرب. الظاهرة الغريبة أنّ فارس الخوري بمواقفه وخطبه ونوادره ما زالت تتناقلها وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي من كافة الفصائل في سوريا مع أنّ الرجل المولود عام 1877، في الكفير في نائي الجنوب اللبناني وتوفي في العام 1963 وكنّا في زمن العثمانيين تابعين لدمشق.

3- نشرت مؤخّراً على الفيسبوك والواتس أب خاصتي، ينغّصني لبناننا المتعب، أنّ جدّنا “فارس الخوري المسيحي الذي كان وزيراً للأوقاف الإسلامية في سوريا، أبلغه الجنرال غورو أنّ فرنسا جاءت إلى سوريا لحماية مسيحيي الشرق، فما كان منه إلاّ أن قصد الجامع الأموي يوم جمعة  وصعد إلى منبره قائلاً: “إذا كانت تدّعي فرنسا أنّها احتلّت سوريا لتحمينا نحن المسيحيين من المسلمين، فإنني أعلن من هذا المنبر بأنْ “لا إله إلاّ الله”. وأقبل عليه الدمشقيون وحملوه وطافوا به أحياء دمشق القديمة في مشهدٍ شارك فيه المسيحيون وهم يهتفون معاً: “لا إله إلاّ الله”. لم يكونوا مسلمين ولا مسيحيين، ولكنهم كانوا سوريين وكانواعرباً. نشرتها يدفعني حنين هائل بعودة لبنان إلى اللبنانيين بل عودة العرب الى العرب. لا يمكن تصوّر التعليقات على هذه القصة وغيرها تتكرّر منذ ال2011.

علّقت الدكتورة فيوليت داغر من باريس:” بوركت شعوبنا بالعظام في هذه الأمة يستحقون تخليد ذكراهم والامتثال بنهجهم من اجيال الحاضر والمستقبل لبقائهم عبراً تُحتذى. إنها الثقة بالذات إذ ليس للقوى الظلامية وحدها كلمتها في مصائرنا، وانما قوة الإرادة والإيمان بحق الدفاع عن النفس والوجود كما عن الغير مهما اختلف النهج والانتماء، ولطالما الوطن للجميع والدين لله. يجب الإستفادة من الاعلام الافتراضي لنشر واسع لمثل هذه النصوص والفيديوهات والتعريف بمن رحلوا تاركين سيرة خالدة وطبعوا بصماتهم في حياتنا…نحن بحاجة لثورة ثقافية على الذات، لنبني مستقبلاً نخطه لمن بعدنا دون شعور بالذنب وتأنيب الضمير مما اقترفت أيدينا”.

4- في ال1974، رحت أنقّب في باريس في وثائق الخارجية الفرنسية المسموح بتداوله، ولم أجد سوى سطرين فقط لم ينشرا من قبل باللغة الفرنسية:

 Fares bey koury, avocat,chérifien,islamophile,….etc… deteste la    .homme rénal,écouté, retors,éloquent,très dangeureux France,

أي: “فارس بك الخوري، محام، زعيم ، محب للمسلمين . . إلخ . يحتقر فرنسا، يعشق الماضي، مسموع، داهية، فصيح، خطر جدّاً” .

لا أتصوّر أن لزعمائنا ومسؤولينا أكثر في أرشيف الدول العظمى، مع أنّ “ويكيليكس” أمس و” بندييرا ” أمس واليوم، تنشر محاضر الاجتماعات ووقائعها المُغيبة بين بعض زعمائنا ومبعوثي الأمم والسفراء ناهيك عن المحاصصات والسرقات ونهب الشعوب في لبنان وغيره من فضائح كارثية.

5- للتمييز بين عالمين: واحد تنتفخ فيه البطون الإمبراطورية والبشرية تبلع العالم ، وفيهم “مسيحيو” الغرب ساحبين حجر الزاوية من إيمانهم المسيحي القائل إنّ “مملكتي ليست من هذا العالم”، أو “أعطنا خبزنا كفاف يومنا” أو “لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض” إلى أمكنة أخرى خطرة يقودون في وعرها مسيحيي الشرق ولا تعني للغرب كثيراً. نقرأ إعلانات فوق لوحات الشوارع والساحات في أوروبا عن جوائز لمن يرتادون الكنائس للصلاة فيأتون للّقاءات وللسياحة والتقاط الصور التذكارية.

العالم الثاني عنوانه “الصحوة أو اليقظة الإسلاميّة” للمسلمين المتجذّرين في الشرق الذين يستعملهم الغرب عناوين للإرهاب، ليس عن طريق “ثورات الربيع” وحسب، بل للفوضى والحروب المفتوحة في كلّ الفصول والأزمنة التي لا يعنيها النصّ الإلهي، بل تمهيد الطرق تحقيقاً ليهودية “إسرائيل” وخرطها وتطبيعها في المحيط مردّدين الفاتحة: “اهدنا الصراط المستقيم … إيّاك نعبد وإيّاك نستعين”، التي تُبطل كنوز الأرض وتفضح نوايا الدول. لم يتغيّر مفهوم المقدّس في الغرب لأنه اكتسب الصفة التاريخية الدينية كمادة أبدية للبقاء وفي تصالح أبدي تمشي فيه الدنيا أمام الدين، لكن يستحيل على الإمبراطوريات تقشير الإيمان والاعتقاد نهائياً. إنّ الصين تملّك مثلاً، خمسة جبالٍ يقدّسها الصينيون، ويقدّسون قبر الfuxi  مخترع أسطورتهم الإيمانية، ولو كانت صور “ماو” قد بيعت في ساحة “تينانمان” ، بالمزاد العلني كصور “مقدّسة” للصينيين. “يتقدّس” المكان بتراكم العلاقات بين البشر التي تختار المكان وتقدّسه وتحفظ قداسته وترفع الهويات.

العدد 122 / تشرين الثاني 2021