نتذكر هنري حاماتي : مجدلون /الدفة

تحرك كل شيء في حياة هذا الرجل دفعة واحدة . حين تذكر العالم وتعامل مع بيروت كفكرة مثيرة . مدينة مثيرة ، قادرة على ثثمبن كل شيء من المشهد إلى اللغة . هنري حاماتي ، لم ينوجد يوماً في خفة منتقاة . لأن لم تتسق بالاستقرار ، من الإقامة إلى التحرير والتسطير. بين السطور ، وقف الرحل بواقعية أمام أوضاع تجريد معلق على سقف العالم في بيروت الحرب الأهلية . ما جعل حياته مجموعة من الارتحالات بين بيروت والكويت وباريس . رَّف فوق الأشياء كما ترف العصافير من العمل السياسي والفكري إلى التأليف المسرحي وعاطفة النضال من خلال الشعور بالآخرين . لم يحسب حياته مقطعاً وراء مقطع وهو يقود نفسه من الحزب السوري القومي الاجتماعي ، بعد انقلاب العام ١٩٦٢ إلى محترف بيروت للمسرح ، ومن عبقرية التجربة إلى تجميع آخر من تبقى في حقل نبضات الحزب إثر تحرره من نظام التعاقب والتراتبية في النظام اللبناني بالعام ١٩٦٨. إذاك خرج جزء من من شكلوا عقيدة الحزب من السجون إلى الكلمات والموضوعات ، بعد أن جرى إخفائهم في طرق منتقاة في الحزب . اتجهوا اتجاهاً معاكساً للنظام انتهى باعتقال القيادات واستخلاص الهاربين حيواتهم باللجوء أو تسيير الدفة بلا تحديد .وإذ حاماتي أن بعضهم تمركس وبعضهم تقومن وبعضهم خارج كثافة لغة الحزب وأفكار سعادة ، حاول أن يذكرهم بما افتقدوه ، غير أنهم لم يتجاوبوا بعد أن فقدوا أجزاء من صفاتهم في السجون والمعتقلات . بقي الرجل في افكاره ، أذاب نفسه بعيداً من الحشو وهو يقود التظاهرات من خلال معرفته الوافية بخطورة الأوضاع على الأرض . غير أن اضاع نفسه وهو يقود نفسه من الظلمة ، بين السياسة والايديولوجيا والثقافة والفن وأعمال الحزب الإدارية .ما بقي يوضحه حتى ايامه الأخيرة أن مجدلون أهم أعمال محترف بيروت للمسرح من تأليفه ، لا من تأليف المحترف . حين أكد أبطال المحترف أن الكلام هذا من وهالته لا من حقيقته . لا حاجة إلى ردع الرجل عن كلامه إذا ما قورنت مجدلون بأعماله الأخرى ، وهي تقوم على السرد التاريخي . لا وميض لغة ، لا شيء آخر سوى البحث عن شواهد تؤكد توجهه الأيديولوجي . مجلة فكر واحدة من انتاجاته الشكسبيرية، بعد سقوط المجلات الفكرية الذائعة في تلك المرحلة ، كمجلة شعر وافاق وحوار ومواسم . غير أن الرجل قاد نفسه إلى المزيد من الاختلاف مع نفسه ومع الآخرين وهو يردع شحن أفكار الآخرين أو في قفزه فوق العواصم ، كما لو أنه يقفز فوق المدائن . ذات أصيل كان جبران وماري( هاسكل ) سيناريو كتبه من اعماق فكره لا من فوق التلال الشاسعة للفن . لم يجئ السيناريو واضحاً بما فيه الكفاية ، لأنه راوح أمام أوائل الجمل الفعلية ، جمل لطالما استخدمها .

وحين غرق الحزب في محاولته الإنقلابية ، لاحظ قراء النهار في أحد الأيام البيروتية الذائعة الصيت أن ثمة من كتب مقالاً بعنوان بالأمس ولد حبيبي . أي أن أن الإنقلاب ولادة . جرأة ، لا تشكل سوى جزء من سلوكه . سلوك متمرد ، لم يتوقف عن التأليف إلى أيامه الأخيرة. أحدٍ ابرز مؤلفاته كتاب جماهير وكوارث واين نتجه . وحين مات ماتت معه انطاكية قمره الجميل ، من بقي يحن إليها وهي مطبوعة في ذاكرته كبلد ولادة . غرق الرجل في حب انطاكية الثقيل ، رقص عليها وطار . ثم مات دونها . ماتت انطاكية حين مات في العام ٢٠٢١، بعد أن تنقل حول العالم بما فيه الكفاية .وحين سقط ، سقطت ورقة صفراء على درب خريف البلاد ، بحيث كثرت الأوراق ورقة على جوانب الطريق العريض .. كل ورقة صديق،كل ورقة رفيق. ابطال ابجديات ، لم تثمر إلا حين أثمرت بيروت تركيباتها الذرية ، بعيداً من أزمنة العزلات ومفاهيمها . ذاك زمن الأيام والشهور والأعوام الذائعة والأسماء اللامعة على شواهد الحداثة والتحديث . زمن الجناني والجنيات ، لا الحماة والمحميات .

رقص الرجل في الفية ومات في الفية ، وهو يشعر بالحاجة الدائمة إلى ايضاح فلسفته . ولعل هذه واحدة من عناصر اعماله ذات المأثور الشعبي ، وواحدة من توجهاته المستمرة نحو اللحظة الواحدة . ما يعتبر قناعاً وقاء لا صهوة جواد . نقطة ضعف أن تغازل أقوالك أمام الآخرين على مدى أعوام . هذا يؤكد أنها شوكة لا نحلة واحدة ولا نحلات . لأنه اضحى وأمسى افلاطونياً وهو يتحدث عن النهضة ورجال النهضة ، وكأن الآخرين الفكر الآخر ، الأفكار ، حبة بندق فارغة . وهو لا يدري ان الزمن زمن الجوهر النهائي لتعددية الأفكار والأشياء والمناهج.

هكذا وقع هنري حاماتي على شجرة خريفه ، وهو لا يرغب سوى بالإقامة في صالته الخاصة ، في زمن جنت فيه الأحلام ، وهي تمسح بعيونهاالأسلاف وصولاً إلى روايات الخيال العلمي . ذلك زمن تواصل لم تنتصر فيه اعصاب رجل على أعصاب امرأة ، بحيث إذا مال جذع إمرأة على جذع رجل أحكم الغرام أنيابه فيهما كأنياب أفعى . آه ، تلك الأيام الجميلة . أيام الخصائص النوعية .شعر وفكر ونظرية ، مسرح وأدب ومذاهب وجودية وحسية . ان يتضمن كلام حاماتي جراء الأمر سوى تجلياته الأخيولية . لا أفلام شخصية ولا صور كثيرة. الصورة للضرورة والفيلم جزء من ظلام الصالة. ولى وجهه قبلته ، في كآبة مكثفة ومنحرفة ، حين لم يولِ أحدٌ وجهه إلى التعسف وهو يقدم ما يعتبره إدراكه إلى الآخر ، إلى الآخرين .اضحى العالم طاولة واحدة تتفكر فيها الأمم بالحروب النووية ، حين يتفكر فيها نهضوي بالنهضة وبالمدرحية. جوهرة سعادة ذات الدقائق القليلة والطويلة من الإحساسات . الأوراق على الطاولة. العالم واحد بلا عولمة. صراع العالمين الإشتراكي والرأسمالي، حوَّل العالم إلى عالم واحد. لا تعجل ولا نسخات مسروقة. لا ضرورة للتذكير بأن إشهار الفلسفات والإتجاهات والمناهج الكبرى أخذ أوامره من مناطق أبعد من الأدمغة استحقت الأوامر خرائط الصراع على العالم . ذاك زمن أفكار لم يدعُ فيها راهب ولا شيخ إلى هداية . افكار ولادة . ذلك أن لا أشكال بلا أفكار. لا أفكار بلا صراع . إنها مرحلة ولادة التغريب والأورغانون الصغير والبرلينر انسامبل والتبعيد ومسرح بوب ويلسون و” البريد أند بابيت” و” الليفينغ تياتر ” مع جوليان بك وجوديت مالينا ومسرح البورديل وعروض الكاراج والكباريه والجيب والطليعة ومسرح الوثيقة مع بيتر فايس. كيف إذن أن لفوز ان يصل إلى أرواح المعدن المختلفة وسط هذا العجيج وهو يبشر كالخوري بموضوع الاستعادة المتكررة . هكذا ضاع ، بدون أن يصل إلى تأليفاته الخاصة وهو يشدد على السمات المعروفة للقومية السورية والهلال الخصيب.

الفلسفات تغذي العالم ، وهنري حاماتي يؤكد أن أحداً لا يستأهل أن تغذيه سوى فلسفته ، في حياة هي حياة وعالم هو عالم ، لن نجده على الصفحات وهو يسخر من بعض أفكار الأفراد ” الفذة”. لم يعد الإنسان انساناً كاملاً ، مذ راح يخفي آثار الأكوان في نوع من الفكاهة المعرفية ، بعد أن أضحى التفكر المختلف رحلة العالم الحقة ، بعد أن وقع على عدد كبير من البسائط المستخلصة من العديد من التجارب والموضوعات . ثمة غيفارا واحد ، لا غيفارات . ثمة بواصل الطريق الواحد على الرغم من ذلك . ولكن حاماتي ظل يلقي بظلال الشك على العالم وعلى الشبكات المصيرية فيه وهو يمدح عرزال سعادة وبنطاله القصير وقصة شعره الأربعينية .

حين استعاد الرجل أقواله مراراً، سقطت أقواله على أرض يحبها . وهي أقوال يحبها ويؤمن فيها . لا شك بذلك . هاملت يناجي اوفيليا ، وهو يبتعد بمركبته عن ما شددت عليه الثورة البلشفية نجمة القرن العشرين والرأسمالية من لم يهدأ أبطالها وهم يحفرون للأولى طقوس دفنها. نحن مدينون للمرحلة هذه بتبادل الهواء بين الرئات ، مدينون بالقفز فوق التعثرات . لأن رجال ونساء المرحلة، رجال أمميون ونساء أمميات. لم يعثر الفنانون على سكاكين حفر التجارب بجيوبهم. لأن السكاكين وخزت الأرض، أرضهم ، حين سقطت من سماء الصراع بين المنظومتين . لم يستطع أحد وقف الزحف بعالم ظهر وكأنه بلا لصوص. لأنه عالم جو الغيوم إلى الغيوم. جر الحدث اللبنانيين من وراء ظهورهم ، حين سمح لهم أن يرموا ما يشاءون من النظرات وأن يعثروا على موسيقى تليق بهم . كما تليق بقلوب سوف ترحل بعيداً من ممالك الثلج. ثمة حزن ، غير أن لا خوف. هكذا سقط مرشدو السوء على الطرقات الواضحة. رأى اللبنانيون بيضهم بين الصخور ، بدون مرشدين. لأن مرشدهم، إنفتاحهم على نظام من الإشارات الصديقة، الطالعة من بيوت الأصدقاء في ارجاء العالم ، من وراء الحجب . أصدقاء بلا بروفايلات . ولأنهم هكذا : بدوا كما لو أنهم صديق واحد. المعسكر صديق إفتراضي . دب الفنانون والمثقفون على الثقافة كما يدب النمل في الدم . دبوا بالمسرح والتشكيل والسينما والقصة والرواية الجديدة. لم يخش أحد فرجينيا وولف وأبطال الرواية الجديدة اللابلزاكية ، ولا من ستانسلافسكي إلى مايرخولد وبوبوف وفاختانكوف ولا غروتوفسكي ولا مسرح الشمس ولا أريان منوشكين ولا التجريد والتكعيب ولا السيرلة ولا فقريات ظهور الفوضويين ولا غيرهم. حين بقي حاماتي جوالاً في رأسه ، بسبب الصراع العنيف الخالي من المعنى في رأسه ، أمام عالم يتفتح فيه المواطنون ، الواحد على الآخر في بوتقة خيميائية طالعة من رحم العالم . اذاك ، وجد الرجل العقلاني فينا يجري شيئاً من الشهوانية غير المستحبة . هكذا غادرها ، كمن يغادر أخوية .

وجد السوري القومي الإجتماعي في فكره مصباح نيوتن ، حيث قرعت كل الأجراس دفعة واحدة في المعسكرات الممتلئة بندى لم تبخره الشمس . (معسكر الأعداء الأعزاء ) . لم يلطخ نفسه ولا روحه بمخ عظام صور امتصه ضوء القمر منذ قذف التاريخ اليسا ككرة صغيرة فوق ظهر الثور الكبير .

راوح الرجل أمام فكرة البحث عن المسرح في اللبدة ، لا في ما مهرب منه ، في توازن القوى بالأحرى . إذاك ، أدرك أنه قدم للمسرح طعاماً لا يشبع وللفكر ما لايشبع الفكر وللسياسة مالا يشبع السياسة . تخاصر في وعي انساني متباطئ أمام النقلات العظيمة في العالم . وأمام الوعي المتباطئ أضحى بلسان كالمنجل، بعد أن تراجعت قواه عن تقديم كل باعث على الدهشة . ثمة تفاصيل ضائعة في حياة حاماتي من ضياعه في قطعه الهجائية ما استوقفه عند المهجيين عند أدنى الدرجات .لم أعرف أنه هاجر إلى باريس إلا ظهرت الهجرة حجراً في نعيه ، المرمي على أرض البلاد كزهر نرد . اختفى كما إختفت نصوصه. نصوصه نادرة. سنونوة واحدة لا تصنع ربيعاً، نصاً واحداً لا يصنع مسرحاً، ما دام المسرحيون جاهروا بأنه إن كتب كتب مجدلون فقط لا غير . لمَّا أن المسرح مهنة وشغف. هكذا لم يحسب ككاتب مسرح كما حسب عصام محفوظ وأسامة العارف ، لأن المسرح عالم لا جوانب .

” مجدلون ” وعله، على ما ظن على الدوام . نصوصه الأخرى لا تقوم على خدمة المسرح من اثارة الجدل أو المخيلة . نصوص اجسام سماوية كما رآها ، وهي تقطع رأس الحرية لانتاج مادة مندفعة إلى ترجمة ايديولوجياه في المسرح. اهداني نصوصاً لا تحيا ، لأنها تموت في قراءتها باكتشاف أن كتابتها على بلادة في احيان وهوجاء في احيان .نصوص يموت غناؤها كما يموت عصفور بيوم ولادته. نصوص لا تدع الأحلام تقفز فوق التلال. نصوص تترك الخيالات في مطرات الخيال. نصوص تكتب بالأزاميل لا بالأقلام ، بعدأن راوحت في الأيديولوجيا ” الشامية” أو أيديولوجيا بلاد الشام المجبولة بسير الآلهة. ” مردو البابلي” واحد من النصوص هذه. نص مؤرخ بالخامس من كانون الأول من العام ١٩٧٤، سعره عشر ليرات لبنانية. نص مطبوع في مطابع قدموس الجديدة بفرن الشباك.نص يدور بين شولكي الملك وملكي الحارس العظيم في بابل قبيل ” السبي الأول” كما جاء على الصفحة الأولى. شغل على الأسطورة، زاد من زاد السوريين القوميين الواسع، نصاً لم يدرك طريق الوصول إلى نفسه . نص شبح لنص مجدلون . النصوص الأشباح عند هنري حاماتي كثيرة. ” هؤلاء الطلبة” نص شبح ( ١٩٧٠).”ذات أصيل” ( قصة وسيناريو وحوار / ١٩٧١) . نصوص لا تنفجر بين الأيدي ولا في الصالات . نصوص ثقيلة لاتطفو في فضاء . نصوص لم يستطع تحقيقها وهو يظن أنه حقق فيها أكثر الأسطر جمالاً .

” مجدلون ” طيف نص ملقى على الطريق. لا تعود العظام إلى التراب ، لأنها بالتراب أصلاً. مجدلون وردة ميتة بكف هنري حاماتي وشجرة ورد في مسيرة محترف بيروت للمسرح. لأن حاماتي نافذة مطلة على السياسة أكثر من مجالات الحياة الأخرى. لن تستغرق سيرته سطوراً طويلة . إذ أنه فكر أكثر مما انقاد إلى الفنون العظيمة . كتب في الشعر(إلى الفقر/ ١٩٦٠) . عنوان لا يملك الديوان الأجزاء الصغرى من السحر الأعظم للشعر . كما كتب بالمسرح والسياسة. . المسرح عند هنري حاماتي سمكة لمعت على سريره ذات مساء. فات الرجل أن يطعم سمكته كل جبال المسرح الهادئة والصاخبة . هكذا عبرت كما يعبر ذئب غابة . وهكذا عبر . عبوره اقامات وهجرات. لأنه لم يدرك أن الدخول في الأشياء يفترض أن يجلس المرء على الطريق لا على الحجارة .